آخر الأخبار

اليعقوبى : اثر الدين فى تحديد الهدف الصحيح والنجاة من الفتن

 






 

محمود جابر

 

التدين كمفهوم ودلالة هو طريقة للتعايش الاجتماعي بين الأفراد والجماعات والارتقاء بالمجتمع ككل، ويلعب دور المرشد الروحى والأخلاقي أو الديني دور مميزا فى المجتمع، ووفقا لجورج سيمل فإن التدين يمثل الشكل الاجتماعي للممارسة الدينية ودوافعها الحيوية للارتقاء بالمجتمع .

 

واليوم نحن أمام نص لأحد المرشدين الدينيين وهو محمد اليعقوبى – محمد موسى اليعقوبى مرجع إسلامي وفقيه شيعى معاصر يعيش فى العراق – وصاحب النص محل الدراسة رجل يهتم بدور الدين فى المجتمع وإصلاح المجتمع اجتماعيا وأخلاقيا، وفق توجهه واعتقاده الدينى، وله فى هذا الخصوص العديد من الأطروحات اجتماعية مهمة ك نحن والغرب، ونحو سياسة نظيفة وغيرها من الدروس التى تتناول الإصلاح الاجتماعي والخلقى .

 

وتعد الأخلاق الركيزة الأساسية فى حياة المجتمعات،لأنها الموجه الأساسي لسلوك الفرد اجتماعيا وتربويا وسياسيا واقتصاديا، وتدفع الإنسان نحو التعايش السلمي مع محيطة الاجتماعي، من الاحترام المتبادل وتبادل المنفعة بين أفراد المجتمع، وتعد لكل مهنة أخلاقها ومرتكزاتها المهنية التى يتبعها العاملون فيها، ونحن هنا نسلط الضوء على مهنة المرشد الاخلاقى الذى تعد أخلاقه أهم جانب فى بناءه النفسي والاجتماعي والتى تنعكس بشكل او بآخر على دوره فى المجتمع، ودوره فى القيام بهذه المهنة، والتزامه المرشد الاخلاقى والديني بهذه المهنة أمر ضروري.

 

وبما أن الله خلق الإنسان من مادة وروح، وجعل له العقل ليدرك طبيعة الأشياء وقدر له كل مقومات الحياة وفق حكمته وإرادته ووفق نظمه الدينية و الاجتماعية والفلسفية، تلك النظم عبارة عن مجموعة من الممارسات العبادية يكتسبها الإنسان لأجل لتحقيق وجوده في هذا الكون، وهذا ما يطلق عليه بالتغذية الروحية والمادية فالإنسان كائن اجتماعي لا يستطيع أن يعيش بمعزل عن الجماعة، فهو في كل مرحلة من عمره يستطيع أن يكيف نفسه مع ذاته ومع الآخرين من حوله، محققا بذلك إشباع رغباته الضرورية والحاجية.

 

فالمجتمع بكل مكوناته يمثل المحيط الذي ينشأ فيه الشخص اجتماعيا وثقافيا وفكريا ودينيا، وبذلك تتحقق التنشئة الاجتماعية الصالحة أيا كان نوعها، ومن خلال نقل المورثات الثقافية من المحيط الفردي إلى المحيط الجماعي، من خلال المرشدين الروحيين أو الفقهاء .

 

 و من أهم ما يتناوله اليعقوبى – كمرشد روحى-  فى نصه أنَّ العلاقة بين علم الاجتماع الديني والظواهر السيكولوجية علاقة طردية، فلا ينفك كل عن الآخر لوجود قواسم مشتركة تساهم في بناء الفكر الإنساني بشكل يحافظ على كينونة المجتمع البشري، ويرسم له طريقه نحو هدفه الذى قال فيه ((لأن الإمام الموعود (عليه السلام) سيقيم دولته في ربوعهم ويتخذ من بلدهم عاصمة له ينطلق منها لإقامة دولته العالمية المباركة ، وهو ما يحتم علينا التمسك بالمنجيات من الفتن وهم العلماء العاملون المخلصون فأنهم ورثة أهل البيت (عليهم السلام) حقاً، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (أيها الناس: شقّوا أمواج الفتن بسُفن النجاة) ، مع الالتزام بالتقوى والتفقه في الدين قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) (ستكون فتن يصبح الرجل فيه مؤمناً ويمسي كافراً، الا من أحياه الله تعالى بالعلم)).

 

اليعقوبى، وكأنه يمثل ماكس فايبر ويعيد نظريته التى تقول أن السلوك الديني المنضبط يحكم النشاط الإنساني والاجتماعي، والاقتصادي، ويوضح للاتباعه ولمتابعيه ولمستمعيه، أن دوائر الدين متسعة جدا ولا تنحصر فى إطار محدد، بل هى تكتسح كل الميادين باعتبار الدين عاملا للرشد والانضباط ومشجعا عليه، وهو من يرسم المستوى البيانى من البدء على النهاية أو الهدف للمعتقد .

 

بدأ الشيخ اليعقوبى نصه وهو خطبة عيد الفطر التى ألقاها فى مكتبه ومصلى العيد يوم الجمعة الموافق 14/5/2021م، الأول من شوال 1442هـ. وكان عنوانها، (الفتن تصقل شخصية المؤمن وتفجّر طاقاته)

 

والفتن أو الفتنة كمصطلح دينى؛ الفتن مفردها فتنة ما يتبين به حال الإنسان من الخير والشر، يقال: فتنت الذهب بالنار، إذا أحرقته بها لتعلم أنه خالص أو مشوب، ومنه: الفتان، وهو الحجر الذي يجرب به الذهب والفضة.

 

واصلها اللغوي يتصل بمعنى الابتلاء والامتحان، (قال الأزهري وغيره : وجماع الفتن: الابتلاء والامتحان والاختبار , واصلها مأخوذ من قولك : فتنت الفضة والذهب إذا أذبتهما بالنار , لتميز ألردي من الجيد)( لسان العرب :ص 3344- مادة فتن).

 

ابتدأ اليعقوبى خطبته الأولى – حيث ان خطبة العيد شرعيا تنقسم إلى خطبة أولى وخطبة ثانية يفصل بينهما سكتة بسيطة أو جلسه فى أقل من دقيقة – مذكرا بالفتن وقد ذكر قوله تعالى : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:2) مشيراً إلى أن الآية الكريمة تكشف عن إحدى السنن الإلهية الجارية في عباده، وهي سنة الابتلاء بالفتن لتمييز الصادق الثابت على الحق من المنافق والكاذب والضعيف الذي يعدل عن الحق الى الباطل بمجرد مروره بصعوبات ومضايقات تكلّفه التضحية بشيء من ماله أو جهده أو منزلته الاجتماعية.

 

إذن اليعقوبى يقول أن الفتن ( الاختبار) يقسم الناس إلى قسمين، قسم صادق ثابت مضحى، والآخر ضعيف كاذب منافق متراجع عن أهدافه السامية.

 

فالحياة وفقا للتفاعلات الاجتماعية فيها اختبار وابتلاء من اجل إعادة التمييز والتقسيم الذى ذكره الله تعالى فى كتابه والذي أوضحه اليعقوبى ( (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (الأنفال:37)

 

بيد أن اليعقوبى وقف عند صنف من المؤمنين أو المرشدين الروحيين من جنسه، أى مراجع الدين المجتهدين، ولكنهم – هذا الصنف- يهتمون بالشكل والعنوان، مثل المجاهد الكبير أو الإمام التقى أو المصلح العظيم، ولكل من يطلب من ابتاعه أو محيطه أن يجعل منه عنوان كبير – فارغ المحتوى- لن يثبت على الحق بل حتما سيقع فى الفتنة أى الاختبار والامتحان وحتما سوف يخرج منها مع الفريق الثاني المتراجعين المنهزمين المنافقين .

 

والدرس الثانى من دروس اليعقوبى فى نصه كمرشد روحى وأخلاقى، لا تبحث عن منصب دينى أو تفرح انك مرشد روحى أو مجتهد، فهذا بداية الطريق، ولكن الثبات على القيم والأخلاق وعدم البحث عن الشهرة دون المضمون هو الأهم، وإلا سوف تسقط فى الفتنة وتخرج منها منافق.

 

فنص اليعقوبى يجعل منه منظرا اجتماعيا، فضلا عن كونه مرشدا أخلاقيا، فهو لا يبحث فى ظاهرة التدين، ولكنه يتجاوزها لظاهرة المتدينين والمرشدين باعتبارهم نظم اجتماعي قائم له وظائفة اجتماعية, ولهم أثر في النظم الاجتماعية الأخرى القائمة بالمجتمع , ومن هذه الناحية , يجب على هؤلاء ان يحرصوا على النجاة الأخلاقية ومن الوقوع فى الفتن لان فتنتهم لن تتوقف عليهم وفقط، بل بالتأكيد سوف يكون لها أثر على المجتمع ليس مجتمعهم الدينى فحسب بل على المجتمع المحيط بهم والمتفاعل معهم فى دوائر وانعكاسات سياسية واقتصادية وتربوية .

 

ثم انتقل اليعقوبى إلى مستوى آخر من التوجيه الاخلاقى، وهو تثبيت قوى المؤمنين، وإرشادهم ان الفتنة والامتحان التى يمر بها المؤمن، قصد منها تفجير الطاقات وتفجرها، وصقل المواهب فى الثبات والقوة والتصميم على الهدف المنشود، ولن يكون ذلك إلا إذا دفع كل إنسان ثمن موقفه، وأوضح للجموع الحاضرة والمتابعة أن هذه سنة إلهية ماضية فى الناس قال تعالى  

(وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) مبيناً بأن هذه السنة الإلهية غير مختصة بهذه الأمة بل هي شاملة لجميع البشر المكلفين المشمولين بقانون الثواب والعقاب ، فقد تعرَّض المؤمنون في تلك الأمم لأشكال من فتن الشهوات والمغريات والترف واللهو والعبث .. وفي التذكير بذلك تثبيت لقلوب المؤمنين وتقوية لعزمهم، وتشجيع لهم بأنه مهما اشتدت معاناتهم أو الضغوط عليهم وأحاط بهم الفساد والضلال والانحلال لابد أن يثبتوا على الإيمان ولا يتأثروا بالبيئة الملوثة التي تحيط بهم))..

 

وبما أن احد أهم أهداف المؤمن هو بلوغه الجنة والهروب من العذاب،  فالله تعالى يقول  (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيب) (البقرة:214) .

 

فالجنة لها ثمن وهو الثبات فى الاختبار والابتلاء والثبات على المبدأ وعدم الانحراف عنه .

 

فى الخطبة الثانية من نص اليعقوبى فى العيد، ربط بين الانحراف الخلقي والاجتماعي وبين وجود مرشدين روحيين ودينيين منحرفين، فهؤلاء المنحرفين المفتونين هم من يقودوا الجماهير إلى الانحراف باسم الدين، ولهذا وجب على المؤمن أن لا يقع فى براثن هؤلاء الذين يضلونه، ولعل اليعقوبى فى خطبته الأولى قصد أناس بعينهم، يشتغلون بالتوجيه الدين ولكن ووفقا لقواعد الاجتماع الديني فى الحوزة التى تمسك عن الكلام فى التفاصيل أشار إشارات مجملة وكأنه يقول "كل لبيب بالإشارة يفهم".

 

ثم فى الخطبة الثانية أشار إلى صنف ثان من صنائع الصنف الأول وهم سراق المال العام من سياسيين ومدراء وغيرهم.

 

وفى نهاية خطبته، أوضح اليعقوبى الهدف الثاني الذي ينشده جموع المؤمنين بعد أن أوضح لنا الهدف الأول للمؤمن وهو الجنة، فإن الهدف الثاني هو بلوغ عصر الظهور، أى خروج الإمام المنتظر، وان الانتظار حالة ابتلاء وبين لهم أن المؤمنين يبتلون على قدر مكانتهم وفقا للحديث النبوي الشريف أن اشد الناس بلاء الأنبياء قم الصالحون ثم الأمثل فالامثل فكلما كنت شخصا مثاليا فعليك ان تستعد للابتلاء لا العكس، وهو أسلوب من الأساليب التى اتبعها اليعقوبى فى العديد من خطبة وهو الشحن والتعبئة المعنوية والنفسية حتى يكون أتباعه على استعداد للتضحية وتحمل المسئولية .

 

إن خطبة اليعقوبى مثلت جانب شامل لأسئلة الماهية وما الهدف منها ؟ وماهو مصيرنا ؟ وماذا سوف يكون مستقبلنا ؟

 

وقد سارع اليعقوبى إلى الإجابات عن هذه الأسئلة الحائرة من اجل بث الطمأنة فى قلوب أتباعه ليبعث فيها الطمأنينة و الراحة النفسية و السلوى، فعند الرجوع إلى الدين نجد أجوبة لهذه الأسئلة و نجد أن الدين يؤكد لنا أن حياتنا لها هدف محدد وهو أعمار الأرض مادياً و معنوياً عن طريق الأعمال الصالحة و الأهم عبادة الله و أن حياتنا لن تذهب سدى ، فهناك يوجد حياة أخرى ننال فيها عقابنا و ثوابنا .

 

فاليعقوبى يقول أن الدين لا يدعوا الناس إلى الاستسلام لأوضاعهم ، فجميع الأديان جاءت لرفع الظلم وليس هناك دين يحث الناس على الظلم بل جميع الأديان تدعو إلى العدالة و المساواة .

 

 ليس صحيحاً أن الدين يدعو إلى استمرار أوضاع المجتمع على ماهي عليه وأنه يعارض التغيير، بل على العكس فنحن نبحث عن المنتظر ولابد من التغيير .

 

ومن خلال ( الجنة) و( المنتظر) استخدم اليعقوبى التفاعل الرمزي لتحديد الهوية الدينية للأفراد في المجتمع . فالدين يحدد الإطار المرجعي الذي ينتمي إليه الفرد ، فعادة ما يطمئن الفرد ويتعامل براحة مع أفراد يتفقون بنفس العقيدة لأن ذلك يعني وجود قيم مشتركة بينهم .

 

والتفاعل الرمزي من خلال ( الجنة) و(المنتظر) يتطلب أوضاعا اجتماعية جديدة لا تعانى انحراف ولا تراجع ولا تفريق، وإذا كان الحديث خص الفرد المؤمن فإن الفرد يأتي من الأسرة وهذه (رمزية ثالثة) لم يسمها اليعقوبى فى خطبته لكنه أشار إليها رمزيا، فالأسرة تلعب دوراً مهماً في حياة الفرد وفي تحديد سلوكه الديني.

 

هذه الأسرة التى تتعرض الآن لتغيير فى المسمى بعد أن خرج أحد المرشدين الروحيين والدينيين يبيح ما يراه الشرع خرقا لقوانين الأسرة واختلاطا للأنساب، وهذه جريمة دينية وأخلاقية واجتماعية تنبئ بانبهار المجتمع ككل ...

 

فالدين ينظم إقامة العلاقات والروابط داخل الأسرة وكل فتوى يمكن ان تغير ماهية هذه الأسرة هو ضرب لمنظومة الدين ككل .

 

 فالدين على ضوء ذلك هو الضابط للسلوك الفردي والاجتماعي وهو المعيار الأمثل لقيمة الإنسان والدين إذا مافهم بشكل صحيح فهو بناء للشخصية الإنسانية السليمة وهو سعادة للإنسان في الدارين وإذا أراد الإنسان الوصول الى غاية ومنتهى السعادة فهو الطريق الموصل وهو السبيل المنجي للفرد والمجتمع .

 

والله من وراء القصد

 

 وعى الفقيه جُنة ( اليعقوبى نموذجا)


إرسال تعليق

0 تعليقات