محمود جابر
بالأمس قام الشيخ
على الأصولي – أعزه الله - بالرد على أحد المنحرفين عن جادة الصواب فى قضية حادثة
بنى قريظة، مما حفزني أن أساهم فى توضيح أو الكتاب عن هذه الحادثة بعد مقاله
المعنون ب (دك الحصون : غزوة بني قريظة بين بيانات القرآن ونقولات الآخرين ..
-
واقعة يهود بنى
قريظة، وقيام النبى محمد بقتل يهود بني قريظة هو واحد من أكثر أحداث التاريخ
الإسلامي إثارة للجدل، وللأسف فإن أغلب القراءات الشائعة له جاءت ضبابية، فبين
قراءة تبريرية للمشهد المروع لا تخضع لاى عقل أو تحليل، وما بين قراءة متحفزة ضد
النبى محمد وهى تبريرية أيضا ولا ترتكز على اى تحليل او منطق يستخدمها هؤلاء للنيل
من النبى ومن التاريخ الاسلامى، وكلا القرائتين تغفل التحليل الصحيح والقراءة
الواعية .
الواقعة التي نجدها
مروية في كتب التراث الإسلامي مثل «البداية والنهاية» لابن كثير و«تاريخ ابن
خلدون» و«تاريخ الأمم والملوك» للطبري و«الكامل في التاريخ» لابن الأثير، وكتب الروايات
والإصحاح تقول إنه بعد غزوة أُحُد وطرد يهود بني النضير وبني قينقاع من المدينة
إلى خيبر، خرج وفد من يهود خيبر على رأسه حُيَيّ بن أخطب من بني النضير إلى كل من
قريش وقبيلة غطفان القوية، وبعض القبائل المحيطة، وأقنعوا القبائل أن تُشَكّل حملة
مشتركة بينها – تتولى خيبر تمويلها – لمداهمة المدينة والقضاء على الرسول محمد
والمسلمين، ووعد الوفد المذكور حلفاءه بإقناع يهود بني قريظة – آخر قبيلة يهودية
باقية آنذاك بالمدينة – بدخول الحلف ومهاجمة المسلمين من الداخل.
بالفعل تشكلت قوة من
قريش وغطفان وقبائل أشجع وفزارة ومُرَّة وغيرها وتوجهت إلى المدينة، ولهذا تسمى
تلك الواقعة بـ«غزوة الأحزاب»، ويقدم لها الأستاذ الدكتور محمد سهيل طقوش في كتابه
«السيرة النبوية الشريفة» شرحًا تفصيليًا بالرسوم التوضيحية ووصف التحركات بدقة.
بلغ المسلمون الخبر
فسارعوا بتحصين مدينتهم، وتم حفر الخندق المنسوبة فكرته لسلمان الفارسي، وكانت
حماية المدينة من الظَهر الجنوب موكلةً لقبيلة بني قريظة اليهودية وفقًا للعهد
المبرَم بعد هجرة الرسول للمدينة الذي ينص على الدفاع المشترك عنها.
في ذلك الوقت كان
حُيَيّ بن أخطب قد تسلل لحصون بني قريظة وتفاوض مع زعمائهم حتى اتفقوا معه على ضرب
المسلمين من الظهر، وبالفعل أعلنوا عن عداوتهم، حيث قالوا لمبعوثي الرسول محمد إليهم:
«لا عهد بيننا وبين محمد».
وبسبب تبرُم
القرشيين من طول الحصار والعجز عن اقتحام الخندق، وخلافات بين الحلفاء من ناحية
وبني قريظة من ناحية أخرى حول تسليم رهائن لكل طرف لضمان التزام التنفيذ (التي
يقال إنها كانت وقيعة بتدبير أحد من أسلموا من غطفان بتوجيه من الرسول محمد)،
فانسحب «الأحزاب» وتوجه المسلمون لمحاصرة بني قريظة عقابًا لهم على نقض العهد
والتآمر مع الغزاة، وبعد حصار دام 25 يومًا استسلم بنو قريظة، وتولّى الصحابي سعد
بن معاذ الحكم عليهم، فقضى بقتل رجالهم وسَبي نسائهم وأطفالهم.. وهو ما تم بالفعل،
فقُتل منهم 700 رجلًا.
وواقعة القتل والسبي
تلك هي موضوع الجدل بين القراءة المُدَيَّنة التي تبرر ذلك بأنه «قضاء الله فيهم
من فوق سبع سماوات» كما يُنسَب قوله للرسول محمد، وبالتالي فلا مجال لنقده (وهي من
مشكلات تلك القراءة أنها تقوم بتحصين تناولها التاريخ الإسلامي بالدين لقتل أي نقد
له)، والقراءة المضادة التي تدين هذا الفعل باعتباره «مذبحة غير إنسانية وجريمة
تطهير عرقي وواقعة تدين المسلمين والإسلام بالهمجية والوحشية».
فما هي حقيقة هذه
المقتلة أو هذه المجزرة أو هذه الإبادة؟!
الحادثة تعود للسنة من
الهجرة يهود بني النضير حين تآمر بنو النضير على قتل النبى وهو فى ديارهم، وأتاه
الوحي وأخبره بالمُؤامَرة الخبيثة الخائنة، فانطلق النبي، وبعد ذلك أجلاهم من
مضاربهم ومن أماكنهم على أن لهم كل ما حملته ركائبهم من أموالهم، من ذهبهم وفضتهم
ومتاعهم، فمنهم مَن قصد بلاد الشام، ومنهم مَن يمَّم وجهه شطر خيبر.
هذه كانت البداية، فما
علاقة هذا بما حصل مع بني قريظة؟
علاقة هذا أن أحد
زعماء بني النضير –وهو حُيي بن أخطب، والد أم المُؤمِنين أو التي ستصير بعد ذلك
أماً للمُؤمِنين، صفية بنت حُيي، قام حٌيي بن اخطب بدافع الحقد والرغبة في
الانتقام والثأر بالذهاب إلى قريش في مكة، وجعل يُقنِعهم بضرورة أن يُحزِّبوا
الأحزاب وأن يتألَّبوا مع قبائل عربية أُخرى بالذهاب إلى المدينة ومحاصرة النبى
والمسلمين ووعدهم بأنه سيتكفل بما تلزمه هذه المعركة فوافقوا.
ثم اتى غطفان ودعاهم
لما دعا قريش وان يكونوا جزء من التحالف الحربى (الأحزاب)على أن لهم ثمار خيبر
لسنة كاملة، فوافقت غطفان!
وهكذا تحزَّبت
الأحزاب، بنو سُليم، وبنو مُرة، وفزارة، وغطفان، وقريش، وأشجع، عشرة آلاف! فلما
أقنع هؤلاء أتى حُيي بن أخطب كعب بن أسد، وكعب بن أسد هو زعيم بني قريظة وصاحب عهدهم
وميثاقهم مع رسول الله، أي الرسول – عليه السلام – كان قد واثقهم وعاهدهم، والذي
تولى هذا العقد والتعاهد من طرف بني قريظة هو كعب بن أسد القرظي، ففي البداية لم
يُوافِق كعب بن أسد، قال بيننا وبين الرجل عهد وميثاق، ونحن مُتلزِمون به، يقول
الرواة وكتّاب السيرة ظل يفتله في الذروة والغارب، يتحيَّل عليه ويُقنِعه، وأقسم
له أنهم سينتصرون على محمد، وفي أسوأ الظروف أنهم إن لم ينتصروا على محمد ولم
يظفروا به فأنا – قال له حُيي بن أخطب – سأكون معك في حصنك، ما يجري عليك يجري
علىّ.
بلغت الأخبار النبى محمد فأحب أن يتثبَّتفأرسل
أربعة من أصحابه: سعد بن مُعاذ وهو سيد الأوس، وسعد بن عُبادة سيد الخزرج، وخوّات
بن جُبير، وعبد الله بن رواحة، أرسلهم فأتوا كعب بن أسد في حصنه وكلَّموه، فوجدوه
ووجدوا اليهود القرظيين على أخبث ما سمعوا عنهم ، حتى أنهم سبوا النبي فتأكَّد
الخبر، تأكَّد الخبر!
مما سبق ندرك أن
يهود بنى قريظة ذاهبون إلى حرب على الدولة التى كانوا جزء منها، فاليهود لم يكونوا
حلفاء ولا معاهدين بل كانوا من الدولة، و شروط هذه المعاهدة كالتالي :
1ـ أن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود
دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم.
2ـ وأن على اليهود
نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم.
3ـ وأن بينهم النصر
على من حارب أهل هذه الصحيفة.
4ـ وأن بينهم النصح
والنصيحة، والبر دون الإثم.
5ـ وأنه لا يأثم امرؤُ
بحليفه.
6ـ وأن النصر
للمظلوم.
7ـ وأن اليهود
ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
8ـ وأن يثرب حرام
جوفها لأهل هذه الصحيفة.
9ـ وأنه ما كان بين
أهل هذه الصحيفة من حدث أو شجار يخاف فساده فإن مردَّه إلى الله ، وإلى محمد رسول
الله .
10ـ وأنه لا تُجَارُ
قريشٌ ولا مَن نَصَرَهَا.
11ـ وأن بينهم النصر
على من دَهَم يثرب.. على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قِبَلَهُمْ.
12ـ وأنه لا يحول
هذا الكتاب دون ظالم أو آثم.
إذن فهذه المعاهدة أو
الدستور توجب السلم بين المسلمين و اليهود، كما توجب حماية المدينة كما تمنع منعاً
كلياً عن اليهود متاجرة قريش الذين هم العدو اللذوذ للمدينة (دولة المسلمين
واليهود آنذاك) وحتى لا يكون بينهم تحالف. و قد احترم المسلمون هذه الشروط كما
أنها دامت مدة خمس سنوات.
هل احترم اليهود
المعاهدة ؟
هذا هو السبب
الرئيسي وراء مقتل بني قريظة كما سيأتي تفصيله، فقد نقضوا المعاهدة و تحالفوا مع
قريش بعد أن أحاطت جيوش الأحزاب بالمدينة في عشرة آلاف مقاتل من مشركي قريش وقبائل
غطفان وأشجع وأسد وفزارة وبني سليم، على حين لم يزد عدد المسلمين على فى أكثر
التقادير عن ثلاثة آلاف.
و كان قد اشتد
البلاء على المسلمين في غزوة الأحزاب، قالت أم المؤمنين أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ
وهي تُصور لنا هَوْل الموقف:
(شهدت مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم مشاهد فيها قتال وخوف، شهدت المريسيع، وخيبر، وكتاب الحديبية،
وفي الفتح، وحنين، لم يكن ذلك أتعب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أخوف عندنا
من الخندق، وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحرجة، وأن قريظة لا نأمنها على
الذراري. فالمدينة تحرس حتى الصباح تسمع فيها تكبير المسلمين حتى يصبحوا خوفاً) ...
فكان من المُتوقع
بعد هذا الحصار و شِدّة هذا البلاء أن ينضم يهود بني قريظة إلى صفوف المسلمين ضد
القوات الزاحفة على المدينة بناءً على نصوص المعاهدة المُبرمة بين الفريقين، لكن
الذي حدث هو عكس هذا تمامًا! فلم تكتفِ بنو قريظة بمجرد السلبية، ولكن فوجئ
المسلمون بهم يخونونهم في أخطر أوقات محنتهم، ولم يرعوا للعهود حرمة، في سبيل
التعجيل بسحق المسلمين والقضاء عليهم قضاءً تامًّا.
الخُطة كانت أن الأحزاب العشرة آلاف
مقاتل يأتوا من جهة الشمال، على أن يأتي
يهود بني قريظة من جهة الجنوب، وتعرفون أن جهة الجنوب الخندق لم يكن مُحيطاً بها،
الخندق لم يكن مُحيطاً بها وكانت مكشوفة، ولذلك يهود بني قريظة اتفقوا مع قريش على
الآتي، ذهب إليهم النضري حُيي بن أخطب واستمدهم ألفي مُقاتِل، قال نحتاج إلى ألفي
مُقاتِل! لماذا؟ لأنه يبدو أن مُقاتِلي بني قريظة كانوا عدداً منزوراً، كانوا
عدداً يسيراً جداً، لم يكونوا كثيرين، فاستمدوا ألفي مُقاتِل، استمدوا قريشاً ألفي
مُقاتِل، على أن يأتوا المدينة من جهة الجنوب.
وحينما نقرأ عظم
الخيانة من مؤرخ اجنبى وهو مونتجمري وات ، في كتابه محمد في المدينة قال لو أن
خُطة يهود بني قريظة نجحت وتيسَّر لهم أن يدهموا المدينة من جهة الجنوب لقضوا على
محمد وأمته قضاءً مُبرَماً، وهذا هو حجم الجريمة التي أجرمها واقترفها يهود بني
قريظة.
لكن الله تعالى كفى المُؤمِنين القتال بأسباب كثيرة، هناك
الخندق الذي احتفره المُسلِمون، وكان طوله أكثر من خمسة كيلو مترات.
فهذا الخندق فعل فعله، وهناك نُعيم بن مسعود
الذي أسلم وقام بالحيلة المعروفة ودق إسفين الشك والارتياب بين يهود بني قريظة
وبين أبي سُفيان وقريش، فهؤلاء لم يأمنوا لهؤلاء ولا هؤلاء أمنوا لهؤلاء، الحيلة
المعروفة!
بعد ذلك هناك ما حصل طيلة مُدة الحصار وهي شهر
تقريباً، الأحزاب حاصروا المدينة شهراً تقريباً، ولكن لم يُجد الحصار نفعاً، ثم
أرسل الله الرعب عليهم والريح الصرصر الباردة، فاطفأت نيرانهم وكفأت قدورهم وانقلبوا
خائبين خاسئين، لم يعودوا بخير، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ. وفشلت
الخطة.
عاد النبي وأصحابه من الخندق بعد شهر كامل من
الرباط والجوع والخوف، ونجم النفاق، وبدأ المُنافِقون يتحدَّثون، قالوا محمد كان
يعدنا مُلك كسرى وقيصر، ونحن الآن في ظرف لا يستطيع أحدنا أن يخرج لقضاء حاجته، مَّا
وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ، فى تفاصيل كثيرة ذكرتها سورة الأحزاب.
بعد ان عاد النبى من
الخندق إلى المدينة وتهيأ للاغتسال والراحة أتاه جبريل قائلاً الله يأمرك أن تسير
إلى بني قريظة، فقام النبى من فوره يأمر أصحابه قائلا : مَن كان يُؤمِن بالله
واليوم الآخر أو مَن كان سامعاً مُطيعاً فلا يُصلين العصر إلا في بني قريظة، وبنو
قريظة مشياً تبتعد عن المدينة زُهاء ست أو سبع ساعات، وقرابة ثلاثة ساعات للراكب،
وانطلقوا إلى بني قريظة.
وحين رأت بنى قريظة
جموع المسلمين تقترب قاموا برميهم ورشقهم بالنبل والسهام، لم يجنحوا إلى السلم،
ولم يستسلموا، ولم يعترفوا بعظم جُرمهم، ولم يطلبوا حتى الاعتذار، إنما راموهم،
لكن لم يُجد نفعاً.
جريمة الخيانة
العظمى للدولة وللعهد وللدستور وقت الحرب .
في اليوم الثالث بعد
هذه المناوشات والرمى طلبوا من رسول الله أن يحكم فيهم وأن يفعل فيهم مثلما فعل في
بني النضير، أن يخرجوا، يُغادِروا البلد والمكان، على أن لهم ما حملت الركائب،
فأبى النبي، بعد ذلك لما عجزوا ويئسوا طلبوا منه – صلى الله عليه وآله – أن يخرجوا
بأنفسهم، من غير أموالهم، فمنعهم أيضاً هذه، وأبى عليهم إلا أن ينزلوا على حُكمه
فيهم، له فيهم حُكم! فلم يُوافِقوا، واستمر الحصار في المشهور خمسة وعشرين يوماً
أو خمساً وعشرين ليلةً. لما جهدهم الحصار وأيقنوا أن لا نجاة وأنى لهم النجاة؟!
التحكيم :
وافقوا أن ينزلوا على حُكم سعد بن مُعاذ سيد
الأوس، فرضوا بحُكمه، وكان قد أُصيب بسهم، كان عليلاً محموماً، فأوتي به، فقال هل
ترضون بحُكمي على مَن ها هنا وعلى مَن ها هنا؟ أي أنا أحكم بحيث يرضى بنو قريظة،
وبحيث أيضاً يُعلِن عن الرضا مُسبَقاً المُسلِمون أيضاً، حتى الرسول! قال سأحكم
بما يُمليه علىّ ضميري، فأشترط على الاثنين – على الرسول وأصحابه، وأيضاً على
القرظيين – هذا، فوافقوا، وافق الفريقان! فقال يا رسول الله حُكمي فيهم أن تُقتَل المُقاتِلة، المُقاتِلون يُقتَلون، (خونة)!
تقول كتب السيرة
والمُؤرِّخون لسيرة رسول الله استنزلهم واقتادهم جميعاً، اقتاد المُقاتِلة واقتاد
النساء والذُرية أو والذراري إلى المدينة المُنوَّرة ، وهناك أنزلهم في دارين: دار
بنت الحارث النجّارية، هذه امرأة يُقال لها بنت الحارث، من بني النجّار، ويبدو
أنها – أي بنت الحارث هذه – كان عندها دار وسيعة، مُتسِعة المرافق والأنحاء
قليلاً، فأنزلهم فيها، وأنزل البقية في دار أُسامة بن زيد، ربما طبعاً النساء
والصبية الصغار في دار، والرجال والشيوخ الكبار والمُقاتِلة في دار أُخرى، ثم بعد
ذلك أمر – صلى الله عليه وآله – باحتفار خنادق عند سوق المدينة، أمر باحتفار خنادق
وأُخرِجوا إليها أرسالاً، أي خمسة خمسة ربما أو عشرة عشرة، تُضرَب رؤوسهم، رؤوس
مَن؟ المُقاتِلة.!!
ولا أدرى لماذا يحفر
النبى خندقا لدفنهم وهو لديه فعلا خندقا بطول خمسة كيلو مترات يكفى ويزيد !!
وكتب التاريخ تتحدث
عن أرقام متعددة ما بين سبعة عشر إلى أربعمائة إلى خمسمائة إلى تسعمائة!!
كما لدينا خلاف فى
ماهية من قتل، هل يُقتَل كل رجل أو يُقتَل المُقاتِل؟ وفرق بين رجل ومُقاتِل،
بينهم عموم وخصوص، كل مُقاتِل رجل، لكن ليس كل رجل مُقاتِلاً، وهذا لابد أن
نُحقِّق فيه القول، أيضاً في العدد، أي بين السبعة عشر إلى الأربعين إلى أربعمائة
إلى تسعمائة فوارق لافتة، كبيرة جداً جداً، قال وقُتِل منهم يومئذ أربعون رجلاً،
يقول أربعون رجلاً!
الإمام حُميد بن
زنجويه في الأموال، والأموال لأبي عُبيد القاسم بن سلّام يقول ان من قتل يومئذ
أربعون رجلاً، لأن الأثر نفسه عن الزُهري، وعند ابن زنجويه أربعون، وهنا كذا وكذا،
وفي إحدى النُسخ أربعون، كأن بعض النسّاخ ربما استصغر أو استقل، لم يُعجِبه هذا
الرقم، فعبث بالنص للأسف الشديد، لكن في النُسخة الشامية أربعون رجلاً أيضاً، وهذا
مُهِم.
الآن لابد من طرح
بعض التساؤلات بصدد ماجريات هذه الواقعة الشهيرة، لنفترض أنهم كانوا خمسمائة، أي
هناك مَن يقول كانوا أربعين، هناك مَن يقول كانوا تسعمائة، لنقل أنهم كانوا في
المُتوسِّط خمسمائة، وهو عدد مجموع القرظيين الذين استُنزِلوا من الحصون وأوتي بهم
المدينة المُنوَّرة من الرجال .
ويصبح العدد الإجمالي
بعد ذلك ستة أضعاف بفرض ان كل مقاتل لديه زوجة وأربعة أولاد .
سنقول العائلة
القرظية وسطياً تتكون من ستة أنفار، العائلة ربما تكون من ستة أنفار وسطياً، ستة
أنفار! فهكذا يكون تقريباً المجموع زُهاء ثلاثة آلاف.
هل من المعقول أن
الرسول صلى الله عليه وآله يستنزل ثلاثة آلاف؟ وطبعاً هؤلاء لن يجدوا ركوبة، لا
تُوجَد مراكب تحمل ثلاثة آلاف، سيركب بعض الناس، ويقتادون هؤلاء، وسيمشون، وهذا هو
الظاهر، أنهم أتوا مشياً، أي من ست إلى سبع ساعات في المُتوسِّط، لكن هؤلاء فيهم
ضعفة، فيهم صغار، وفيهم عجزة، ربما امتد هذا عشر ساعات، أي ربما استغرقت هذه
المسيرة عشر ساعات، فهل من المعقول أن يقتادهم النبى فى هذه الظروف لمدة عشر ساعات
او أكثر إلى المدينة فى حماية المسلمين وتوفير سبل الحماية والتامين والمعيشة ؟!!
في حقيقة أن النبي
فعلاً أتى بهؤلاء القرظيين إلى المدينة، فإن كان هذا حصل فهذا يُرجِّح من جهة
أُخرى أن العدد كان أقل من هذا بكثير، العدد لم يكن ثلاثة آلاف، وبالتأكيد
المُقاتِلون الذين قُتِلوا لم يكونوا خمسمائة ولا ستمائة ولا أربعمائة، أكيد كانوا
أقل من هذا بكثير، وإلا كيف أمكن استيعاب هذا العدد الهائل – ثلاثة آلاف -؟ هل
تستوعب هذا العدد داران: دار أسامة بن زيد، ودار بنت الحارث النجّارية؟ هذا بعيد
جداً جداً، ما هذه الدار التي تستوعب زُهاء ألف وألفين؟ من الصعب جداً، ثم كيف تم
تأمين حاجات هؤلاء من أكل طبعاً وشرب وبالذات حاجة قضاء الحاجة؟ والمدينة وقتها في
ذلكم الإبان لم تكن عرفت الكُنف إنما كان الناس يخرجون إلى المناصع، فيخرجون بين
النخل، في الأرض يتبرَّزون ويقضون حوائجهم، فكيف تم تأمين قضاء الحاجة لثلاثة آلاف
من البشر الكبار والصغار؟
وهؤلاء المقاتلة –
الرجال المحاربين – ليسوا اسرى حرب، بل هم متهمون بتهمة الخيانة العظمى وقت الحرب،
العدد كما قتلنا من المقاتلة 500.
قتلهم مرة واحدة قد
يُهدِّد المدينة بوباء؟ هذه جُثث، عدد هائل من الجُثث، تُوارى التراب، بلا شك مثل
هذا العدد قد يُهدِّد المدينة ويُهدِّد جو المدينة بانتشار أوبئة وجراثيم أوبئة
وأمراض قد يكون بعضها فتّاكاً، أليس كان الأولى أن يقتلهم النبي – مثلاً – لدى
حصونهم أو أسفل حصونهم بدل أن يفعل هذا بالمدينة؟! ثم هناك شيئ أعجب من هذا، لِمَ
لَمْ يقتادهم النبي إلى الخندق؟ هو اقتادهم من قريظة ومن حصونهم إلى المدينة، وكان
الأيسر بكثير أن يقتاد هؤلاء الخمسمائة من المدينة إلى خندق المدينة، الخندق الذي بطول
خمسة كيلو متر، كبير جداً وعميق وعريض ويستوعب كل هؤلاء بسهولة، ويبقى الخطر
بعيداً! لم يُذكَر لنا على الإطلاق أن النبي فعل هذا، فما القصة؟
فهل يُعقَل أن النبي
يأذن ويأمر بقتل خمسمائة أو تسعمائة في يوم أو يومين أو ثلاثة أيام ثم لا يثبت هذا
عنه ثبوتاً مُؤكَّداً ويترك في أغوار الذاكرة صورة لا تنمحي لدى كل مَن شهد هذا
الحدث الفظيع الكبير، بحيث تتواتر لدينا الروايات بضبط هذا العدد – أنه قُتِل
خمسمائة أو قُتِل ستمائة أو قُتِل تسعمائة -؟ وهذا لم يحدث، لا تُوجَد هذه الأرقام
في الصحاح، الصحاح خالية من هذه الأرقام، والقضية يكتنفها غموض والتباسات من شتى
جوانبها، لكن على كل حال قتل هذا العدد يختلف تماماً مع روح رسول الله، ومع روحه
النبوية والإنسانية.
وهنا لابد أن نتساءل،
لو قُتِل مثل هذا العدد الكبير ماذا كان سيكون ردة فعل يهود المدينة – الذين
يعيشون في المدينة -؟ كانوا سيُرعَبون، سيفزعون، سيخافون من يوم قريب ربما يكون
مصيرهم هذا المصير، وبالحري سيتجه بعضهم إلى الفرار ومُغادَرة المدينة إلى أي صقع
من الأصقاع وإلى أي بُقة يرونها آمن وأشرف وأحسن من هذه البُقعة، وقد شهدوا مقتل
أبناء دينهم بهذه الأعداد المُفظِعة، مئات! خمسمائة أو تسعمائة، لكن التاريخ
يُحدِّثنا أن يهود المدينة لم تبدر منهم أي بادرة، وعاشوا – وعاشوا بعد ذلك –
وافرين مُطمئنين. مونتجمري وات يُحدِّثنا أن يهود المدينة – أي هذا استغربه هو –
بعد وقعة بني قريظة ظلوا يعيشون في سلام وهناء، عيشة طبيعية عادية، يُمارِسون
تجاراتهم ومعائشهم دونما أي تغير، بل يُحدِّثنا الواقدي في المغازي أن عشرة من
يهود المدينة حين ذهب النبي في السنة السابعة إلى خيبر ذهبوا معه يُقاتِلون ضد
يهود خيبر، كانوا مُقتنِعين، إذن ما هذا؟ لم يحدث هذا الشيئ. ابن حزم في كتابه
جمهرة أنساب العرب أكَّد على بقاء جماعات من اليهود في المدينة المُنوَّرة بعد
وقعة الخندق وقريظة، فمن الصعب جداً أن يكون هذا حدث .
بعد ذلك قُتِلوا ووروا التراب في خنادق خُندِقت
لهم أو خندق في سوق المدينة، أين هذه الخنادق؟ أو أين ذاك الخندق؟ هذه مذبحة
كبيرة، تاريخياً لا يُمكِن أن يتم هذا الشيئ دون أن يبقى هذا معلماً يُعرَف على
الأزمان، يُقال هذا الخندق الذي قُتِل فيه مائتان من مُقاتِلة بني قريظة أو
خمسمائة أو تسعمائة، لكن هذا غير موجود، لا أثر لهاته الخنادق أو لذاك الخندق على
الإطلاق، أي هذا جغرافياً لابد أن يُعرَف في هذا المكان.
هناك شيئ أغرب غياب
تلك الحادثة من سجلات كبير اليهود المسمى رأس الجالوت، ومن المعروف عن اليهود عبر
التاريخ أنهم مُولَعون ومُغرَمون بتسجيل مآسيهم ونكباتهم وكوارثهم، وهم يزخرفونها
ويزيدون فيها ويُعنون بها جداً، يتمعيشون عليها، جميل جداً! لم ترد أدنى إشارة من
رئاسة الجالوت إلى مذبحة بني قريظة، ولا حتى مُجرَّد إشارة! مما يدل على أنها لم
تكن مذبحة، كانت إجراءً قانونى مناسب لعدد من الخونة، وأن النبي قتل رؤوس هؤلاء الخونة، رؤوس هؤلاء
المُقاتِلين.
الروايات في الصحيح
قالت المُقتِلة، في حديث أبي سعيد الخدري – مثلاً – تُقتَل المُقاتِلة، فمَن هو
المُقاتِل؟ ونحن طبعاً نُرجِّح هذا اللفظ على لفظ يُقتَل الرجال، لا! قال
المُقاتِلة. المُقاتِل قد يكون مَن قاتل فعلياً، وقد يكون الصالح للقتال، لكن لو
أخذنا إحصاء أسماء المُقاتِلة عند ابن إسحاق وعند أبي القاسم السُهيلي في الروض
الأُنف وأنهم كانوا سبعة عشر وأخذنا بإشارة القرآن الكريم فَرِيقًا تَقْتُلُونَ
وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ربما يترجَّح
لدينا أن المُقاتِلة هم الذين قاتلوا فعلياً، وتولوا كبر الخيانة، والله أعلم
بعددهم، قد يكونون كانوا سبعة عشر أو ربما ثلاثين أو أربعين أو حتى سبعين، لكن ليس
مئات، هذا نستبعده جداً، والله – تبارك وتعالى – أعلم.
و هذه مقتلة، أنا
أقول مقتلة، هذه مقتلة، سواء لعشرين أو لثلاثين، لكن ليست مذبحة، وليست مجزرة،
وليست إبادة، انتبهوا من خداع العناوين، يقولون إبادة! وللأسف بعض المُسلِمين حتى
يكتبون في كُتبهم إبادة بني قريظة، كلمة إبادة هي المُعادِل المعنوي لمُصطلَح
ومفهوم ، التطهير العرقي، إبادة تامة على أساس مُعيَّن، وحاشا أن يُقال إبادة مع
أن الرسول لم يقتل النساء ولم يقتل الصغار؟! في أسوأ الظروف قتل الرجال، هكذا
يُريدون أن نعتقد، فهذه ليست إبادة إذن، لو كانت إبادة لأباد خضراءهم، لأباد
الكبير والصغير، فلا نقول إبادة، أنا أُحبِّذ مُصطلَح عقاب بني قريظة وعقاب
المُقاتِلين أو مقتلة هؤلاء المُجرِمين.
والله تعالى أعلى
وأعلم
1 تعليقات
مقال رائع جدا وتحليل دقيق. جزاكم الله خيرا
ردحذف