نصر القفاص
كانت شركة "قناة السويس" واحدة من
أهم وأكبر وأخطر الشركات متعددة الجنسيات.. يكفى أن تعلم أنها أنفقت من دخلها 400
مليون جنيه استرلينى, لصالح المجهود الحربى للحلفاء فى الحرب العالمية الأولى.. خلال
هذا الوقت كان نصيب مصر من دخلها أقل من مليون دولار سنويا.. كان يديرها فريق تؤكد
أسماؤهم وجنسياتهم أنها لم تكن مؤسسة مالية أو بحرية أو اقتصادية فقط.. فقد كان
يرأس مجلس إدارتها "فرانسوا شارل رو" وهو فرنسى وحفيد دليسبس.. ونائبه
الذى يرأس لجنة الإدارة هو "جورج بيكو" ابن "بيكو" الذى قام
مع "سايكس" بتقسم الدول العربية بين كل من فرنسا وبريطانيا.. وكان معهما
اللورد "هانكى" سكرتير لجنة الدفاع الإمبراطوري البريطانية.. إضافي إلى
الأميرال "ديوران فييل" الذى شغل قبل مسئوليته فى شركة "قناة
السويس" منصب رئيس أركان حرب البحرية الفرنسية.. ومعهم "بنكنى تال"
الوزير المفوض الأمريكى فى سفارة بلاده فى القاهرة.. وخلال السنوات الأخيرة قبل
تأميم القناة, تم ضم "على الشمسى" و"إبراهيم عبود" من رجال
المال لعضوية مجلس الإدارة!
كان يحمى "قناة السويس" 80 ألف
جندى فى القاعدة العسكرية البريطانية, التى كانت الأكبر فى العالم.. وتلك القوات
لا تخضع لأى مسئول مصرى بداية من الملك, وحتى وزير الحربية أو رئيس الأركان.. كانت
جنسية الشركة فرنسية, وتحصيل رسوم المرور فيها يتم فى لندن.. وعندما سقطت "باريس"
خلال الحرب العالمية الثانية.. تم نقل مكاتب الإدارة الفرنسية إلى "الجزائر"!!
كان للشركة علم غير علم مصر, وجهاز أمن سرى – مخابرات – خاص.. ويتواصل باسمها
سفراء – خارجية خاصة – يمثلونها فى المحافل الدولية.. وكانت الهيئات الدولية
تدعوها لمؤتمراتها كهيئة مستقلة.. وكان للشركة سياسة خاصة تجاه إسرائيل بعد إعلان
قيامها, وتؤكد وثائقها أنها كانت تقدم تبرعات ودعم للحركة الصهيونية بمبالغ طائلة..
وكان رئيسها يستطيع مباغتة رئيس مصر – فاروق – بزيارة دون موعد سابق.. لذلك كانت
مرارته شديدة عندما رفض "جمال عبد الناصر" مقابلته وأشار عليه بلقاء
وزير التجارة حينما طلب موعدا.. وسجل ذلك فى مذكراته!!
تلك واحدة من الشركات متعددة الجنسيات التى تدير
عالم "أوف شور"
وعلى هذه الخلفية كتب "نيكولاس شاكسون"
مؤلف كتاب "مافيا الأموال المنهوبة" عن تأميم قناة السويس قائلا: "انهارت
أحلام أنتوني إيدن رئيس وزراء بريطانيا فى أن يهزم القومية العربية, خلال حرب
السويس التى ألحقت العار بالإمبراطورية التى كانت لا تغيب عنها الشمس.. فراحت
بعدها المؤسسات المالية فى لندن تجمع أشلاءها, وتبحث عن الأساليب التى تستعيد بها
وضعها كعاصمة لعالم يجب أن تحكمه مصالح نخبة مستثمرين.. بعد أن بعثر عبد الناصر
أوراقهم"!!
اتجهت بريطانيا فى لحظة انكسارها عام 1956
إلى تدوير عجلة "أوف شور" كبديل عن "قناة السويس" فكانت
الإيداعات بتلك البنوك مع نهاية عام 1956 تبلغ 20 مليون دولار أمريكي.. ووصل الرقم
إلى ثلاثة مليارات عام 1961.. وتولى اللورد "كرومر" محافظ البنك المركزى
تسريع دوران هذه العجلة.. وهو بالمناسبة حفيد "كرومر" الذى حكم مصر
كمندوب سامى وقت الاحتلال.. فظهرت جزر "البهاما" و"كايمان" وتم
إنشاء إذاعة "كارولين" لخدمة هذا العالم, وكانت تبث من إحدى سفن الأسطول
البريطانى.. وكان هدفها تجميل وتزيين معنى "أوف شور" ثم جعله شعبيا.. وبحلول
عام 1970 وصل حجم التدفقات المالية عبر هذه البنوك إلى 46 مليار دولار.. وبعدها
بخمس سنوات فقط, أصبح فى خزائن هذه البنوك ما يتجاوز حجم احتياطات كل دول العالم
من العملات الصعبة! وعندما وصلنا إلى الثمانينات بلغت أرصدتها ثروات تقدر
بالتريليون.. 2,6 تريليون.. لتستعيد بريطانيا هيبتها التى فقدتها فى "حرب
السويس" وتفرض على الولايات المتحدة وباقى الدول الكبرى أن تدخل معها حلبة
السباق!
فتحت الولايات المتحدة أبوابها لاستقبال "الأموال
القذرة".
يقول "مايكل هدسون" الخبير الاقتصادي
الأمريكي الشهير: "لقد أراد هؤلاء الذين دفعوا بلادنا لهذا الطريق, أن نحل
محل سويسرا لتأتى إلينا أموال الجريمة غير المشروعة لتمويل حرب فيتنام باعتبار أن
هذا عمل وطنى"! وظهر ذلك فى مدينة "ميامى" التى وصفها مقال فى "التايم"
بأنها عاصمة أمريكا اللاتينية المالية.. وبحلول الثمانينات أصبح 40% من أموال بنوك
"ميامى" من خارجها.. تحديدا من دول أمريكا اللاتينية.. وظهرت الفوائض فى
بنوك "فلوريدا".. أصبح هناك أكبر اليخوت التى تملكها شركات "أوف
شور" وتحولت إلى الملاذ المفضل لرؤساء أمريكا السابقين وجنرالاتها والأصدقاء
السابقين للمخابرات الأمريكية, وكلهم "رجال مال" تسبق أسماءهم صفة "مستثمر"
وتلاقت مصالح كل هؤلاء لتتخلق بيئة صديقة لجرائم الرأسمالية الأمريكية.. دفع ذلك
السينما الأمريكية إلى كشف بشاعة أدوار هؤلاء, فقدمت هوليوود فيلما رائعا قام
ببطولته "نيكولاس كيدج" إسمه "لورد الحرب" Lord of War
ليكشف كيف يتم تمويل الحروب الأهلية وإفساد قادة إفريقيا.
خلال مؤتمر "دافوس" عام 2001 تحدث "كوفى
عنان" الأمين العام للأمم المتحدة بصراحة مفزعة حين قال: "القارة
الإفريقية تعيش مأساة مروعة.. والسبب الرئيسى هو فساد زعمائها وساستها إلى درجة لا
يرجى معها فى الظروف القائمة إصلاحا"! وحين تعرف كل ذلك ستفهم سر تنافس عواصم
العالم الكبرى على تنظيم مؤتمرات لتنمية إفريقيا.. لتدور الآلة الإعلامية المضللة
وتحدث شعوب القارة عن تسامح تلك العاصمة أو تلك عن ديون لدولة إفريقية أو غيرها فى
مهرجانات سياسية تثير الغثيان!!
لا ثمن لمن يسقط فى عالم "أوف شور"!
إذا سقطت شركة كما حدث مع "ورلد كوم"
التى انهارت عام 2002, رغم أنها كانت قد نقلت لحساباتها 20 مليار دولار.. يتم
التعتيم على الموضوع, وقد يتم تسجيله كما يحدث فى أقسام الشرطة "ضد مجهول"!!
والأمر كذلك مع بنوك.. ربما لأن "جيمس ولفنسون" رئيس البنك الدولى قال
بصريح العبارة: "على البنك التعاطى مع سرطان الفساد"!! وبعدها أصبح المستثمرون
يتهافتون على البلدان الأكثر فسادا.. وأكبر مثال على ذلك أن المسئولين فى "نيجيريا"
لا يعرفون مصير 500 مليار دولار – خمسمائة مليار – بعد وفاة الرئيس "سانى
اباتشا" عام 1998 مسموما.. وكشف "نيجوزى اوكونجو" وزير مالية "نيجيريا"
بعدها أن سويسرا أعادت لهم 500 مليون دولار – خمسمائة مليون – وعندما سألته الصحف
عما أعادته بريطانيا.. ضحك وقال: "لقد خفضوا عبء ديون بلادنا!! وبعد مفاوضات
طويلة.. أعاد إلينا تونى بلير ثلاثة ملايين دولار"!! لا أظن بعد ذلك أن
علامات التعجب يمكن أن تكون مناسبة.. وهذه الأوضاع جعلت "دليل السرية المالية"
يضع الولايات المتحدة الأمريكية فى المركز الأول, وتراجعت بريطانيا للمركز الثانى
ثم جاءت سويسرا فى المركز الثالث و"كايمان" فى المرتبة الرابعة.. أما "لوكسمبورج"
فهى آخر قائمة الخمسة الأوائل!!
تحدث "جون موسكو" وهو محامى متخصص
فى قضايا مكافحة الجريمة فقال: "المشكلة أن المال سلطة ونحن نقوم بنقل هذه
السلطة إلى الحسابات المصرفية للشركات التى يديرها مستثمرون لا يحاسبهم أحد بمعنى
الكلمة" ويكفى أن نعلم عن تجارة المخدرات أنها تضخ 500 مليار دولار – خمسمائة
مليار – سنويا فى هذه البنوك.. وهذا رقم يتجاوز ميزانية أكبر دولة نفطية فى العالم..
وقد شجع رسوخ أقدام ذلك العالم, دول الاستعمار القديم إلى تعميم النموذج بتحويل
الدول التى تستهدفها إلى مجتمعات "أوف شور" وكانت البداية بالمملكة
العربية السعودية بعد حرب اكتوبر التى رفعت أسعار النفط بصورة مذهلة.. لكن تحفظ حكامها
جعل من يديرون هذا المشهد ينقلون عطاءهم على إمارة "دبى" لكى تلحق بنجاح
تحقق فى "سنغافورة" و"هونج كونج" لتصبح تلك النماذج حلما
للذين يراهنون على السراب!!
تلك كانت من نتائج تأميم "قنا السويس"...
تغيرت رؤية الاستعمار لنهب الشعوب, وتغيرت
الأدوات والوسائل.. أصبح "رجال المال" هم الرافعة لأموال وثروات يصعب
تقديرها لأعلى حيث الملاذات الآمنة.. ولم تعد ثمار التنمية تسقط لأسفل على الشعوب..
ولعلنا نذكر بدايات الذهاب إلى هذا الطريق, حين سمعنا عن "الانفتاح الاقتصادى"الذى
وصفه "أحمد بهاء الدين" بأنه "انفتاح السداح مداح" وعرفت مصر
كلمة استثمار.. ثم ذاقت نار "المستثمرين" الذين أصبحوا يساومون دولا, دون
أن يسهموا فى تنمية حقيقية.. ليظهر بعد ذلك تعبير فخيم يردده خبراء الاقتصاد اسمه "التنمية
المستدامة" وهى التنمية القائمة على خدمات بالدرجة الأولى, لتستمر عملية حلب
الأبقار التى توجد ضروعها فى بنوك وشركات "أوف شور" وهو التشبيه الذى
أطلقه واحد من أعظم خبراء مصر فى الاقتصاد, وهو "عبد الجليل العمرى" الذى
قال عن الاقتصاد المصرى قبل ثورة 23 يوليو: "كان بقرة ترعى فى مصر ويتم حلبها
فى بريطانيا"!!
إلى أين يمكن أن يأخذ نظام "الأوف شور"العالم؟!
هذا لم يعد سؤالا.. أصبح صداعا مزمنا فى رأس
كل من يدرك خطورته على المستقبل الذى بات قريبا.. لكن الدول الكبرى التى لا يتوقف
تدفق الثروات عليها, لا يهمها العالم.. فكل ما يعنيها أن هذا نظاما أعطاها ما لا
تحلم به من ثروات الدنيا, بأيدى أفراد وعصابات تستمتع بنهب مليارات البشر وتستثمر
فى إفقارها ونهبها.. وهى ليست نظرة فيها تشاؤم على الإطلاق.. لأن الشعوب حين تدرك
الحقائق, تقدر على ابتكار وسائلها لإنقاذ بلادها.. وهذا سبق أن حدث بتأميم "قناة
السويس"..
يتبع
0 تعليقات