بقلم : عمرو صابح
الضابط الحر "يوسف صديق " لعب دوراً هاماً ومحورياً فى
فجر يوم 23 يوليو 1952 ، ولكن الشيوعيون وخصوم جمال عبد الناصر حاولوا التضخيم من
دوره ، بل ووصل الأمر ببعضهم لمحاولة الإيحاء بأنه لولاه ما كانت ثورة 23 يوليو
أصلاً ، وذلك لكى يتاجروا بمواقفه السياسية فيما بعد ، والتى انحاز فيها للفريق
المناصر لجانب اللواء"محمد نجيب" مطالباً بإقامة انتخابات فورية بحجة
الديمقراطية.
فقالوا أنه أول من أقتحم مبنى قيادة القوات المسلحة لخروجه مبكراً
ساعة عن موعده، وأنه قابل جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر بالملابس المدنية، لذا
قامت قواته بالقبض عليهما ثم أُطلق سراحهما عندما تعرف عليهما يوسف صديق، فذهبا
لمنزليهما واستبدلا زيهما المدنى بالزى العسكرى، وعادا بعدما كان "يوسف
صديق" وقواته قد قاموا بالاستيلاء على قيادة القوات المسلحة.
تلك الرواية شائعة جداً ، واستغلها خصوم جمال عبد الناصر طويلاً
لمهاجمته فى محاولة بلهاء للانتقاص من زعامته.
فى عام 1977 وخلال الاحتفال بذكرى مرور ربع قرن على قيام ثورة 23
يوليو ، قام الأستاذ حمدى لطفى المراسل العسكري لدار الهلال ، والذي كان يوصف بأنه
عميد الصحفيين المصريين المتخصصين في الشؤون العسكرية بإصدار كتاب وثائقى عن ثورة
23 يوليو 1952 ، يضم مجموعة من شهادات الضباط الأحرار عن أدوارهم فى الثورة ، من
ضمن تلك الشهادات ، توجد شهادة المرحوم يوسف صديق ما بين صفحتى 110 و 125 من صفحات
الكتاب.
سجل الأستاذ حمدى لطفى تلك الشهادة للمرحوم يوسف صديق بين عامى
1970 و 1971 ، ولم يسمح له المرحوم يوسف صديق بنشر تلك الشهادة إلا فى يوليو 1972
، خلال الاحتفال بالعيد العشرين لقيام ثورة 23 يوليو بعد وفاة الرئيس جمال عبد
الناصر بعامين ، ثم أعاد الأستاذ حمدى لطفى نشرها فى كتابه " ثوار يوليو ..
الوجه الأخر " الصادر فى يوليو 1977.
فى تلك الشهادة الهامة والتى تمثل حقيقة دور يوسف صديق فى ليلة 23
يوليو 1952 .
يقول يوسف صديق ان جمال عبد الناصر هو مؤسس تنظيم الضباط الأحرار
وقائد الثورة وواضع خطتها ، وان جمال عبد الناصر زاره يوم 21 يوليو 1952 ، ليبلغه
انه خلال ساعات سوف يحدد له ساعة الصفر للتحرك بقواته ، ويعترف يوسف صديق انه لم
يتحرك مبكراً فى ليلة الثورة ، بل تحرك وفقاً للموعد الذى حدده له جمال عبد الناصر
، وكان اليوزباشي زغلول عبد الرحمن هو رسول جمال عبد الناصر لصديق لإبلاغه بساعة
الصفر.
ويواصل يوسف صديق سرد ذكرياته عما جرى فى الساعات الأولى للثورة
فيقول ان قواته قبضت على جمال عبد الناصر فى منطقة الكوربة بمصر الجديدة بينما هى
تنتظر وفقاً للخطة باقى القوات التى ستهاجم معها مقر قيادة الجيش ، وان سبب إلقاء
قواته للقبض على جمال عبد الناصر انه كان يرتدى ملابسه العسكرية ورتبته بكباشي ،
وكانت تعليمات جمال عبد الناصر لكل القوات المشاركة فى الثورة هى إلقاء القبض على
كل الضباط من رتبة بكباشى فيما فوق .
ويقول يوسف صديق ان جمال عبد الناصر شرح له ان خطة الثورة قد
انكشفت للملك ، وان هناك اجتماعاً الآن بمقر قيادة الجيش لإجهاض الثورة برئاسة
حسين فريد باشا رئيس أركان حرب الجيش المصرى ، وان جمال عبد الناصر أصدر أوامره
ليوسف صديق وقواته بالتقدم واقتحام مقر قيادة الجيش ، وسار عبد الناصر بسيارته
الأوستن أمام قوات يوسف صديق حتى مسافة كيلومترين من مقر قيادة الجيش حيث اقتحمت
قوات الثورة مقر قيادة الجيش ، وألقت القبض على رئيس الأركان وقائد الطيران وكبار
ضباط الجيش المصرى ، وأصدر جمال عبد الناصر تعليماته ليوسف صديق بحبسهم فى مبنى
الكلية الحربية المواجه لمقر قيادة الجيش.
هذه هى شهادة المرحوم يوسف صديق التى أدلى بها وتم نشرها للمرة
الأولى فى عام 1972 خلال حياته ، ثم أعيد نشرها فى الكتاب الوثائقى عن ثورة 23
يوليو 1952 بمناسبة يوبيلها الفضي فى عام 1977، والأستاذ حمدى لطفى الذى سجل شهادة
المرحوم يوسف صديق ليس ناصرياً ، بل له انتقادات حادة لنظام حكم الرئيس جمال عبد
الناصر ، ولكنه نشر الحقيقة كما سمعها من صاحبها.
ولكن المحبون للمرحوم يوسف صديق يصرون على اعتماد كتاب "
أوراق يوسف صديق " الصادر فى عام 1999 ، كمذكرات رسمية للمرحوم " يوسف
صديق " ، ويرفضون الشهادات والأحاديث الصحفية التى أدلى بها " يوسف صديق
" خلال حياته ،والتى تحدث فيها عن دوره فى ثورة 23 يوليو 1952 ، وتصيبهم العصبية
البالغة عند نشر شهادات يوسف صديق الموجودة خارج مذكراته المعتمدة لديهم.
لا بأس .. فلنقرأ معاً كتاب " أوراق يوسف صديق ".
صدر كتاب " أوراق يوسف صديق " فى عام 1999 عن سلسلة
تاريخ المصريين ، العدد 136 ، و قام د. عبد العظيم رمضان بإعداده وتقديمه وتحريره.
يتكون الكتاب من 8 فصول ، وعدد صفحاته يتجاوز الثلاثمائة صفحة.
ما كتبه المرحوم يوسف صديق فعلاً فى الكتاب ، هو الفصل الثانى
وعنوانه " ليله عمرى " والمنشورعلى الصفحات من صفحة 47 حتى صفحة 121،
والفصل الثامن الذى يضم مختارات من أشعاره ، والمنشور على الصفحات من صفحة 263 حتى
صفحة 289 .
باقى فصول الكتاب هى مجموعة من الشهادات والآراء والمقالات
والحوارات الصحفية حول يوسف صديق ودوره التاريخى ومواقفه السياسية.
لذا فما يعنينا فى الكتاب هو الفصل الثانى منه ، الذى يروى فيه
يوسف صديق دوره فى ثورة 23 يوليو 1952 .
والآن لنقرأ معاً أهم ما جاء فى شهادة البطل الراحل " يوسف
صديق ".
- فى صفحة 86 كتب المرحوم يوسف صديق:
ان الضابط وحيد رمضان هو من قام بضمه لتنظيم الضباط الأحرار فى
أكتوبر 1951..
- فى صفحة 87 كتب صديق:
انه سأل الضابط وحيد رمضان عن قيادات الضباط الأحرار ، فأخبره ان
يقابل البكباشى جمال عبد الناصر المدرس بكلية أركان الحرب ، ويضيف صديق انه عند
مقابلة عبد الناصر أخذ يسأله عن باقى قيادات التنظيم ، ولكن عبد الناصر أخذ يسوف
فى الرد ، ولما قال له صديق انه أقدم منهم فى الرتبة ويحق له معرفتهم ، أبلغه عبد
الناصر ان أقدم ضابط هو اللواء محمد نجيب ، يقول صديق انه أحس بالراحة عند علمه
بوجود نجيب لسمعته الطيبة بين الضباط ، ولأنه جاره فى السكن أيضاً.
- فى صفحة 88 كتب يوسف صديق:
انه قابل اللواء محمد نجيب وأبلغه بانضمامه للضباط الأحرار ، ويضيف
انه لاحظ عند سؤاله لمحمد نجيب عن أى شئ يخص تنظيم الضباط الأحرار صغيراً كان هذا
الشئ أو كبيراً ، ان محمد نجيب يحيله إلى جمال عبد الناصر.
- فى صفحة 96 يقول المرحوم يوسف صديق
ان جمال عبد الناصر يضع كل خيوط التنظيم فى يده وانه الدينمو
-مكتوبة هكذا بالكتاب-الذى يحرك التنظيم.
- فى صفحة 97 يقول صديق:
انه لم يجد غضاضة فى كون جمال عبد الناصر هو القائد مادام هناك
اتفاق على الخط الوطنى للتنظيم.
- فى صفحة 100 كتب صديق:
ان الضابط زغلول عبد الرحمن رسول القيادة " عبد الناصر "
حضر له فى معسكر الهايكستب ومعه بطيخه كبيرة ، وأبلغه ان التحرك الليلة وساعة
الصفر هى منتصف الليل ، وكلمة السر للعملية هى " نصر ".
- فى صفحة 105 كتب صديق:
انه لم يكن مشتركاً فى وضع الخطة العامة للثورة ، والتى وضعتها
لجنة على رأسها زكريا محيى الدين ، وان السرية قضت بألا يعلم أحد إلا بدوره فقط فى
الخطة ، ولكن اعطاءه كلمة السر معناه ان قواته سيتاح لها اجتياز كل القوات
الموالية للأحرار والتى ستحاصر القوات المعادية لهم.
- فى صفحة 107 كتب صديق :
انه بعد وصول قواته لمصر الجديدة ، وعندما لم يجد قوات أخرى ، لم
يعرف ماذا يفعل ، وأخذ يفكر فى كيفية الوصول لجمال عبد الناصر لكى يعرف منه ما هى
الخطوة التالية.
فى صفحة 109 كتب صديق:
ان رجاله ألقوا القبض على جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر ،وهما
يرتديان ملابس مدنية " قمصان بيضاء وبنطلونات " ، ويصف رؤيته لجمال عبد
الناصر بأنه رأى الله ، الذى تجلت قدرته فى أن صديق كان يبحث عن جمال عبد الناصر
ويفكر فى السبيل للوصول إليه حتى كاد ييأس ، ثم يجده فجأة أسير لرجاله ، ويضيف
صديق ان جمال عبد الناصر بدد له الظلام وألقى بالضوء على ما يتمناه.
- فى صفحة 110 كتب يوسف صديق :
ان جمال عبد الناصر أخبره ان الحركة قد اكتشفها الملك ، وان هناك
اجتماع لكبار قيادات الجيش فى مقر القيادة الآن لضربها ، وانه لا بد من احتلال
القيادة.
وكتب يوسف صديق نصاً فى نفس الصفحة:
وكان قد حضر مع صديقه فى عربته الخاصة (عربة جمال) وأسرعت إلى
عربتى فى مقدمة القوة ،وذهبا هما ليستقلا عربتهما وسبقانى إلى أرض المعركة.
هذا هو أهم ما ورد فى شهادة المرحوم يوسف صديق فى أوراقه ، وتلك
الشهادة لصديق ذاته تؤكد ان جمال عبد الناصر هو قائد ومؤسس تنظيم الضباط الأحرار ،
ان يوسف صديق له دور محدد فى الخطة ، ولا علم له بالخطة الكاملة للثورة ، ان يوسف
صديق لم يتحرك ساعة مبكراً عن موعده ، بل تحرك وفقاً لتعليمات جمال عبد الناصر ، ان
دور يوسف صديق فى خطة الثورة لم يكن اقتحام واحتلال قيادة الجيش ، وانه لم يكن
يعلم شيئاً عما يجرى لولا مقابلته لجمال عبد الناصر الذى أبلغه بعلم الملك بتحرك
الجيش ، ان جمال عبد الناصر أبلغه بقيادة قواته لاحتلال القيادة ، ان جمال عبد
الناصر وعبد الحكيم عامر بنص كلمات يوسف صديق فى كتابه ، استقلا سيارة عبد الناصر
وسبقا يوسف صديق إلى أرض المعركة.
تبقى قضية ارتداء جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر للملابس
المدنية خلال لقاء يوسف صديق بهما ، والتى تتضارب شهادة يوسف صديق حولها.
سنعود لكتاب " أوراق يوسف صديق " نفسه لمعرفة الحقيقة.
فى الفصل الثالث من كتاب " أوراق يوسف صديق " يوجد مقال
للواء جمال حماد ، أحد الضباط الأحرار ، والمعروف بمواقفه المضادة للرئيس جمال عبد
الناصر.
مقال اللواء جمال حماد بعنوان " لماذا التشويه فى أحداث
الثورة؟" ، وهو منشور على الصفحات من صفحة 129 حتى صفحة 136 ، فى المقال فند
اللواء جمال حماد أكذوبة ارتداء ناصر وعامر للملابس المدنية فى يوم الثورة ، وليس
ذلك فقط بل أورد شهادة الملازم ثان " محمد متولى غنيم " ، الذى ألقى
القبض على جمال عبد الناصر ، والذى قال لجمال حماد انه فعل ذلك لأن عبد الناصر كان
برتبة بكباشى " مقدم " ، والتعليمات التى أصدرها له يوسف صديق كانت
إلقاء القبض على أى ضابط برتبة بكباشى أو أعلى ، ويضيف الملازم ثان "محمد
متولى غنيم" انه صرف "عبد الحكيم عامر" الذى كان برتبة صاغ "
رائد "، لأن التعليمات لديه كانت لا تخص رتبته ، ويقول غنيم لو كان جمال عبد
الناصر يرتدى ملابس مدنية لما أثار اهتمامى لكى أقبض عليه.
ولم يكتف اللواء جمال حماد بذلك ، بل أورد شهادات ضباط طابور كتيبة
مدافع الماكينة الأولى ، التى كان يقودها البطل يوسف صديق ، وقد أجمعوا ان جمال
عبد الناصر وعبد الحكيم عامر كان يرتديان زيهما العسكرى.
يقول اللواء جمال حماد فى مقاله ، انه شاهد بعينيه جمال عبد الناصر
وعبد الحكيم عامر بملابسهما العسكرية عند بوابة مبنى رئاسة الجيش بكوبرى القبة ،
بعد انتهاء عملية اقتحام القيادة والقبض على الفريق حسين فريد رئيس الأركان،
وشاهدهما معه كل الضباط الموجودين وقتها عند مبنى رئاسة الجيش، وانه يستحيل عليهما
أن يلتقيا يوسف صديق بالملابس المدنية ، ثم يذهبان لتغييرها بملابسهما العسكرية
خلال مدة لم تتجاوز نصف الساعة !!
الملفت فى كل تلك الشهادات انها صدرت بعد وفاة كلاً من الرئيس جمال
عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر.
كما أن تلك الشهادات منشورة فى نفس الكتاب الذى يحمل اسم "
أوراق يوسف صديق ".
صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب مؤخراً كتاب " يوسف صديق
.. ودوره فى ثورة 23 يوليو 1952 " للدكتورة منى مالك ، ويضم الكتاب بين دفتيه
رسالة ماجستير للمؤلفة المتخصصة فى التاريخ الحديث والمعاصر عن الضابط الحر الراحل
يوسف صديق ودوره التاريخى فى الثورة.
فى الصفحات 187 و188 و189 من الكتاب ، رصدت المؤلفة الاختلافات
والتناقضات بين المذكرات المنشورة للمرحوم يوسف صديق تحت عنوان " أوراق يوسف
صديق " والتى حررها ونشرها د. عبد العظيم رمضان فى عام 1999 ، وبين مذكرات
يوسف صديق المنشورة فى مجلة " أخر ساعة " فى عام 1965 ، وبين مذكرات
يوسف صديق غير المنشورة والمحفوظة فى لجنة الوثائق التاريخية لتأريخ ثورة 23 يوليو
بالقوات المسلحة ، والتى أطلع عليها الكاتب والمؤرخ الراحل لمعى المطيعي ، والمؤرخ
الدكتور فطين أحمد فريد ، وهى نسخة مكتوبة بخط يد الراحل يوسف صديق وتخلو من واقعة
ارتداء البكباشي جمال عبد الناصر والصاغ عبد الحكيم عامر لملابس مدنية فى ليلة
ثورة 23 يوليو 1952 ، وقد رجح الجميع صحة المذكرات المكتوبة بخط يد البطل الراحل
يوسف صديق عن غيرها من المذكرات الأخرى التى حملت اسمه.
المرحوم يوسف صديق لعب دوراً هاما فى نجاح الثورة ، ولكنه ليس سبب
نجاحها ، بل هو فرد من ضمن 90 ضابط حر تحركوا فى يوم 23 يوليو 1952 ، والانتقاص من
دوره غير مقبول ، والتهويل فى دوره ، والايحاء بأنه الثورة ، ولا ثورة إلا بدوره ،
تزييف للوقائع ولمجريات التاريخ.
0 تعليقات