نصر القفاص
كانت عين "واشنطن"
و"لندن" على "العراق" من منتصف السبعينات.. قبل أن يحكم "صدام
حسين" لثلاثة أسباب.. كان آخرها البترول.. والأهم منه كان موقع "العراق"
استراتيجيا.. فهذه دولة متاخمة لست دول, تمثل كل منها أهمية بالنسبة للغرب.. وهى: إيران,
وتركيا, والسعودية, والكويت, والأردن, ثم سوريا.. والموقع ذاته يسمح له بأن تمتد
يده صاروخيا إلى إسرائيل المطلوب حمايتها, وكذلك إلى مناطق مهمة داخل الاتحاد السوفيتي
الذي كان مطلوب تهديده!!
كان السبب الثاني هو
موارد "العراق" المائية باعتبار أن نهرى دجلة والفرات يمران داخله
لمسافات طويلة.. وكانت "واشنطن" قد انتهت من إعداد إستراتيجيتها للسيطرة
على المصادر الطبيعية للمياه, باعتبار أن موارد المياه الطبيعية أصبحت شديدة
الأهمية سياسيا واقتصاديا.. وتهدف إستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية إلى خصخصة
المياه فى إفريقيا وأمريكا اللاتينية, مع أهمية خاصة لدول الشرق الأوسط.. وذلك
يعنى استهداف ثلاث دول فى المنطقة هى: العراق ثم مصر بعدها سوريا.. دون تخوف من "تركيا"
باعتبارها تدور فى فلك الغرب بضمانات ممتدة المفعول.
تلك الورقتين
أخفاهما الغرب.. وتحديدا "واشنطن" و"لندن" وراحتا تلعبان ورقة
البترول بالمنهج ذاته الذى تم تطبيقه فى السعودية أولا.. أى عن طريق "البنك
الدولى" بتقديم ما يسمونه "خطط التنمية" وبرامج "الإصلاح الاقتصادي"
وتم إطلاق "قراصنة الاقتصاد" على حكام العراق – حتى قبل أن يصبح صدام
حسين رئيسا – لكنهم كانوا يختلفون عن الذين يحكمون الخليج.. وكانوا مختلفين مع نهج
"أنور السادات" منذ أن اختار الانفتاح على أمريكا بانبهار شديد!!
يحكى "جون
بركنز" فى كتابه "الاغتيال الاقتصادى للأمم" والذى قدم خلاله
اعترافات واضحة وتفصيلية, لما تقوم به بلاده – أمريكا – بذراعيها, صندوق النقد
والبنك الدولى.. من تخريب لدول يراد إخضاعها لتدور فى فلك الغرب.. فيكشف أن "واشنطن"
و"لندن" إستمرت محاولاتهما لترويض "العراق" سنوات طوال.. فشل "ريجان"
كما وجد "بوش" نفسه فى طريق الفشل ذاته.. فقرر إطلاق "الثعالب"
وهو تعبير مقصود به "المخابرات الأمريكية" على "صدام حسين"!!
رفض "العراق"
حتى قبل أن يحكم "صدام حسين" ما تم عرضه عليه من خطط للتنمية وبرامج
للإصلاح الاقتصادى.. قرر أن يأخذ اتجاها عكسيا يعتمد على الزراعة والتصنيع وبناء
قاعدة علمية.. كان لديهم مشروعا يحاكى المشروع المصرى خلال زمن "عبد الناصر"
وهذا يعنى إضاءة كل اللمبات الحمراء, وإعلان من يحكمون العراق كأعداء لاستراتيجية
السيطرة الأمريكية على العالم عبر مفاصله المهمة!!
وأشارت خطط "الثعالب"
إلى أهمية وضرورة إزكاء التناقض السياسى بين "العراق" وجيرانه.. وكان ما
حدث فى "إيران" بثورتها حافزا على تدوير هذه العجلة.. ويكشف ذلك "جون
بركنز" حين يقول نصا: "إذا توصل العراق إلى اتفاق مع واشنطن يشبه اتفاق
السعوديين.. كان بوسع صدام أن يوقع عقدا نهائيا لحكم بلاده دون منازعة داخلية أو
خارجية.. فواشنطن لا تكترث بأن صدام حسين يخفى داخله حاكما طاغية.. لأن الولايات
المتحدة تتسامح مع هذا النوع من الطغاة.. بل تدعمهم إذا وافقوا على أن يدوروا فى
الفلك الأمريكي"!!
كانت الرغبة فى
إخضاع "العراق" ذات قيمة إستراتيجية فضلا عما تملكه لتزييت عجلات
الاقتصاد الأمريكي, وإنعاش بنوك "الأوف شور" وما لم يتحقق ذلك باتفاق, يصبح
الذهاب إلى تحقيقه على نحو ما حدث مع "بنما" عندما ذهب الجيش الأمريكي
للقصف والقتل وحتى اعتقال رئيسها "نورييجا" فى واحدة من أكبر فضائح
القرن العشرين دون أن تلفت نظر غير أمريكا اللاتينية بفضل ماكينات الإعلام الغربى
العملاقة!!
الحقيقة تقتضى أن
نذكر "محمود عوض" الأستاذ الذى كان ممنوعا من الكتابة, لمجرد أنه كاتب
كبير وموهوب ومتهم بأنه "وطنى مخلص"!! فقد كان الوحيد الذى لا يكف عن دق
ناقوس الخطر تجاه السياسات الأمريكية.. وفى مقال نشرته جريدة "الحياة" بعنوان
"فى الوجه السفلى للعلاقات الدولية"
أستغل وفاة "سوهارتو" مطلع عام 2008, والذى كان قد حكم إندونيسيا
لأكثر من ثلاثين عاما بدعم أمريكى.. وتم خلعه بقرار من "صندوق النقد الدولى"!!
نعم.. كان "صندوق
النقد الدولى" هو صاحب القرار!
تم فرض قرار
الاستقالة على "سوهارتو" يوم 21 مايو عام 1998, والمدهش أنه وقع القرار
أمام عدسات التليفزيون ومندوبى الصحف ووكالات الأنباء.. وإلى جانبه مدير صندوق
النقد الدولى, الذى أعلن ضرورة رحيل "سوهارتو" لفشل سياساته الاقتصادية..
رغم أنه كان ينفذ كل ما فرضوه عليه سواء من جانب البنك الدولى أو صندوق النقد.. لأنه
أصبح عبئا على "واشنطن" وفاحت رائحة فساده بما لا يمكن تغطيتها أو صرف
الأنظار عنها.. وبعد نهب منظم لثروات "إندونيسيا" طوال سنوات حكم "سوهارتو"
كان على الذين ثبتوه حاكما ديكتاتورا أن يقلبوا فى حساباته.. تم الإعلان فى صيف 1998
عن أن وزارة الخزانة الأمريكية, رصدت تحويلات مريبة لمبالغ ضخمة تصل إلى تسعة مليارات
دولار.. يتم نقلها من بنوك أمريكية إلى أحد بنوك النمسا.. ذلك يعنى أن تلك الثروة,
وهى أموال مودعة باسم "سوهارتو" ستغادر الولايات المتحدة.. تحركت "الشفافية"
وظهرت لافتات "مكافحة الفساد" مع البكاء على الشعب الإندونيسي المنهوب..
وانتهى الأمر إلى مصادرة المبلغ باعتباره ناتج عن "غسيل أموال"!!
كانت "واشنطن"
تعلم فساد "سوهارتو" لكنها توظفه فى مشروعها.. كانت "لندن" تعرف
لكن "مارجريت تاتشر" تقول عنه: "إنه واحد من أفضل أصدقائنا والأكثر
قيمة"!! كان الشعب الإندونيسى لا يكف عن الصراخ من فساد رئيسهم وعائلته
ورجاله.. لكن ذلك تعامى عنه رعاة "الاستثمار" لأنه بقرة يتم حلبها هناك..
فقد كانت زوجة "سوهارتو" تحتكر استيراد القمح وطحنه.. وابنه يحتكر تجارة
الثوم ويدير سياسات زراعته.. وابنته تسيطر على محطات تحصيل الرسوم على الطرق
السريعة.. وابنه حصل على ترخيص الهاتف المحمول.. وباقى أولاده وأشقائه وأحفاده كان
لهم نصيب من ثروات "إندونيسيا" التى يتم نهبها.. حتى أن مجلة "تايم"
الأمريكية ذكرت أن ثروته بلغت 15 مليار دولار, وثروات عائلته بلغت 73 مليار دولار..
وكان يتكرر انتخابه ولاية بعد أخرى حتى انتخبوه لولاية سابعة, قبل شهور من إسقاطه
بقرار من صندوق النقد الدولي!!
استعرض "محمود
عوض" فى مقاله رعاية "واشنطن" لحاكم شيلى "بينوشيه" الذى
نصبوه بديلا للرئيس "سلفادور الليندى" ليتم نهب بلاده عن طريقه.. ثم
عزلوه وحاكموه وصادروا ثروته.. والقصة تكررت فى عدة دول إفريقية ولاتينية وآسيوية,
ومازالت تتكرر مع تعديلات فى سيناريو كل حالة.. مرة دفاعا عن الديمقراطية.. وأخرى
لإسقاط ديكتاتور.. وثالثة لمكافحة الإرهاب.. ذلك بعد أن انتهت الحرب على الشيوعية
بإسقاط الاتحاد السوفيتي نفسه.. والقصة كلها هى نهب ثروات الدول ومص دماء الشعوب, التى
يقولون عنها فقيرة ويمنحونها معونات ومنح هى جزء بسيط من ثرواتها!!
أذرع هذا الاستعمار
الجديد يتم إخفاءها فى عباءة "الاستثمار" تلك الكلمة التى سمعناها فى
مصر بكثافة, منذ أن سمعنا الانفتاح الاقتصادي.. وبعدها أصبحنا نسمع الإصلاح الاقتصادي..
ثم التنمية المستدامة.. وكلها تنويعات لحن واحد صاغت "نوتته" واشنطن
ولندن ومطابخهما.. وفى الحالة المصرية لابد أن يقترن ذلك بحفلات سباب لا تتوقف ضد
زمن الخمسينات والستينات.. وحلقات زار لطرد شيطان "القطاع العام" من جسد
المصريين!!
رغم أن هذا "القطاع
العام" تجرى عمليات تصفيته منذ نحو نصف قرن, لكن بقاياه مازالت صداعا فى رأس
المستثمرين ورجال المال.. لأنه فى زمن "القطاع العام" خاضت مصر حروبا
وتمددت, وبانتهاء حرب 73 لم يكن عليها ديون سوى مليارى دولار فقط.. واستمر هذا
الرقم يتضاعف فى "زمن الاستثمار" حتى تجاوز 125 مليار دولار..
فصناعة الحديد
والصلب فاشلة عندما يمتلكها الشعب وتسيطر عليها الدولة, وتنتعش وتحقق أرباحا طائلة
إذا امتلكها مغامر.. وصناعة النسيج تتعثر تحت إدارة القطاع العام, وباتباع سياسات
استثمارية تتوقف.. أو تكاد.. وهكذا.. والمؤسف أن أولئك يلعنون "زمن العافية
الاقتصادية" على أنه المسئول عن تدهور الأحوال الاقتصادية.. فهم يخطفون
الأنظار بعيدا عن "المستثمرين" وخطط "الإصلاح الاقتصادي" التى
لا تتوقف ولا تنتهى.. فهى اسطوانة مشروخة يجب أن تستمتع بها الشعوب, ويدمنها كل من
يطمع فى أن يكون له مكان تحت شمس "الأوف شور" التى تسطع على دول
ومجتمعات كثيرة بعد استمتاع "مصاصو دماء الشعوب" بها فى جزر غير معروفة,
ثم أصبحت تتحكم فى أموال وثروات عشرات الدول!!
تواجه "واشنطن"
و"لندن" حاليا أزمة شديدة التعقيد.. فقد أصبحت "بكين" صداعا
مزمنا فى رأسيهما.. وعلى الطريق "موسكو" لأن كليهما قرر أن يلعب معهما
بأوراقهما.. تم إشهار سلاح "حقوق الإنسان" و"الديمقراطية" فى
وجهيهما.. لكنهما لم تكترثا بعد أن أصبحت كل منهما تملك ماكينة إعلامية عملاقة, قادرة
على مواجهة "ماكينات" الإعلام الغربى.. والمؤسف أن مصر التى كانت سباقة
فى امتلاك أقوى ماكينة إعلامية فى الشرق الأوسط وإفريقيا تم تفكيكها بمنهج "الأوف
شور" ولعب "المستثمرين" أهم الأدوار وأخطرها فى تدمير تلك الماكينة
كغيرها من الماكينات!!
0 تعليقات