نصر القفاص
يرى "رجال المال" أن أغلى سلعة يشترونها, هم أولئك القادرون على
الإبداع فى خداع المجتمع.. ذلك كان سر "دانييل ميتشيل" الذى بدأ حياته
باحثا فى واحد من مراكز الدراسات.. لأنه انطلق بسرعة الصاروخ كشخصية شهيرة.. إمتلك
حسابات بنكية تتدفق داخلها الأموال, ثمنا لأفكاره التى يمكن تحويلها إلى سياسات
اقتصادية ومالية.. بدعم من صحف وصحفيين يعرضون أنفسهم للبيع!!
قدم "ميتشيل" أفكاره من صميم علم الاقتصاد, حين ركز على نظرية "الاختيار
العام" وصاغ رؤيته للمجتمع فى ضوء ما تقدمه تلك النظرية.. فهى تقوم على أن
الذين يمارسون السياسة, ليفوزوا بتمثيل مجتمع لا يجب أن يركزوا على خدمة هذا
المجتمع والدفاع عن مصالح ناخبيهم.. فهم أشخاص من المجتمع نفسه ولهم مصالح, لابد
أن يحرصوا عليها.. وهذا يعنى أنهم يمكن أن يمرروا للحكومة ما تراه, مقابل حصولهم
على مصالح يتم ترجمتها إلى ثروة.. ثم انطلق صاحب الإبداع فى تقديم تفسيراته لنظرية
"الاختيار العام" لكى يطالب بضرورة تخفيض الضرائب وتقديم التسهيلات
للمستثمرين حتى يدفعوا عجلة التنمية بسرعة.. وذهب إلى أن الدولة – الحكومة – يجب
أن يقتصر دورها على توفير الأمن وتحقيق الاستقرار.. بما يعنى أن الحكومة لا يجب أن
تشغل نفسها بأكثر من 10% من أمور المجتمع, وتترك الباقى لرجال الأعمال والمستثمرين..
وبناء عليه أعلن رفضه للدور الاجتماعى للدولة.. تلك النظرية يتم تلقيح أولئك الذين
تعتمد عليهم الولايات المتحدة الأمريكية, لكى يحملوا رايات أفكارها ويدورون فى فلك
سياساتها من "رجال المال" قبل أن تطلقهم على دولهم ودول أخرى من تلك
التى يسمونها "نامية"!!
أنظر حولك.. ستجد تلاميذ وأبناء "ميتشيل" يتكاثرون ويسيطرون!
خلال محاضراته كان "ميتشيل" يسخر من دول أوروبية تراعى البعد
الاجتماعي فى سياساتها الاقتصادية.. وكان لا يخجل من السخرية المريرة تجاه المواطن
الفقير, لإيمانه بأنه يفضل أن يعيش "عالة" على المجتمع!! وخلال واحدة من
محاضراته فى "واشنطن" عام 2009 تحدث عن أولئك الرجال الذين يضعون غطاء
الرأس ويرتدون الجلباب – يقصد أهل الخليج – فأثار عاصفة حين قال: "عليهم أن
يحضروا أموالهم, ويمكنهم الاستمتاع بها بيننا"!! وذكر أن الحكومات التى تفرض
ضرائب كبيرة تستحق أن يعاقبها المستثمرون, ويتركون تلك الدول إلى "ملاذات
آمنة" لا تتصور أننى أحدثك عن أخبار جديدة مدهشة.
هذا اتجاه حاكم فى الولايات المتحدة الأمريكية, وله رجاله الذين ينتشرون فى
دول كثيرة تسبقهم صفة "مستثمر".. وقد تندهش أن الكاتب "محمود عوض"
كان راصدا لخطورة هؤلاء وأفكارهم وزحفهم للسيطرة على الإعلام والسياسة.. فقد كتب
قبل سنوات مقالا عنوانه "أصول اللعبة" ونشرته "أخبار اليوم" وقت
أن كان مسموحا بهامش لأصحاب الرأى.. وقد يكون هذا المقال واحدا من أسباب التضييق
عليه, لأن رياح "عاطف عبيد" كانت قد اشتدت!!
بوضوح.. تناول "محمود عوض" خدعة ما يسمى برجال الأعمال.
طرح سؤالا مباشرا.. من هو رجل الأعمال؟! هل هو ذلك الشخص الذى يلعب بالبيضة
والحجر, ومستعد للربح من أى طريق حتى لو كان دواجن فاسدة؟! هل هو الذى يحصل على
قروض ضخمة من البنوك بلا ضمانات ثم يفر بها إلى الخارج؟! هل هو الذى يطيل لحيته
ويتظاهر بقراءة الفاتحة ليغطى تجارته بالعملة فى السوق السوداء؟! هل هو الذى يتحدث
عن الاقتصاد الحر؟! حيث يرى فيه علاج مشاكل مصر الاقتصادية ويتحقق ذلك بفتح باب
الاستيراد.. هؤلاء يرون أنه لا علاج لاقتصاد مصر, إلا إذا تحولنا إلى خدم لهذا
الوهم الكبير الذى يسميه البعض "المستثمر الأجنبى" بغير أن نرى شيئا من
هذا المستثمر "لامؤاخذة"!!
كان "محمود عوض" يتابع ما يدور فى الدنيا, فامتلك رؤية ثاقبة.. وكان
صاحب رأى حقيقى وجاد فدفع الثمن فادحا.. والمدهش أن فاسدين كثر تاجروا باسمه بعد
وفاته, وهم يمارسون النفاق وخدمة "رجال المال"!! لأنهم لو ألقوا الضوء
على أفكاره ومواقفه سيدفعون الثمن بالطرد من رحمة الذين يتولون رعايتهم!!
صاغ "محمود عوض" رؤيته لرجل الأعمال.. فقال: "هو واحد من
أولئك المحترفين الذين يتحدثون كما لو كانوا مستشرقين.. منفصلين تماما عن الشعب
الذى يعيشون بينه.. إن رجل الأعمال الحقيقى هو الذى يريد مناخا آمنا لأمواله.. وهذا
المناخ لا تحققه قوات الأمن المركزى.. لكن يحققه الرضا العام بقواعد اللعبة
والإحساس أنها منصفة لجميع الأطراف.. أما حين يكتب شخص مطالبا الحكومة المصرية بأن
تبيع له القطاع العام بنصف الثمن, وبشرط التقسيط المريح.. وشرط فصل العاملين لأنهم
مشاغبين.. وأن تدفع الحكومة لهؤلاء المفصولين تعويضات وإعانات بطالة.. فإن هذا ليس
أكثر من سمسار يريد لنفسه ثراء غير مشروع حتى لو كان الثمن خراب مالطة"!!
غاب "محمود عوض" عن دنيانا قبل أن يستتب الأمر لكل السماسرة, الذين
ينتحلون صفة رجل أعمال أو مستثمر.. تلك إشارة واجبة لأنه كتب نصا: "محترفون
هذه المطالب الشاذة.. هم شريحة أخرى تختلف تماما عن أولئك الذين يؤمنون حقا
بالرأسمالية والاقتصاد الحر فى بلدنا, ويعملون فى صمت داخل مصانع ومزارع أقاموها
بعقولهم وعرقهم.. دون أن يفكروا للحظة واحدة فى أن يتحولوا إلى زعماء سياسيين"!!
آه لو عاش "محمود عوض" وشاهدهم يسيطرون على البرلمان والإعلام
والأحزاب.. كما يحدث حاليا.. أولئك هم الذين باغتوا الأمة بقانون "الشهر
العقارى" فكادوا يفجرون المجتمع.. أولئك هم الذين يقدمون للدولة وزراء
ومحافظين ونواب وقادة إعلام "أوف شور" بامتياز!!
أوضح "محمود عوض" فى مقاله ما يخفى على الناس فذكر: "نعم.. أمريكا
هى مجتمع القطاع الخاص, رغم أن خمس – 20% - المشروعات الكبرى فيها هى للقطاع العام"
وراح يوضح ما يحدث لرجل الأعمال إذا تهرب من الضرائب.. وأسهب فى تقديم أمثلة
لمليارديرات يدخلون السجون, وتتم مصادرة أموالهم لمجرد تهربهم من الضرائب أو
تحايلهم على البنوك وتلاعبهم بالقوانين.. وأوضح أن المجتمع الأمريكى لا يحمى رجال
الأعمال ولا يدعمهم لكى يتمكنوا من التصدير.. لا يعوضهم إذا تعرضت مشروعاتهم
لكارثة طبيعية.. لكن الحكومة هناك تحمى المواطن إذا تعرض للبطالة.. والحكومة هناك
دفعت عام 1986 من ميزانيتها 25 مليار دولار دعما للمزارعين حتى لا يهجروا الزراعة..
أى أن الحكومة الأمريكية لا تدعم أصحاب الفنادق والمنتجعات السياحية"!!
وكشف "محمود عوض" فى مقاله نفسه أن الأمريكيين يطبقون خارج
حدودهم ما يحلو لهم.. لكنهم على أرضهم يلتزمون بالقوانين التى تحمى المجتمع, ومنهم
أخذت الهند ذلك.. فحكومتها لم تسمح لشركة مياة غازية ببيع منتجاتها فى الأسواق
الهندية الواسعة, إلا بعد أن أقامت مركزا ضخما للبحوث الزراعية ومصنعا ضخما
للخضروات والفاكهة يستفيد منه 25 ألف عامل وفلاح.. وللدولة حصة فى عائدات التصدير!!
ولا يجروء صوت فى الهند أن يقول إدعموا المستثمرين.. لأنها دولة تذبح السماسرة!!
كان "محمود عوض" يكتب ليحذر من خطورة نظرية "الاختيار العام".
بسرعة تمكن تلاميذ وأبناء "دانييل ميتشيل" من دول كثيرة.. لأن
أفكاره كانت داعمة ومبشرة بتحويل "الأوف شور" من قنوات مالية سرية إلى
نظام مجتمعى متكامل, يسهل فرضه عندما يتمكن هؤلاء من مفاصل الدولة.. أى دولة.. حتى
يصبحون شركاء فى الحكم بصورة أو بأخرى.. وقد تفطن الرئيس الأوغندى "يورى
موسيفينى" لذلك فتحدث فى الذين عرضوا عليه الاستثمار فى بلاده, فقال لهم:
"إذا كنتم تعرضون علينا ما يضاعف ثرواتكم, فإننى أشكركم على زيارتكم لبلادى..
وإن شئتم العمل وأن تشاركونا.. أهلا بكم فى تسديد الضرائب وإقامة مشروعات زراعية
وصناعية.. وغير ذلك لا مكان له عندنا فى هذا التوقيت"!! ونجحت الهند فى ترويض
قنوات المال السرية – الأوف شور – فكان أن استفادت مما يحدث فى "موريشيوس"
التى أصبحت مركز "أوف شور" مع مطلع تسعينات القرن العشرين.. فهى تستقبل
ثروات أولئك الذين يغسلون أموالهم هناك, لكى يقيموا مشروعات إنتاجية صناعية
وزراعية.. وتحقق ذلك بمعاهدة بين الدولتين واضحة المعالم.. ووضعت فى اعتبارها
إبعاد كل من يريد أن يتكسب على حساب المصالح الوطنية.. وترصد أى محاولة من جانب "رجال
الأعمال" لتشكيل جماعات ضغط سياسية أو ثقافية أو إعلامية.. ربما لأن
الديمقراطية هناك تتجذر عاما بعد آخر منذ أن نالت البلاد استقلالها, رغم علاقتها
الخاصة جدا مع بريطانيا التى تراجع نفسها مائة مرة إذا حاولت العبث بثوابت الهند!!
كيف حدث ذلك فى الهند!!
الإجابة كتبها "محمود عوض" قبل أكثر من عشرين عاما حين قال فى
مقاله ذاته بالنص: "إختراع الاعتماد على إسعافات حكومية من وقت لآخر, أو
تحليل المال العام لإنقاذ هذا وذاك.. أو أن يكون المرء وزيرا أمس ثم رئيسا لبنك أو
شركة اليوم.. أو أن يكون مسئولا يطارد تجارة العملة فى سنة, ثم موظفا لدى أحدهم فى
السنة التالية.. أو أن نعطى الامتيازات لرجل الأعمال فى لحظة ثم نحلل لهم
الاستيلاء على المال العام بحجة وأخرى فى اللحظة التالية.. فكلها اختراعات لا
نجدها إلا فى مصر"!!
كان "طلعت حرب" فى مقتبل حياته سياسيا.. ترك السياسة إلى
الاقتصاد فأصبح عنوان نهضة وعلم من أعلام التحرر الوطنى.. وكان "إسماعيل صدقى"
رجل أعمال فى الصناعة والزراعة, وخلط أعماله بالسياسة.. ورغم أنه كان سياسيا وطنيا
وأحد رجال ثورة 1919, إلا أن تغوله السياسى جعله عنوان من عناوين الفساد السياسى
فيما قبل ثورة 23 يوليو.. لكن الجديد فى مصر أن الذين يرفعون رايات اليسار
والليبرالية والإسلام السياسى, ظهروا على أنهم "إيد واحدة" خلال السنوات
العشر الأخيرة.. كشفت ذلك أحداث "25 يناير" التى يسميها الدستور "ثورة"
ثم تطور الأمر بتحالفهم مع حيتان الفساد الذين يسعون إلى تحويل مصر لمجتمع "أوف
شور"!!
كسب "دانييل ميتشيل" ثروة طائلة من وراء "مصاصى دماء الشعوب"
ودفع "محمود عوض" ثمنا فادحا.. برضى.. ليكشف جرائم هؤلاء فى مصر.. وترك
كليهما "الاختيار" لأجيال قادمة!! فقد عاش "ميتشيل" كأغلى
سلعة فى "الولايات المتحدة".. وكان "محمود عوض" من أغلى ما
يملكه المجتمع المصرى..
يتبع
0 تعليقات