فرقد الحسيني القزويني
في سنوات الدراسة الأكاديمية كانت مادة التاريخ المخصصة للفترة
التي تسبق الاسلام تفرد فصلا للمناذرة والغساسنة حتى ترسخت في أذهان الطلبة
المعلومة التي تقول ان المناذرة دولة عربية تتبع الفرس والغساسنة دولة عربية تتبع
الروم/ وتلازم اسم أحداهما بالأخرى.
وفي هذا البحث/ان شاء الله تعالى نحاول وبقدر المستطاع أن نكشف عن
سبب هذه الملازمة وحقيقة التبعية:
قال المؤرخ حمزة الأصفهاني وغيره من المؤرخين: أن ملكًا من ملوك
الروم اسمه نسطورس هو الذي ملك جفنة جد ملوك الغساسنة على عرب الشام.
وذهب بعض أهل الأخبار إلى أن القيصر الذي عين جفنة على عرب الشام
الذين رحلوا من اليمن قبل انهيار سد مأرب وبعده والذي بيناه سابقا هو
"أنسطاسيوس الأول الذي حكم من سنة ٤٩١م حتى سنة ٥١٨ للميلاد.
اقول/ فلاڤيوس أنـَستاسيوس الأول أو أنسطاس :كان إمبراطوراً
بيزنطياً استلم الحكم بعد زينون عام ٤٩١ م. ولد أنسطاس في ديراخيوم مدينة على شاطئ
الادرياتيك شرقاً سنة ٤٣١ م وتقلب في المناصب إلى أن أصبح رئيس الحرس المكلف
بملازمة الصمت في القصر وكان متقلباً في أرائه ما زانته فضيلة إلا عابته رذيلة
وبعد وفاة زينون حاول أخو زينون واسمه لونجين أن يأخذ الملك فقاومه رجال الندوة
وأريادنى أرملة زينون والشعب وآثروا عليه أنسطاس سنة ٤٩١ م وتزوجت أريادنى به بعد
وفاة زوجها زينون بأربعين يوما .
كان انسطاس ورعاً يبكر إلى الكنيسة فلا يخرج منها إلا بعد انصراف
الشعب ويكثر من الأصوام والصدقات ولذلك بالغ الشعب في الاحتفاء بتمليكه والهتاف
باسمه عند ظهوره لأول مرة .
نشبت الحرب بينه وبين قباذ الأول ملك الفرس حيث استولى قباذ على
أرمينيا وما بين النهرين واستحواذه على مدينة آمد. ودامت الحرب ثلاث سنين انتهت
بابرام صلح بينهما سنة ٥٠٦ م.
في هذه الفترة كان ملك الحيرة الأسود بن المنذر بن النعمان/النعمان
صاحب يوم حليمة/ بن امرؤ القيس وبعد سجنه من قبل الفرس استلم الحكم اخوه المنذر بن
المنذر بن النعمان.
وبطبيعة الحال هذا التاريخ وهمي شبحي فكيف تأسست دولة الغساسنة
وأصبح ملكها الاول/جفنة بن عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء الأزدي/ في عهد
انسطاس/الذي عاصر قوباذ الاول/ وكانت الحيرة تحت حكم الاسود بن المنذر بن النعمان وأخوه.
البحث عن الحقيقة/نبذة مختصرة:
فيما مضى من البحث قلنا ان هجرات القبائل الأزدية ومن ضمنهم
الغساسنة رحلوا من جنوب الجزيرة العربية في بداية القرن الأول للميلاد قبل وبعد
سيل العرم واتجهوا إلى وجهات شتى.
اتجه قسم من الازد شمالا ونزلوا قرب عين ماء تسمى غسان وبها عرفوا
بالغساسنة. ثم واصلوا هجرتهم نحو الشام فاستقروا في الأردن وجنوبي سورية في بصرى
التي كانت تقع ضمن سلطان قبيلة سليح الذين هم من الضجاعمة التي ترجع الى قضاعة.
وكان الروم قد ولوا آل سليح القضاعيين على تلك البلاد وأعطوهم
ألقابا مثل فيلارخوس:اي أمير: وأول من حصل على هذا اللقب هو جدهم ضجعم الذي أعطي
هذا اللقب في عهد تيتوس الذي حكم من ٧٩ إلى ٨١ ميلادي.
وكانت ديار قضاعة تقع بين جبل الشيخ وجبال فلسطين والبلقاء والغور
والعقبة وجبال الكرك.
فرض الضجاعمة إتاوات على الغساسنة بعد نزولهم في ديارهم مما أثار
فيما بعد خلافات أدت إلى حدوث معارك انتهت لصالح الغساسنة وتولوا حكم ماكانت
تتولاه سليح.
ولم يجل الغساسنة سليحا بل أبقوهم في ديارهم وظلت بعض منشآتهم حية
حينا من الدهر لاسيما دير أيوب أحد أشهر أسواق العرب المهمة ضمن شبكة التجارة
العربية وظل هذا السوق قائما فترة في الإسلام.
اتخذ الغساسنة فيما بعد من بصرى عاصمة لهم قبل تحويل عاصمتهم لاحقا
إلى الجابية بمرتفعات الجولان وسرعان ما امتد حكمهم ليشمل كل الأردن والجولان
وحوران وغوطة دمشق وجنوب سوريا ووصلوا في غزواتهم حتى خيبر.
وجد الرومان في الغساسنة حلفاء أقوياء يمكن الاعتماد عليهم في
الصراع ضد الفرس الساسانيين الذين دأبوا على تهديد الولايات الرومانية الشرقية
لذلك زادوا من صلاحيات الغساسنة ليتمكنوا من تكوين دولة حدودية لكن ضمن نطاق
الدولة الرومانية .
وبعد ظهور الإسلام وعندما غادر الملك الغساني جبلة الشام الى
بيزنطة كان معه ٣٠٠٠٠ ألف غساني فاحتلوا مكانة عالية في الدولة حتى تبوأ نقفور
منصب الإمبراطور سنة ٨٠٢ إلى ٨١١م. ثم حكم ابنه بعده ونقفور كان أول إمبراطور
بيزنطي يرفض دفع الجزية السنوية لهارون العباسي.
تنتسب العديد من القبائل والعوائل العربية المسيحية المعاصرة في
سورية والأردن ولبنان وفلسطين إلى الغساسنة وأكبر تجمع لمن تبقى على ديانة ومعتقد
الغساسنة هو في مدينة خبب وبعض بلدات محافظة درعا في سوريا وفي مدينتي الكرك
ومادبا في الأردن وكذلك مدينة زحلة في لبنان بعد أن انتقلوا من موطنهم في الأردن
جنوب سوريا.
.......................
ملوك الغساسنة
.....................
امتد حكم الغساسنة من عام ٢٢٠م إلى عام ٦٣٨ ميلادي أي أربعمائة
وثماني عشرة سنة.
أول ملوكهم هو جفنة بن عمرو الذي حكم ما بين ٢٢٠م الى ٢٦٥م.
يطلق بعضهم على ملوك الغساسنة: آل جفنة نسبة إلى المؤسس هذه
المملكة.
...............................
اقول بين هذا التاريخ وبين تاريخ بعض المؤرخين العرب
الذي ذكرناه أعلاه زمن شبحي قوامه :ما يقرب من ٢٩٠ سنة.
.................................
الملك الثاني: عمرو بن جفنة: وهو الملك الشاعر النصراني الذي حكم
من سنة ٢٦٥م إلى سنة ٢٧٠م وفي عهده حدثت معارك بينه وبين بيزنطه أدت إلى تثبيت
الملك.
المعركة الأولى: معركة بالعة
تقول الاختبار: في أحد الأيام ذهب عمرو بن جفنة إلى أرض اسمها
بالعة تحكمها قبيلة بنو سليح هذه المنطقة تقع في البلقاء والبلقاء هو الاسم القديم
للأردن.
وكان حارثة الضجعمي القضاعي ملك بالعة خرجا من أرضه مسافراً إلى
شبه جزيرة العرب.
وصلت هذه الأخبار إلى قيصر الروم دقيوس
........................
هامش: ترايانوس ديكيوس: والوارد ذكره في قصة أصحاب الكهف وبعض
النصوص العربية دقیانوس حكم من ٢٠١م إلى ٢٥١ م
الإمبراطور الروماني شارك حكمه مع ابنه في السنة الأخيرة حتى قتلا
معا معركة أبريتاس.
وهنا زمن شبحي آخر قوامه ما يقرب من ١٦ سنة تقريبا. هذا أولا
:ثانيا: اذا ثبت أن هذا القيصر هو صاحب الفتية الذين امنوا بربهم فيكون ظهورهم القرن
الخامس الميلادي فإذا ما أخذنا بالاطروحه التي تقول ان فتح مكة ٥٦٩م وهي سنة وفاة
الحارث الأعرج الغساني فيكون ظهورهم في حياة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم
.........................................
فقرر الغدر بعمرو عن طريق غزو بالعة سراً لقتله وتدمير ملكه فجمع
الروم المتواجدين في الأردن وبعث الى قبيلة بني سليح الذين هم حلفاءه كي يُساعدوه
على محاربة الغساسنة.
فقالت فرسان بني سليح: أنغدرُ بإخواننا وقد لجئوا إلينا ولم نرى
منهم إلا خيراً ؟
فقال لهم رجل منهم: إنكم بين أمرين: إما قيصر وإما غسان فكونوا
بأجسامكم مع قيصر وبقلوبكم مع غسان.
فقرروا أن يساعدوا الروم في حربهم.
علمت غسان بذلك فتجهزوا لها وفي يوم القِتال التقى الجمعان وكان
بنو سليح قد اتفقوا مع بعضهم أنهم لن يقاتلوا جيداً مع الروم أو يقتلون أحداً من
غسان وأن يساعدوا الغساسنة على الفوز بطريقة غير مباشرة وفي هذا مصلحتهم إذ لا
يغدرون بإخوانهم العرب ولا يدمرون علاقتهم الجيدة مع الروم وكان الغساسنة على علمٍ
بهذا الاتفاق.
دارت المعركة انهزم الروم بعد ان وقعت فيهم مقتلة عظيمة .
...........................
أقول: المتأمل في هذا الخبر يجد أن هناك اتفاق بين سليح وغسان على
حرب الروم لسبب ديني لكون بيزنطه في ذلك الوقت كانت وثنية وهؤلاء نصارى.
.....................
بعد هذه المعركة نشبت معركة اخرى تسمى:
ثانيا : معركة مرج الظباء.
التقى الغساسنة مع الروم في مرج الظباء وفيها كان الروم أكثر من ذي
قبل بينما كان بنو جفنة قلة ومن معهم قليل أيضا ولكن جيش الغساسنة صبروا على قلتهم
واقتتلوا مع الروم قتالاً شديداً .
تقول الأخبار: لما رأى عمرو بن جفنة قلة قومه وازدياد الروم
وتكالبهم عليهم وبينما كانت غسان في طريقها للهزيمة في المعركة قام فارس من كنانة
يسمى زيد بن نمر الكناني مناديا بالعرب الذين كانوا مع الروم يقاتلون : والله تأنف
النفوس من هذا أما ترون الروم يقتلون غسان ويهدمون بني قحطان ؟ ونحن نُسَر بذلك
ونعين عليهم.
ونادى عمرو بن جفنة : يا بني جفنة أطيعوني في أمرٍ أُشِيرُ به
عليكم : لقد فشت فيكم الجراح وتكالبت العلوج عليكم ووالله لأمررن السيف على ودجي
قبل أن أولي ظهري أعجمياً.
فقال له قومه : افعل ما ترى.
فأرسل عمرو رسالة إلى قيصر الروم الذي كان يقود الجيش يطلب منه
الهدنة فرد عليه القيصر: لا صلح حتى ترمون سلاحكم وتسلموا أنفسكم لنا.
فلما رجع الجواب: أخذتهم عزة النفس والكرامة وزاد غضبهم فنهضوا
للقتال واشتد أمرهم على الروم.
فأرسل لهم القيصر: احبسوا أسلحتكم وأسمعوا وأطيعوا.
فأرسل عمرو بن جفنة إلى الروم جذع بن سنان الغساني ليتفاوض معهم
ويرد عليهم.
فقال جذع للقيصر : نحن قوم لم تجري علينا طاعة لأحد غير تبع وكانت
علينا وعليكم ولكن أرى ما أحببت غير هذين : يقصد بـهذين /السمع/ والطاعة.
اي لا نسمع لكم ولا نطيع نحن احرار مستقلون.
فقال له قيصر الروم: أعطوني ديناراً جزيةً عن كل واحد منكم. فتصالح
الغساسنة مع القيصر على أن يعطوه ديناراً عن كل شخص منهم .
في السنة التي بعدها كانت ديار الغساسنة قد جدبت فاضطرت أن ترتحل إلى
أرض أخرى تنبت وتزرع فذهبوا في الشتاء إلى وادٍ يُقال له المحفف فمضى الشتاء عليهم
هناك بصعوبة شديدة. وهم على هذا الحال أرسل إليهم القيصر رسولا من قبيلة بني سليح
من عشيرة الضجاعم اسمه وسيط بن عوف الضجعمي ومعه ١٠٠ رجل رومي من روم الشام لجمع
الإتاوة وأمر القيصر وسيط بن عوف أن يكون غليظاً فظاً ومُسيئاً لهم.
عمل الرسول الضجعمي بما أوصاه الملك وبعد أن انتهوا من جمع الجزية
ولم يبقَ إلا بيت جذع بن سنان الغساني وهو فارس من فرسان غسان فذهب وسيط الضجعمي
في رجال من الروم إليه مطالبا بالضريبة: فرد عليه جذع: يا وسيط أما ترى ما نحن فيه
من الهُزَالُ وما بينك وبين الخصب إلا انسلاخ هذا الشهر فاصبر. فرد عليه وسيط: ما
أنا بفاعل ووالله لئن لم تُعجلنَّ لأخذنَّ بيد امرأتك.
فقال جذع: عليَّ أبي وابنائي وبني أخي أودي عنهم: يقصد أنّه يجب أن
يدفع المال نيابة عن والده وأبناء أخيه إضافةً إلى نفسه وأولاده.
فنادى على والده وأبناء أخيه فظن وسيط ومن معه أنّه ناداهم كي
يدفعوا جزيتهم أيضا
ثم تركهم جذع ودخل بيته فأخذ سيفه ونادى وسيطا إلى داخل داره فلما
دخل وثب عليه من خلفه فأخذه إلى خارج البيت وقطع رأسه أمام الروم وأخذ رأسه ورماه
اليهم.
ثم نادى أولاده وأولاد أخيه فقال لهم:عليكم بأولئك العلوج فتواثبوا
عليهم فقتلوهم جميعا. وأخذوا ما معهم من المال الذي جمعوه من الغساسنة وهو يقول:
لا يردُّ الشر إلا الشرَّ فأصبحت هذه المقولة مثلاً مشهورا بين العرب.
ثم نادى جذع على الناس ليأتوا ويأخذ كل واحد منهم ماله الذي أعطاه
للروم.
بعد ما فعله جذع ثارت ثائرة الروم وقبيلة بني سليح
فبعث عمرو بن جفنة الى ابن عمه الملك حارثة بن ثعلبة العنقاء بن
عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء الأزدي فاتاه مع أبناء أعمامه .
وحارثة العنقاء هذا هو والد الأوس والخزرج الذين أتى من نسلهم
قبيلتي الأوس والخزرج وانضم إلى حارثة بن ثعلبة عدد كبير من الأزد .
ووصلت الأخبار إلى الروم فجمعوا جمعا عظيما فالتقوا في وادي المحفف
واقتتلوا قتالاً شديداً فانهزمت الروم فأرسل قيصر إلى عمرو بن جفنة يطلب الصلح معه
فاتفقوا معه على ما يريدون فأعطاهم ما يريدون.
ومن بعد هذه الحادثة تثبت حكم الغساسنة وقويت شوكتهم وعظم ملك
الغساسنة .
0 تعليقات