أحمد الميرزا
تبيّن هذه الآيات أن
الناقة لم تُخلق كمعجزة، وإنما هي حُرمتها التي جُعلت معجزةً، حيث أنذر صالح
بالعذاب كلّ مَن يتعرض لها بالسوء. لو كان خلقها آيةً -كما يزعمون- لقال: لقد سبق
أن خلقت الناقة من الجبل كمعجزةٍ استجابة لمطلبكم، ولكنه ينذر بالعذاب من يهدد
حريتها في الشرب.
ما هو الإعجاز في
الناقة؟
تبيّن هذه الآيات أن
الناقة لم تُخلق كمعجزة، وإنما هي حُرمتها التي جُعلت معجزةً، حيث أنذر صالح
بالعذاب كلّ مَن يتعرض لها بالسوء. لو كان خلقها آيةً -كما يزعمون- لقال: لقد سبق
أن خلقت الناقة من الجبل كمعجزةٍ استجابة لمطلبكم، ولكنه ينذر بالعذاب من يهدد
حريتها في الشرب.
أما السؤال: كيف
صارت الناقة آيةً، فالجواب عليه كان من
عادة ملوك العرب وغيرهم أن يطلقوا بعض الماشية هكذا حرةً تأكل وترتع في حرث الناس
حيث تشاء، وذلك كعلامة على قوتهم وسلطانهم، معلنين بين القوم أن من تعرض لها بسوء
أهلكناه. ووفق هذه العادة الشائعة سرّح صالح عليه السلام ناقته بأمر من عند الله
تعالى، جاعلاً حريتها علامةً على سلطته السماوية، معلنًا لهم أن لا يمسّوها بسوء،
وإلا فسيكون هذا بمثابة خروجهم على حكومة السماء، وسوف يحل بهم العذاب.
هل أفسدت الناقة
أملاك الآخرين؟
ولو قال قائل: إنه
لا يليق بنبي من أنبياء الله أن يفعل كما يفعل ملوك الدنيا الطغاة، فيطلق فحلاً
يأكل في حرث القوم ويفسده، ثم يهدّد هو بالويل والدمار لمن يمنعه من فساد زرعه! فجوابه
هو أنه لا شك في أن هذا لا يليق بالنبي، ولكن صالحًا لم يكن يقلّد هؤلاء الطغاة إذ
لم يقل بأن ناقتي سوف ترعى في أي أرض وفي أي حرث، بل قال: {فذَروها تأكلْ في أرض
الله} .. أي سترعى في الأرض التي لا يملكها أحد، لأن {أرض الله} هي ما لا يكدح أحد
في زراعتها، وإنما هي خالية من الزرع، تنبت العشب والكلأ بما ينزل عليها من ماء
السماء.
أن صالحًا عليه
السلام قد أراد بقوله: {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ} أن ذروني أتحرك
عليها بحرية في أسفاري التبليغية ولا تمنعوني من أن أنتقل عليها من مكان إلى آخر
لأداء واجباتي الدينية. ومثل هذا المجاز كثير في جميع اللغات حيث يراد بمنع المركب
منعَ الراكب، لأنهم إذا أرادوا إيقاف راكب أوقفوا مطيته. فيبدو أن القوم كانوا
يحولون دون رحلاته التبليغية ولا يدَعونه يتحرك بحرية هنا وهناك، فنهاهم الله عن
ذلك قائلاً: دعوا ناقته تذهب به حيث يشاء لتبليغ رسالة ربه. ولكنهم قتلوا الناقة،
أو بتعبير آخر، أخبروه عمليًا أنهم لن يسمحوا له بالتبليغ في بلدهم بهذه الحرية. فأخذهم
العذاب الذي دمّرهم تدميرًا.
وقد يكون للآية
مفهوم آخر، وهو أن صالحًا عليه السلام كان قد أدرك أن احتكاكه بالقوم يؤدّي إلى
المزيد من الفتنة والفساد فأراد أن يتحاشى الاصطدام بهم. وبما أن العيون والمراعي
هي ملتقى القوم عمومًا، امتنع -بأمر من الله- عن أخذ ماشيته إلى المراعي العامة،
وصار يرعاها في أرض نائية لا يملكها أحد. كما توقف عن إيراد ناقته الماء في الموعد
المعتاد عمومًا، بل اتخذ لذلك موعدًا آخر حيث لا يكون فيه الرعاة الآخرون. ثم أعلن
للقوم: ها قد اتخذت أنا وأتباعي كل تدبير ممكن لتفادي الفتنة، متكبدين المشقة
والعناء، إذ تركنا المواعيد والمراعي التي قد تؤدي إلى الاحتكاك والاصطدام بكم. فإذا
أثرتُم الفتنة والفساد بعد ذلك فسيكون معناه أنكم لا تريدون أن نعيش ونحيا، وعندئذ
سوف يحل بكم العذاب من عند الله تعالى.
قَالُوا إِنَّمَا
أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ . مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ
بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ . قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ
وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ . وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ
عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ . فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ . فَأَخَذَهُمُ
الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ . وَإِنَّ
رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ سورة الشعراء 154-160
لما وعظهم صالح عليه
السلام قالوا: يا صالح إننا نرى أن أحدًا يُطعِمك .. أي أنك تتلقى الرشوة من قبل
بعض أعدائنا لتتآمر علينا.
لقد أُثير هذا
الاعتراض ضد كل نبي في كل عصر، فمثلاً اتهم الكافرون نبينا صلى الله عليه
واله وسلم بأن قومًا آخرين يعينونه،
أما قولهم: {مَا
أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا … الخ} فيعني أنه لا فضل لك علينا، إذ لست إلا بشرًا
كأي واحد منا. فإذا كان لك علينا فضل، وإذا كنت صادقًا في دعواك، فأْتِنا بما عندك
من آية. فأجابهم صالح عليه السلام: حسنًا، هذه ناقتي قد جعلها الله تعالى آية
لاختباركم. عندما تجتمعون على الماء تعيثون الفساد، ولكن من الآن فصاعدًا ستكون
لناقتي نوبة لشرب الماء وتكون لكم ولأنعامكم نوبة في وقت آخر، فلا تتعرضوا لناقتي
بأذى وإلا فسوف يأخذكم عذاب يوم عظيم. ولكنهم قطعوا قوائم الناقة ثم أصبحوا نادمين.
هل كان لناقة صالح
مزايا خاصة؟
يقول المفسرون في
تفسير هذه الآيات إن ناقة صالح عليه السلام كانت ذات مزايا خصوصية، بل قد نسج
بعضهم حولها قصصًا غريبة، حيث يقولون إن القوم أتوا صالحًا وقالوا: لن نؤمن لك حتى
تخلق ناقة من الجبل. فدعا الله تعالى، فخرجت الناقة من الجبل بل ولدت مِن توِّها
ولدًا بحجمها (الدر المنثور: سورة الأعراف، قوله تعالى: {وإلى مدين أخاهم شعيبًا …
إلى قوله تعالى: ولكن لا تحبون الناصحين}). وكل هذه القصص ترهات لا علاقة لها
بالقرآن الكريم. فإن القرآن الكريم لا يعتبر ولادة هذه الناقة آية إنما يعتبر
حُريتها في التنقل هنا وهناك آيةً حيث حذرهم صالح عليه السلام أنهم لو آذوا ناقته
لأخذهم العذاب. وليس ذلك لأن الناقة في حد ذاتها كانت ذات أهمية، بل لأن صالحًا
عليه السلام كان يخرج عليها في البلاد في رحلاته التبليغية. لم يكن في ذلك الزمن
سيارة ولا قطار ولا طائرة، وكانت الناقة هي الوسيلة الوحيدة للسفر، فكان صالح عليه
السلام يخرج على ناقته للدعوة والتبليغ، وكان معارضوه غير راضين بجهوده التبليغية،
فكان من المحتم أن يعيقوا رحلاته ويمنعوه من التنقل من هنا إلى هناك من أجل
التبليغ. فلما تجاوزوا الحد في شرورهم جعل الله تعالى الناقة آية لهم، وقال لهم دعوها
تتنقل بصالح حيثما شاء ولا تُعيقوا جهوده التبليغية، وإلا سيأخذكم العذاب. فاعتبروا
تحذيره ضربًا من الخبل والجنون، وازدادوا بغيًا وطغيانًا، وقطعوا قوائم الناقة. وكأنهم
قد تحدّوا الله تعالى وقالوا لن نسمح لصالح برفع اسمه تعالى في أرضنا. فلما أرادوا
إغلاق أبواب بلادهم في وجه الله تعالى أغلقَ أبوابها في وجوههم، وضربهم بسيف قهره
وعذابه. لا شك أنهم عندما رأوا العذاب أصبحوا نادمين، ولكن كان ذلك بعد فوات
الأوان.
0 تعليقات