ناجى عباس
تم صياغة معاهدة فرساي في خمسة عشر فصلاً و أربعمائة وأربعين مادة
، لتنظم بشكل أساسي كل المسائل الإقليمية والعسكرية، وصور وحجم التعويضات عن
"الأضرار" التي نجمت عن الحرب نتيجة " أخطاء" ما نعتتهم
المعاهدة بالدول المهزومة، وحوت المعاهدة - استناداً على قوانين عصبة الأمم أيضًا
- كل مامن شأنه ضمان أمن فرنسا، بغض النظر عن " قوة الدولة الفرنسية "
مثل السيطرة الكاملة على نهر الراين.
وبموجب المعاهدة الظالمة تلك، باتت فرنسا القوة السياسية والعسكرية
العظمى في أوروبا، بينما فقدت ألمانيا - أو أفقدت - تفوقها النسبي بشكل عام، وذلك
بعد ان خسر الرايخ الألماني حوالي ثلاثة عشر بالمائة من أراضيه أي حوالي 70579
كيلومتر، وحوالي عشرة بالمائة من السكان - 7.3 مليون نسمة - جرى بين ليلة وضحاها
اعتبارهم من رعايا دول أخرى، بالإضافة الى خسارة ألمانيا بموجب تلك المعاهدة كل
مستعمراتها..وهذا كان يعني أن الرايخ الألماني فقد 75 % من خام الحديد و 26% من
إنتاج الفحم. وهي خسائر هائلة، إضافة بالطبع الى إلزام ألمانيا بدفع تعويضات ضخمة
للدول المنتصرة ما أدى في النهاية إلى إضعاف الرايخ الألماني سنوات طويلة.
الأهم من ذلك كله ان الدول المنتصرة أقدمت على وضع حدود جغرافية
جديدة للإمبراطورية الألمانية - أي خسارة وطنية هائلة وليس فقط خسائر اقتصادية -
وتم تثبيت الحدود الجغرافية الجديدة بمعاهدة فرساي، وبموجب ذلك اضطرت ألمانيا إلى
التنازل بشكل مباشر عن العديد من المدن الحدودية الألمانية، خاصة في شرق البلاد. وإجراء
استفتاءات - جرى تزوير اغلبها - بين سكان مناطق أخرى لتخييرهم بين البقاء كمواطنين
ألمان أو التحول إلى مواطنين تابعين للدول الجديدة، وأُجبرت ألمانيا على التنازل
عن جزء كبير من غرب بروسيا ، ومقاطعة بوزن، والمنطقة المحيطة بسولداو وأجزاء من
بوميرانيا الغربية إلى بولندا دون استفتاء، وتم وضع مدينة دانزيج Danzig "تحت حماية عصبة الأمم باعتبارها مدينة
حرة، وأصبحت منطقة ميمل لاند Memelland تحت إدارة الحلفاء، كما جرى ضم منطقة Hultschiner Ländchen إلى تشيكوسلوفاكيا.
من ناحية أخرى أقدمت الأطراف المنتصرة على وضع كل المستعمرات الألمانية
أو الدول التي كانت تحت الانتداب الألماني تحت حماية وإدارة عصبة الأمم التي يسيطر
المنتصرون عليها -
وبنتيجة الاستفتاءات - التي أعلنها المنتصرون - صوّت سكان المناطق
الغنية بالفحم في جنوب شرق سيليزيا العليا لصالح بولندا، وصوت سكان المناطق
الفقيرة بالمواد الخام في شرق بروسيا وبقية سيليزيا العليا بالبقاء في الرايخ. الألماني
.
ونتيجة للتصويت أيضا أصبح شمال شليسفيج جزءًا من الدنمارك، بينما
ظل جنوب شليسفيج مع الرايخ.
أما في غرب ألمانيا فتم ضم الألزاس واللورين مرة أخرى إلى فرنسا،
وضم أوبين، ومورسنت الى بلجيكا بعد استفتاء صوري، وقرر الحلفاء ان تظل منطقة سار
تابعة للجنة حكومية من عصبة الأمم لمدة 15 عاما. كما تم السماح لفرنسا باستغلال
مناجم الفحم لمدة خمسة عشر عامًا، وبعد ذلك إجراء استفتاء لتقرير ما إذا كانت
سارلاند ستظل فرنسية أم يمكن إعادتها الى ألمانيا.
بموجب معاهدة فرساي أيضا ظلت المناطق الواقعة على الضفة اليسرى
لنهر الراين ورؤوس الجسور بالقرب من كولونيا وكوبلنز وماينز محتلة من قبل قوات
الحلفاء لمدة تصل إلى خمسة عشر عامًا. وظل شريط بعرض
كذلك اضطرت لوكسمبورغ إلى مغادرة الاتحاد الجمركي الألماني وفقدت
موقفها المحايد.
وبالطبع احتجت الحكومة الألمانية بعنف على مواد وأحكام المعاهدة
المجحفة تلك، باعتبارها تنتهك الحقوق التاريخية الثابتة للشعب الألماني سواء في
تقرير المصير أو استغلال ثرواته- ومنها المياه - في أراضيه.
لكن في النهاية كان على ألمانيا
قبول المعاهدة المشؤومة تلك- فلم تكن قوتها ولا الظرف الدولي الذي وضعت نفسها تحت
مقصلته يسمح بغير ذلك ووقعت ألمانيا على المعاهدة.
منذ ذلك الحين خسرت ألمانيا للأبد أجزاء واسعة من أراضيها
وثرواتها، وأصبح ملايين الألمان خارج حدود الإمبراطورية الألمانية وتحولوا بين
ليلة وضحاها الى مواطني دول مثل بولندا وتشيكوسلوفاكيا.
هذا ما تفعله معاهدات الإذعان المجحفة حين ترتكب الدول كوارث وطنية
بسبب سوء التقدير ، والتأخر في اتخاذ قرارات مصيرية الحقوق التاريخية للشعوب تحتاج بجانب القوة
العسكرية -لحُسن التقدير السياسي، واتخاذ القرارات السياسية في الوقت الصحيح الحلقة
المقبلة ستكون عن اثر معاهدة فرساي المجحفة في تقييد الجيش الألماني وتداعيات
القيود الاقتصادية والتعويضات.
0 تعليقات