نصر القفاص
خريطة عالم "أوف شور" معلوم بالضرورة للحكومات.. ترصده
المنظمات الدولية, وتعرف دوره.. كلهم يبرئون ذمتهم بالتحذير من خطورته.. وكلهم
يوفرون له الأمان مع ضمان الانتشار لاستيعاب "الثروات المنهوبة" من شعوب
لا تبحث عن أكثر من لقمة عيش.. ولا تجدها!!
تفردت "سويسرا" - قديما - بأنها كانت عاصمة "أوف
شور" لكنها أصبحت تلقى منافسة شرسة.. إذا كان أثرياء ألمانيا وفرنسا وإيطاليا
وعدد من دول إفريقيا, مازالوا يفضلون "سويسرا".. فقد أصبحت
"موناكو" تنافسها فى توفير الأمان لأثرياء فرنسا وأسبانيا.. ويذهب
أثرياء النمسا إلى جزيرة "فانتواتو" فى المحيط الهادى.. وتتعامل
"مالطا" مع بعض الأثرياء الذين تحميهم بريطانيا باعتبارهم رجالها فى
مستعمراتها القديمة..
أما أثرياء الولايات
المتحدة ومن يحتمون فى نفوذ "واشنطن" فقد انفتحت أمامهم أبوابا جديدة
غير "بنما" وفى الشرق الأقصى حيث ظهر مئات المليارديرات فى الصين..
ستجدهم منتشرون فى "هونج كونج" و"سنغافورة"
و"ماكاو"..
وتفضل الأموال القذرة القادمة من روسيا الذهاب إلى
"قبرص" و"جبل طارق" و"نارو" ومؤخرا ظهرت
"موريشيوس" لتستقبل "الأثرياء الجدد" الذين يعملون فى دول تقع
على المحيط الهندى وإندونيسيا وباكستان وبعض الدول الإفريقية.. وتلك الحالة جعلت
"الأغنياء الجدد" يضغطون على الحكومات لتخفيض الضرائب, وتقديم تسهيلات
تمكنهم من نزح ثروات أكثر وأكبر إلى "بيوت الشيطان"!!
وأصبحنا نسمع عن سباق حول تطوير قوانين ما يسمى بالاستثمار لتضمن
تأسيس الشركات خلال يومين.. ثم سمعنا عن إجراءات لا تستغرق ساعات.. ووصلنا مؤخرا
إلى من يعلنون قدرتهم على مساعدة أصحاب الأموال القذرة على تأسيس ودمج الشركات
خلال دقائق!
إذا كانت "الدول المانحة" قد قدمت للدول الفقيرة معونات
تصل قيمتها إلى 100 مليار دولار.. فهذه الدول ذاتها جرفت تريليون ومائتى مليار من
تلك الدول الفقيرة, ودفعتها إلى "بيوت الشيطان" المعروفة باسم "أوف
شور".. حدث ذلك فى عام 2011 كما ذكر مركز السياسات الدولية فى
"واشنطن".. ويقدر "البنك الدولى" فى دراسة عام 2005 أن
الرشاوى التى اختفت "اوف شور" تتراوح بين 30 مليار و50 مليار دولار..
ويسمى "بيير بوردو" عالم الاجتماع الفرنسى تلك الحالة بأنها
"تواطوء بالصمت"!!
ما شأن الدول الفقيرة بهذه الألغاز واللوغاريتمات؟!
الإجابة شديدة البساطة.. فهذا العالم - أوف شور - هدفه أن تبقى
الدول الفقيرة على حالها.. يحدثونك عن تطوير التعليم, بتقديم برامج وخطط تحقق
العكس!! يحدثونك عن ضرورة الاهتمام بالصحة والعلاج للمواطنين, بشرط أن يكون العلاج
لا يقدر عليه غير الذين يخدمون فى بلاط "الأثرياء الجدد"!! يحدثونك عن
"ديمقراطية" لا تسمح بوصول غير السفهاء والانتهازيين إلى المجالس
النيابية!! ويحدثونك عن "الإدارة الرشيدة" التى تسلم مقدرات تلك البلدان
لشركات متعددة الجنسيات من سكان "أوف شور"!! لأن الدول الغنية تملك تحصينات
قوية, تقدر على مواجهة سكان "بيت الشيطان" أما الدول الفقيرة فيقولون
لهم "لا دخل لنا بمشاكلكم.. عالجوها بأنفسكم" بشرط عدم المساس بالأثرياء
الجدد ورجالهم!!
عندما فرض "أوف شور" نفسه فى السنوات الأخيرة.. راحت
عشرات الدول تتوهم قدرتها على جذب المستثمرين, فتقدم لهم ما يسمونه تسهيلات..
وهؤلاء يتجنبون أى نشاط صناعى أو زراعى.. يستثمرون فقط فى إقتصاد الخدمات والتجارة
ونشاط الصرافة.. يطلبون تسهيلات فى الضرائب.. يطلبون قوانين تسمح لهم بإخراج
أرباحهم إلى "الملاذات الآمنة" ويطلبون تسهيلات بنكية تسمح لهم
بالاقتراض, وعند لحظة هم مدربون عليها يبيعون شركاتهم التى جنت أرباحا مذهلة إلى
شركات متعددة الجنسيات.. وهؤلاء الذين تسبق أسماءهم كلمة "ملياردير"
ستجدهم أصحاب كلمة حاسمة فى سياسات الدول التى يسقطون عليها, كالطيور الجارحة
ليمسكوا بدفة السياسة والإعلام والثقافة.. لأنهم يملكون مفاتيح الاقتصاد.. ويتحول
الشعب إلى جمهور, وساسة تلك الدول إلى "عرائس ماريونت" فى أيديهم!! وإذا
حدث وانفجرت دولة من الدول بفعل هذه الخطط, ستجدهم الأسرع فى الهروب منها باعتبار
أن ثرواتهم تتمتع بالأمان والاستقرار فى جزر "أوف شور"!!
المهم عندهم أن يصبح الفساد ثقافة!!
هؤلاء يروجون إلى أن قليل من الفساد يصلح المجتمع, والكثير منه
يمكن مكافحته بالقوانين التى لا تصدر.. وعبر رجالهم الذين يطاردون من يخرجون عن
نظامهم.. وإذا قلت أن هذا سلوك "عصابات" أو "مافيا" ستجد من
يرد عليك "كله بالقانون"!! وإذا ظهر صحفيون أو ساسة يحاولون كشف ما
يحدث.. لن يمر وقت طويل إلا وتجدهم مستشارين لأثرياء "أوف شور" وقد ذهب
هؤلاء إلى القول بأن "الرشوة" نظام كفؤ لأنها تساعد الناس على تجاوز
المعوقات البيروقراطية وإتمام "التعاملات".. وإذا سألتهم.. وهل النظام
الذى تتفشى فيه الرشوة يتمتع بكفاءة؟!.. سيردون بسرعة.. بالتأكيد لا!!
أحد رجال الأعمال فى الأرجنيتن أصابته حالة ذهول, حين راقب بعض من
أقرانه وفوجىء بأنهم قفزوا من دائرة "المليونيرات" إلى أبراج
"المليارديرات" فراح يبحث عن الطريق.. إكتشف أن من سبقوه إلى تلك الثروة
الرهيبة, هم جزء من "بيزنس" لرجال أعمال بريطانيين يحتكرون تجارة اللحوم
فى بلاده لسنوات, وحققوا منها مليارات كلها سكنت "أوف شور" والقصة
تناولتها الصحف, وعالجها صحفيون فى كتب حول حكايات "الأخوين فستى"
اللذان تعرفهما بريطانيا كلها.. وذلك جعل رجال الأعمال الأرجنتينيين يقولون:
"أنهم يمارسون سلوك الحواه.. حتى ولو أطلقوا على أنفسهم رجال أعمال"!!
وهؤلاء ينظرون للذين يعملون فى الصناعة على أنهم "حقراء" ولو كانوا
أذكياء ما ذهبوا إلى تلويث أيديهم بالعمل لكى يجمعوا ثروة!! والمدهش أن هؤلا
"الأثرياء الجدد" فى بريطانيا راحوا يدفعون الأموال, لشراء لقب
"لورد" وأصبحوا نوابا فى البرلمان.. هنا انتفضت الصحافة وظهرت
"الجارديان" فى مارس عام 2010 بعنوان رئيسى يقول: "رائحة كريهة غير
محتملة تنبعث من الألقاب التى يحصل عليها أعضاء البرلمان" وحذرت الصحيفة من
أن هؤلاء سيركزون على تفصيل قوانين تساعدهم على الاحتيال!! وراحت الصحف تتحدث عن
الشباب الذين دفعوا حياتهم ثمنا للدفاع عن بريطانيا, لتمص "أسرة فستى"
وأمثالها دماء الشعب وثرواته.. ونشرت "الصنداى تايمز" تحقيقا ذكرت فيه
أن محلات "ديوهيرست" التى تملكها عائلة "فستى" دفعت ضرائب
عشرة جنيهات استرلينى عن أرباح تجاوزت 2,3 مليون جنيه استرلينى!! فالأموال نائمة
فى "أوف شور".
لنا أن نتخيل وجود ثروات تقدر قيمتها بأربعمائة مليار دولار فى
"جيرسى" وحدها!
يقدر خبراء الاقتصاد قيمة الثروات النائمة فى "بيت
الشيطان" بترليونات!!
وتؤكد المعلومات أن الملياردير - اللورد - "ويليام فستى"
مات وترك فى بنوك بريطانيا مبلغا قيمته 261 ألف جنيه استرلينى فقط!
كل هذه عناوين من عالم "أوف شور" الذى يسعى إلى هدم
الدولة بمعناها القائم.. لأن هؤلاء "الأثرياء الجدد" يملكون الأموال..
وبدون هذه الأموال تعم البطالة, وتفلس الدول.. وهناك أنظمة سياسية فى دول العالم
الثالث, تصدق هذا "السخف" وترهن حاضرها ومستقبلها بالاستثمارات التى لن
تأتى دون رضا عالم "أوف شور".. وهذا العالم يطالبون بإرخاء قبضتهم عن
المرتشين والفاسدين, إلى جانب ما يسمونه التسهيلات!! ويمارس هؤلاء خدعة على طريقة
مخرجى السينما, حين يلفتون نظرك إلى نموذج "سنغافورة" أو "دبى"
ثم "قطر" مؤخرا.. دون أن يجعلوك تتذكر أن "دبى" كادت قبل
سنوات تنهار وتشهر إفلاسها.. لو لم تنقذها إمارة "أبو ظبى" كما أن
"سنغافورة" لم تنجح من كارثة تعرضت لها النمور الآسيوية.. وكل هذه
النماذج لا ترقى لأن تكون قابلة للمقارنة بدول مثل المغرب والجزائر ونيجيريا فى
إفريقيا.. أما مصر فهى حالة خاصة باعتبارها تعيش مرحلة انتقالية من بداية
السبعينات, واستمرت إلى وقتنا لأنها لم تحسم أمرها اقتصاديا ولا سياسيا!!
نشرت صحيفة "الفاينانشيال تايمز" فى عام 2009 أن تاريخ
قوانين السرية المصرفية يرجع إلى عام 1934, وتم سنها لحماية اليهود الألمان من النازيين..
والحقيقة أنه إذا كان قد تم وضع قانون قبل عشرات السنوات فى سويسرا لنظام
"أوف شور" فهو أقدم من ذلك بمئات السنين.. ويقول "سباستيان
جويكس" أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة "لوزان" أنه قد تكون سويسرا
أقدم الملاذات الضريبية وأقواها.. إلا أنه تفرعت بعد ذلك جزر "الكايمان"
و"البهاما" برعاية "لندن" ورغم ذلك بقيت "سويسرا"
تمثل الخزانة الحديدية لأبرز الأثرياء.. وبينهم أمريكان.. فهذا إرث يجعلك تتمتع
بالفخامة فى العالم, إلى جانب حماية سرية أموالك.. فالعائلات التى تودع أموالها فى
سويسرا تشترى مكانة اجتماعية وسط أثرياء العالم!! لذلك يقدر الخبراء أن سويسرا
تمثل أكبر مستودع للأموال القذرة فى العالم بمبالغ تقدر بأنها أصبحت 2,1 تريليون
دولار عام 2009.. وقد كانت 3,1 تريليون عام 2007.. وهذا يعنى أن تريليون دولار
غادرت سويسرا إلى ملاذات "أوف شور" أخرى.
قبل نحو مائة عام ظهر مفكر اقتصادي اسمه "كينز" حاول
إنقاذ الرأسمالية من نفسها.. لكن المغامرين نفروا منه وذهبوا إلى الضلوع فى أخطر
جرائم العصر الحديث, التى سمحت بطغيان نظام "أوف شور" الذى هز دولا
مؤخرا, وسيتسبب فى هدم دول خلال سنوات قادمة.. وتلك رؤية قائمة على علم ودراسة, وظهرت
بتفاصيلها عشرات الكتب.. وتم تنظيم مئات الندوات والمحاضرات للمناقشة حولها..
وكتبت - وتكتب - الصحف الغربية آلاف المقالات.. لكننا فى مصر لم نسمع.. لم نر..
نرفض أن نسمع.. نخاف أن نرى.. لماذا؟!..
يتبع
0 تعليقات