آخر الأخبار

ابن تيمية…. رؤية موضوعية

 


 

عز الدين البغدادي

 

يعد أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم الحراني المشهور بابن تيمية واحدا من أهم الشخصيات التي تركت أثرا كبيرا في الإسلام، وذلك بسبب مواقفه في حياته وكثرة تأليفاته فضلا عن آراءه الجريئة وتطرفه. وقد تعرض الرجل الى كثير من المدح والقدح، وكثر محبوه ونقاده وأفتى بعضهم ضده لمخالفته الفتاوى السائدة.

 

ولد سنة 661 ه، من أسرة علمية وعرف بهذا اللقب (على الأرجح) لأن جده محمد بن الخضر كانت أمه تسمى تيمية وكانت واعظة، فنُسب إليها، وعُرف بها. وهو من قبيلة بني نمير على المشهور، وقيل من سليم، وقال بعضهم أنه كردي.

 

مما لا شك فيه أنه كان ذكيا متبحّرا في العلم، جرئيا في طرح آرائه. إلا أنه أيضا كان معجبا بنفسه متحاملا على خصمه، شديد التسفيه له والتهجّم عليه وهو ما عرضه لمواقف صعبة، وممن ذكر ذلك ابن الوردي حيث قال في تاريخه: هو أكبر من أن ينبّه مثلي على نعوته، فلو حلفتُ بين الركن والمقام لحلفت أنّي ما رأيت بعيني مثله، ولا رأى هو مثل نفسه في العلم. وكان فيه قلّة مداراة وعدم تؤدة غالبا…..  وأعان أعداءه على نفسه…

 

أما ابن بطوطة فقد التقى الرجل عندما مرّ بدمشق، وذكر موقفا رآه منه فقال: وكان بدمشق من كبار الفقهاء الحنابلة تقيّ الدين ابن تيمية كبير الشام يتكلم في الفنون؛ إلا أن في عقله شيئاً. وكان أهل دمشق يعظمونه أشدّ التعظيم، ويعظهم على المنبر........

 

وإذا أضفت إلى ذلك ما كان من أسلوب غريب اطلعت عليه، فأظن أنّ الرجل كان يحب أن يخالف وإلا فمما لا معنى له أن يتشدّد على من نفى الجسمية عن الله حتى يوهم كلامه بأنّه مجسم ثم يرجع ليثبت أنّه ليس مجسّما بل ينكر على نفي الجسميّة لأن السلف لم ينفوا الجسمية وغير ذلك مما لا يقبل ولا يعقل.

 

ويقول بأنّ كلام الله بصوتٍ وحرف، ثم يقول بعد ذلك لا كأصواتنا، وهذا قول عجيب لا يمكن أن يتركب أو يتمثّل في الذهن. وربّما تجد له قولا في مسألة يصرّح بها في بعض كتبه التي لا يطلع عليها الجمهور ككتاب "العرش" وكتاب " التأسيس في الرد على أساس التقديس"، كما انه يثبت حديث الشاب الأمرد وينفيه ويثبت جلوس النبيّ (ص) على العرش وينفيه. ولم يكن الحصني بعيدا عن التشخيص حيث قال: وذكر أمورا كلها تلبيسات وتجريات خارجة عن قواعد أهل الحق والناظر فيها إذا لم يكن ذا علوم وفطنة وحسن رؤية ظنّ أنها على منوال مرضي ومن جملة ذلك بعد تقريره وتطويله إن الله معنا حقيقة وهو فوق العرش حقيقة كما جمع الله بينهما في قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء وهو معنا أينما كنا هذه عبارته بحروفها فتأمل أرشدك الله تعالى هذا التهافت.

 

بل تهجم على عمر بن الخطاب، وهذا أمر عجيب فقد ذكر ابن حجر الهيثمي في الفتاوى الحديثية: وكنتُ ممن سمعه وهو على منبر جامع الجبل بالصالحية وقد ذكر عمر بن الخطاب (رض) فقال: إن عمر له غلطات وبَليَّات وأيَّ بليّات!

 

ويبدو ان الرّجل كان يحبّ إثارة الناس إليه ولو من حيث لا يشعر، وربّما أعانه على ذلك أنّه كان عالما متبحرا فلعل هذا جعل في نفسه غرورا، كما إنّ الناس كان لها اعتقاد به وتميل إليه ربّما بسبب ما كان عليه من تقشف وشجاعة.

 

من قلّة الإنصاف عنده ما يطرحه من تأويلات غير مقبولة إذا بلغ الأمر لآل البيت (ع) كما في الأحاديث التي وردت في فضل علي بن أبي طالب (ع)، أو فيما تجد له من آراء في واقعة ألطف ونحو ذلك مما يتعلّق بآل البيت. وان كان في مواقف أخرى يغير عباراته بشكل ألطف، حيث وصف الإمام الصادق (ع) في احد كتبه بأنه: شيخ علماء الأمة.

 

الرجل ذكي جدا، ويكفي ان تنظر في  كتابه "درء تعارض العقل والنقل" أو في كتابه العجيب "نقد الآراء المنطقية" لتشعر بانبهار شديد وهو يناقش الآراء المنطقية بقوة وتمكن، وهو صاحب العبارة الشهير عن المنطق: الذكي لا يحتاج إليه والبليد لا ينتفع منه.

 

 تحسب له آراء فقهية هامة منها رأيه في الطلاق الذي وسع فيه شيئا من تضييق مذاهب أهل السنة، فأفتى بأن الطلاق بالثلاث دفعة واحدة لا يقع إلا طلقة واحدة، وأن طلاق السكران لا يقع، والغريب انه احتج في كتابه الذي كتبه في ذلك بأقوال الامامية‼ كما انه أفتى بالحاق ولد الزنا بأبيه، وله رأي هام في قضاء الصلاة فيه توسعة وتيسير.

 

أما موقفه من الشيعة، فقد كان يرى أنهم مبتدعة مثل القدرية (المعتزلة) ولم يكن يكفرهم خلافا لما يعتقده كثير من غلاة سلفية أهل السنة ومن الشيعة معا، ولهذا جمعهما (أي الشيعة والمعتزلة) في كتابه الشهير والذي قل فيه الإنصاف "منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية" وهو الذي كتبه ردا على كتاب العلامة الحلي "منهاج الكرامة في معرفة الإمامة".. أما ما يقال من انه كرر عبارة "يستتاب وإلا قتل" مئات المرات، فالإنصاف ان هذا موجود ومكرر في كل كتب الفقه، إلا ان الرجل كان أكثر تطرفا بلا شك.

 

والعجيب أيضا ان الرجل كانت له آراء فلسفية حقيقية وبعيدة عن المنهج السائد، فهو يؤمن أن العالم ليس له بداية ولا نهاية، وأن العالم يتحرك وفق طبائعه الخاصة ووفق الضرورة ومبدأ السببية، وهو بذلك يضع حداً لواحدة من أهم الأفكار رواجاً في الإسلام التي تقول بالخلق من عدم.

 

وبينما كان ابن رشد يفسر الانتقال من أزلية الله تعالى الى حدوث الخلق بفرضية الكائنات الوسيطة مثل الأفلاك والكواكب التي افترضها أرسطو قبله؛ فإن ابن تيمية ذهب إلى رأي أكثر جرأة وبعدا عن الرؤية الإسلامية، حيث رأى أن الانتقال من الأزلية إلى حدوث العالم العيني يتم عبر الحدوث في الذات الإلهية‼ وهذا ما لم يقل به أحد من قبل، وهو يحتج لذلك بقوله تعالى: ( كل يوم هو في شأن ).

 

كما له موقف من التتار، ويقال بأنه اشترك في "معركة شقحب" التي انتهت بانتصار المماليك على التتار، وقد عمل فيها على حث المسلمين على القتال، سجن عدة مرات وتوفي في السجن سنة  728 ه ولم يتزوج ولم يتسرَّ (اي لم تكن له جارية)‼

 

بأي حال، الرجل رغم موقفه السلبي عموما من الشيعة، ورغم تطرفه في مواقف كثيرة إلا أنه شخصية مركبة له وعليه.

 

إرسال تعليق

0 تعليقات