آخر الأخبار

جغرافية الصراعات العرقية في اثيوبيا ومستقبله




 

 

 

محمود جابر

 

 

مع تفاقم وتيره الصراعات العرقية في اثيوبيا، وما سببته من عمليات نزوح داخلي، نسعى هنا الى رصد الأسباب المباشرة و الظروف التي ساهمت في تصاعدها ، فضلا عن محاولة فهم قضايا العرق والاثنية والقومية في اثيوبيا، و أطروحات الجماعات المختلفة ، وأثر ذلك على البنية الاجتماعية

 

هذا وقد كشف العديد من التطورات الأخيرة عن أزمة حقيقية في علاقة المركز والأطراف في إثيوبيا، فقد دخلت الحكومة المركزية الفدرالية فى عدد من المواجهات المسلحة في أقاليم تيجراي وأوروميا وبني شنقول- جوموز، فضلاً عن نشوب موجة من الاشتباكات العنيفة بين إقليمي العفر والصوماليين، وداخل إقليم الجماعات الجنوبية، ورغم التحالف الاثيوبى الاريترى الا ان كل هذه المواجهات انتهت بفشل حكومة أبى أحمد لصالح هذه الأقاليم .

 

وتشكل الأوضاع المضطربة في العديد من الأقاليم الإثيوبية مصدراً رئيساً لتهديد استقرار النظام السياسي ووحدة الدولة وتماسكها، وهو الأمر الذي يكون من المفيد معه رصد الأوضاع القائمة في مختلف الأقاليم الإثيوبية من خلال عدد من المؤشرات أهمها علاقة حكومة الإقليم بالحكومة الفدرالية، ومدى حضور حزب الازدهار الحاكم في كل من هذه الأقاليم ، فضلاً عن الوضع الأمني وحالة الصراعات في مختلف الأقاليم ومن ثم استشراف المآلات المختلفة للدولة الإثيوبية في المستقبل، ما بين خيار إطلاق عملية تغيير جذري لدستور البلاد لإعادة صياغة علاقة العاصمة بالأقاليم، أو خيار الاستمرار في صيغة الفدرالية الإثنية بما تمنحه لحكومات الأقاليم من صلاحيات معززة.

 

 

النظام الفيدرالي:

 

بداية و لفهم طبيعة الصراعات العرقية، ينبغي محاولة فهم الأساس الذي انطلقت منه، والمتمثل في نظام "الفيدرالية الإثنية" والذي تم التنصيص عليه دستوريا في العام  1994 كبديل لمركزية الدولة، حيث تم إعلان إثيوبيا جمهورية فيدرالية مكونة من تسعة أقاليم وهي :  التجراي، الأمهرا ، العفر ، الصومال ، الأورومو ، الشعوب الجنوبية ، بني شنقول ، هرر ، جامبيلا، إضافة إلى مدينتين  ذو وضع خاص وهي "أديس أبابا" و "ديرداو".

 

يجمع نظام "الفيدرالية الإثنية" بين النظام الفيدرالي الأميركي والنظام الشيوعي الذي يتضمن حق القوميات في الانفصال، فيما يتمتع كل إقليم بأغلب خصائص الدولة ( مجتمع، حكومة، برلمان، شرطة، وقضاء .. الخ) مع تنازله عن جزء من السيادة لصالح مؤسسات أمنية وعسكرية فيدرالية، تتولى الحماية ولا تتدخل ‏في الشؤون الداخلية..

 

الدوافع والأسباب:

 

.....  بناء على هذه المعطيات يمكن أن نجمل أسباب الصراعات العرقية فى محورين:

 

الأول : تنامي النزعة العرقية

 

بعد تقسيم إثيوبيا بشكل منهجي إلى مجتمعات عرقية وثقافية، بناء على الدستور الجديد، تم ولأسباب مختلفة، أدراج عرقيات وقوميات غير متجانسة، ضمن إقليم واحد، كان المنطق السياسي حينها لهذا الأمر يرى  ضرورة تلبية مشروع "وحدة الأرض"، دون النظر لاعتبارات العرق، بيد ان المعارضون لهذا التقسيم لم يتوقفوا يوما عن "سؤال الهوية" التي كانت حينها محصورة في المكون الثقافي، حيث كانت النخب المتعلمة من أبناء هذه الفئات، تنتظم في مجموعات غرضها التعريف بتراثها الذي يشكّل جزءًا مهمًّا من هوية مجتمعهم وتاريخه، مع الاعتراض عن تغييبه عن الفضاء العام.

 

 لكن  وبعد وصول رئيس الوزراء الاثيوبي "أبي احمد" للسلطة، وبدء مرحلة الانفتاح السياسي ، بدأت قضية الهوية  تأخذ  أبعادًا وامتدادات أكبر ، وتحولت من قضية ثقافية إلى قضية ذات أبعاد سياسية، حيث ارتفعت أصوات عدد من القوميات المطالبة باعتراف رسمي بعرقيتها ، مما أعاد تعريف هذه النزعة القومية و قضية "سؤال الهوية" لا بوصفها قضية تهميش لغوي وثقافي ، وإنما تهميش اقتصادي واجتماعي وسياسي، اذ شكلت هذه الثنائية مجمل خطابات العرقيات المطالبة بالاعتراف.

 

يكمن الإشكال، في ان الاعتراف بهوية هذه العرقيات، سوف تترتب عليه إجراءات أخرى  حيث تتمثل مقومات الفيدرالية الإثيوبي في  نمط  الحدود الإدارية للأرض، واللغة والهوية " العرقية" ورضاء الشعوب المعنية، ، ومع الاعتراف الرسمي بهذه العرقيات ، تكتمل فيها شروط التحول من محافظة الي إقليم ، له سلطة سياسية يتمتع بإدارة ذاتية لأراضيه وموارده، و هو ما سيكون قطعا خصما على سلطات وموارد عرقيات أخرى، كانت لسنوات تتسيد هذه الأقاليم وتتمتع بإدارته المطلقة، وبالتالي نشوب الصراعات بين العرقيات التي تطالب بحقها بالاعتراف ، والعرقيات التي تدير هذه الأقاليم ، وذلك مثل صراع عرقية "سيداما" و "قوراقي" وغيرها في إقليم جنوب شعوب إثيوبيا ، وأيضا صراع عرقية "قمأنت" في إقليم امهرا ، وصراع عرقية "رايا" في إقليم تجراي.

 

هذه الصراعات العرقية، هي نتيجة طبيعية للانفتاح السياسي، لاسيما في ظل مجتمع عانى من الاستقطاب العرقي لعقود وبالتالي فان حريات التعبير الجديدة المتاحة، تعتبر مساحة ثرة  لإظهار المظالم المكبوتة ، ما يُذكي النزاعات العرقية، فيتسع حجمها وتصبح أكثر ضراوة ، يعززه ذلك  نظام سياسي يعتمد العرقية في تكوين الأحزاب والحركات السياسية ، وبالتالي من الطبيعي ان تسعى هذه  الأحزاب إلى توسيع قاعدتها عن طريق الاستقطاب العرقي وليس عن طريق البرنامج السياسي، لاسيما بعد نجاح مظاهرات أورومو وما تبعها من تغيير أدى الي وصولهم للسلطة ، وهو ما شجع  المجموعات الأخرى للمطالبة بحقوقها.

 

ان استثمار هذا المناخ و المطالبة بالحقوق هو نتيجة طبيعة لعدم تحقيق التجربة الفيدرالية الإثيوبية أهدافها الحقيقة،  طيلة الـ 27 الماضية، فالجماعات الإثنية  لم تحقق أيًا من آمالها المنشودة في توزيع السلطة والثروة من خلال التحول للشكل الفيدرالي، وما بدا من نجاح ظاهري في تحقيق قدرٍ كبيرٍ من الاستقرار في إثيوبيا، لا يرجع بالأساس إلى إتباع الشكل الفيدرالي ، وإنما مرده إلي إحكام الائتلاف الحاكم قبضته َ و هيمنته  على كافة مناحي الحياة على مستوى كامل الإقليم الإثيوبي، واستبعاد أي من الكيانات الأخرى من المشاركة في عملية الحكم، وبالتالي فإن الاستقرار الذي تحقق هو استقرارٌ قمعيٌ كان متوقعا   ان يتزعزع في اي لحظة متى  ما اختلفت خريطة التحالفات السياسية .

 

الثاني : النزاع في ملكية الاراضي

 

 صداع اثيوبيا المزمن، هي " الأرض" حيث عانت أثيوبيا طوال تاريخها السياسي والتاريخي من قلاقل و أزمات بسبب القضايا المتعلقة بملكية الأراضي، فمنذ عهد الإمبراطور هيلي سلاسي ، والثورة على الإقطاعية، إلى عهد النظام الشيوعي ثم الائتلاف الحاكم ، وحتى الأعوام الثلاثة الأخيرة وما صاحبها من احتجاجات متتالية منذ عام 2015  جمعيها ارتبطت بملكية الأراضي.

 

في العقود الأخيرة ، و بحكم الجفاف الذي أصاب عدد من المناطق الإثيوبية، باتت المنافسة بين العرقيات الإثيوبية على الموارد - حيث يمتهن البعض  الرعي  و يمارس الآخرون الزراعة -  يأخذ  شكلا عنيفا ويتحول الى صراعات عرقية، هذه التركيبة ، زادت تعقيدا بعد إقرار الدستور الفيدرالي الإثيوبي ، والذي منح كل عرقية حكما ذاتيا لإدارتها الإقليمية ، وبالتالي أعيدت صياغة العلاقة بين القوميات الإثيوبية ، في سياق سياسي جديد، ما أسهم  في إعادة تشكيل المنافسة القائمة على الموارد،  بخطاب سياسي، و أصبحت المطالبات الإقليمية مركزا للصراعات.

 

ترسيم الحدود بين الأقاليم، كان هو الحل الذي اقترح لحسم هذا الصراعات بشكل جذري ، بيد ان الحالة الاجتماعية والاقتصادية في مناطق يعتمد سكانها على الزراعة و  الرعي للمعيشة، والذي يتطلب  التنقل والارتحال الموسمي، فضلا عن الاستخدام الواسع للبيئة، حال دون إمكانية ترسيم خط متين يفصل بين المجتمعات المتجاورة، وبالتالي ومع تناقص القبضة الأمنية ، اتجهت المجموعات  العرقية الي سياسية وضع اليد على الأرض وهو ما تسبب في ردة فعل عكسية، أسهمت في نشوء الصراعات، مثل الصراع بين إقليم اروميا وإقليم الصومال، والصراع بين إقليم بني شنقول وإقليم امهرا ، الصراع بين أثنية العفر واثنية العيسى ، وغيرها من الصراعات.

 

صراع الحدود والعرقيات الاثنية هو مسار يتضمن خسارة مباشرة لكل الأطراف داخل إثيوبيا، ويفرض تهديدات كبيرة على العديد من دول جوارها المباشر وغير المباشر.

 

مع وجود إشكالية كبرى فى سؤال الهوية يعززها العرق والصراع على الأرض كل هذا يجعل مسار التفكك يتطور بشكل سريع وآلى، وفقا للدستور 1994 فى مادته 39والتى تتيح لأي من الأقاليم الإثيوبية الشروع في إجراءات الانفصال عبر خطوات معقدة لكنها غير مستحيلة عملياً.

كل هذا فى ظل حرب مساعرة فى التجراى وبنى شنقول واوروميا والأقاليم الجنوبية كل هذا يصعد الحالة الإثيوبية من الاقتراب من انهيار الاتحاد الفيدرالي وتفكك الدولة ...

 

 

 


إرسال تعليق

0 تعليقات