محمود جابر
لا يختلف البخاري عن
الكافي، ولا الكركى عن مسلم بن الحجاج، فكلهم كتب لم يتثنى لأصحابها التحقق من
رواياتهم التى كتبوها، لم يكن لديهم مكتبات كما لدينا ولا وقت وبحث علمى بالطريق
التى أصبحت مشهورة ومعروفة، ولكن هؤلاء صنعوا لنا إشكالات لا يقبلها العقل، ولا
المنطق ورحنا نستغرق فى البحث والتخريج لرد هذه الإشكالات التى اعتبرناها مسلمات
لا تقبل التأويل ولا التعديل ولا المراجعة، وكل ما يمكن فعله هو البحث عن مخرج من
المأزق بأن نستنطق الأحداث لنقول ان الحكمة المخفية وراء هذا الفعل كان كذا !!
ومحور الحديث عن
زواج النبى من السيدة عائشة وما تفرع منها من أحكام وتأويل للنص القرآنى، فقد روى
البخارى - باب تزويج النبى عائشة وقدومها المدينة وبنائه بها-3894: حدثنى فروة بن
أبى المغراء: حدثنا على بن مسهر، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضى الله عنها قالت: «تزوجنى
النبى صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست سنين، فقدمنا المدينة،... فأسلمتنى إليه،
وأنا يومئذ بنت تسع سنين».
فالحديث الذى رواه
البخارى يقول انها تزوجها فى مكه عن عمر ست سنوات وبنى بها – اى دخل بها- وهى بنت
تسع سنوات !!
وما ذهب اليه
البخارى كان إجماع – للأسف- عند غيره رغم اختلاف المذهب والرواة والمباني الحديثية
والرجالية !!
وهناك خلاف قديم فى
سن السيدة عائشة عند زواجها من النبى عليه السلام، ما بين الروايات التى تنقلها
أغلب كتب التراث الإسلامى، وما بين الروايات الحديثة.
هذا الأمر لم يتوقف
عند المدونات الحديثية والروائية بل تعداها الى أمهات كتب التاريخ والسيرة المؤصلة
للبعثة النبوية ( الكامل- تاريخ دمشق - سير اعلام النبلاء - تاريخ الطبرى - البداية
والنهاية - تاريخ بغداد - وفيات الأعيان، وغيرها الكثير).
والجميع يكاد يكون متفقة على الخط الزمنى لأحداث
البعثة النبوية كالتالى:
البعثة النبوية
استمرت (13) عاما فى مكة (610-623م).
و(10) أعوام
بالمدينة (623- 633م).
المتفق عليه أن
الرسول تزوج (عائشة) قبل الهجرة للمدينة بثلاثة أعوام، أى فى عام (620م), وهو ما
يوافق العام العاشر من بدء الوحى، وكانت تبلغ من العمر (6) سنوات, ودخل بها فى
نهاية العام الأول للهجرة أى فى نهاية عام (623م), وكانت تبلغ (9) سنوات, وذلك ما
يعنى حسب التقويم الميلادى أى أنها ولدت عام (614م), أى فى السنة الرابعة من بدء
الوحى حسب رواية البخارى، وهذا خطأ وقع فيه الجميع دون استثناء ..
البحث عن الخطأ:
ابن كثير :
ذكر (ابن كثير) فى (البداية
والنهاية) عن الذين سبقوا بإسلامهم: «ومن النساء... أسماء بنت أبى بكر وعائشة وهى
صغيرة فكان إسلام هؤلاء فى ثلاث سنين ورسول الله يدعو فى خفية, ثم أمر الله عز وجل
رسوله بإظهار الدعوة», وبالطبع هذه الرواية تدل على أن (عائشة) قد أسلمت قبل أن
يعلن الرسول الدعوة فى عام (4) من بدء البعثة النبوية, يما يوازى عام (614م), ومعنى
ذلك أنها آمنت على الأقل فى عام (3) أى عام (613م), فلو أن (عائشة) على حسب رواية (البخارى)
ولدت فى عام (4) من بدء الوحى, معنى ذلك أنها لم تكن على ظهر الأرض عند جهر النبى
بالدعوة فى عام (4) من بدء الدعوة, أو أنها كانت رضيعة, وهذا ما يناقض كل الأدلة
الواردة, ولكن الحساب السليم لعمرها يؤكد أنها ولدت فى عام (4) قبل بدء الوحى أى
عام (606م), ما يستتبع أن عمرها عند الجهر بالدعوة عام (614م), يساوى (8) سنوات
وهو ما يتفق مع الخط الزمنى الصحيح للأحداث, وينقض رواية البخارى.
مسند احمد :
أخرج الإمام (أحمد) فى
(مسند عائشة): «لما هلكت خديجة جاءت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون فقالت: يا
رسول الله ألا تتزوج, قال: من، قالت: إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا, قال: فمن البكر
قالت: أحب خلق الله إليك عائشة ابنة أبى بكر», وهنا يتبين أن (خولة بنت حكيم) عرضت
البكر والثيب, على النبى فهل كانت تعرضهن على سبيل جاهزيتهن للزواج, أم على أن
إحداهما طفلة يجب أن ينتظر النبى بلوغها النكاح, المؤكد من سياق الحديث أنها
تعرضهن للزواج الحالى بدليل قولها (إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا) ولذلك لا يعقل أن
تكون عائشة فى ذاك الوقت طفلة فى السادسة من عمرها, وتعرضها (خولة) للزواج بقولها (بكرا).
أخرج الإمام (أحمد) أيضا
عن (خولة بنت حكيم) حديثا طويلاً عن خطبة عائشة للرسول، ولكن المهم فيه ما يلى: «قالت
أم رومان: إن مطعم بن عدى قد ذكرها على ابنه, ووالله ما وعد أبو بكر وعدا قط
فاخلفه... لعلك مصبى صاحبنا», والمعنى ببساطة أن (المطعم بن عدى) وكان كافرا قد
خطب (عائشة) لابنه (جبير بن مطعم) قبل النبى الكريم, وكان ( أبو بكر) يريد ألا
يخلف وعده, فذهب إليه فوجده يقول له لعلِّى إذا زوجت ابنى من (عائشة) يُصبى أى (يؤمن
بدينك), وهنا نتوقف مع نتائج مهمة جدا وهى: لا يمكن أن تكون (عائشة) مخطوبة قبل سن
(6) سنوات لشاب كبير- لأنه حارب المسلمين فى بدر وأحد- يريد أن يتزوج مثل (جبير), كما
أنه من المستحيل أن يخطب (أبو بكر) ابنته لأحد المشركين وهم يؤذون المسلمين فى مكة,
مما يدل على أن هذا كان وعدا بالخطبة, وذلك قبل بدء البعثة النبوية حيث كان
الاثنان فى سن صغيرة، وهو ما يؤكد أن (عائشة) ولدت قبل بدء البعثة النبوية يقينا.
عباس العقاد :
وفى كتاب "الصدِّيقة
بنت الصدِّيق" للأديب الكبير عباس محمود العقاد، وهو يضع سن آخر للسيدة عائشة
يوم زفت إلى الرسول، ويرجح انها كانت لا تقل عند زفافها بالنبى عن الثانية عشرة
ولا تتجاوز الخامسة عشر بكثير، فقد جاء فى بعض المواضع من طبقات ابن سعد أنها خطبت
وهى بنت التاسعة أو السابعة، ولم يتم الزفاف كما هو معلوم إلا بعد فترة بلغت خمس
سنوات فى أشهر الأقوال، ويؤيد هذا الترجيح أن السيدة خولة اقترحتها على النبى وهى
فى السن المناسبة للزواج، ويؤيد هذا
الترجيح أيضا، أن السيدة عائشة كانت مخطوبة لجبير بن مطعم قبل خطبتها إلى النبى،
وأن خطبة النبى كانت فى نحو السنة العاشرة للدعوة كما مر من روايات المسند.
وهنا نحتاج الى بناء
خط زمنى لعمر السيدة عائشة وفق الروايات :
توفيت اسماء بنت ابى
بكر أخت السيدة عائشة وهى فى عمر المائة عام، وذلك عام 73هـ.
أسماء توفيت
73هـ, وهى تبلغ (100) سنة فيكون ( 100-73=27 سنة) وهو عمرها وقت الهجرة النبوية, وذلك
ما يتطابق كليا مع عمرها المذكور فى المصادر التاريخية.
فإذا طرحنا من عمرها (10) سنوات- وهى السنوات
التى تكبر فيها أختها (عائشة)- يصبح عمر (عائشة) (27-10=17سنة) وهو عمر (عائشة) حين
الهجرة.
ولو بنى بها - دخل بها - النبى فى نهاية العام
الأول يكون عمرها آنذاك(17+1=18 سنة) وهو ما يؤكد الحساب الصحيح لعمر السيدة (عائشة)
عند الزواج من النبى، وما يعضد ذلك أيضا أن (الطبرى) يجزم بيقين فى كتابه (تاريخ
الأمم) أن كل أولاد (أبى بكر) قد ولدوا فى الجاهلية, وذلك ما يتفق مع الخط الزمنى
الصحيح...
0 تعليقات