د.رفعت سيد أحمد
نقلا عن مجلة المصور
تعيش أمتنا
اليوم وبعد عشر سنوات مما سمي زيفا ب(الربيع
العربي ) ؛ مرحلة من الفرز الديني والسياسي بين من يقدمون الإسلام الصحيح وبين
أولئك الذين يقدمو الإسلام (المشوه ) والمخالف لحقيقة الدين ونقاء جوهره ، إنهم
كما سموا قديما يمثلون (خوارج العصر) ،أولئك الذين أرتبط التطرف والغلو والعنف بهم
في سبيكة واحدة ثم أتت (داعش ) كأفضل
تطبيق معاصر لها .
إن التاريخ ينبئنا
أن التكفير والغلو أرتبط بفرقة الخوارج،
وأكثر البحوث التي تناولت قضية التكفير، ظهرت حول فرقة الخوارج، لأنهم يمثلون
نوعاً من فساد الفكر، الذي يؤدي إلى فساد الضمير، وكنا نقرأ في أدبياتهم أن مسلماً
لو وقع في أيدي الخوارج، ولم يبايع أميرهم كانوا يقطعون رأسه، فإذا قال لهم أنا
مشرك، مستجير خلوا سبيله، بموجب قوله تعالى "وإن أحداً من المشركين استجارك
فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه"، فأي فساد
في الفقه والفكر هذا الذي يضطر معه
مسلم إدعاء الشرك حتى يأمن القتل !
لقد علمنا الموروث الإسلامي
خاصة في عصور التقدم أن كل من يرفض الحوار مع الآخر السياسي أو الديني، وكل من
يغلق آفاق الاجتهاد والحرية وقيم العدل، ليس فقط يخالف صحيح الإسلام، لكنه يحارب
هذا الإسلام المحمدي الصحيح وتحركه ثقافة الكراهية والغلو التي هي في جوهرها معادية
لروح الدين وقيمه السامية، فالمتأمل لتاريخ الإسلام وتجاربه الكبري عبر الـ1400
عاماً الماضية يقطع بأنه كان ديناً للحرية والعدل وباقي منظومة القيم الرفيعة التي
استقرت في الضمير الإنساني، وكانت سبباً في بناء الحضارات.
من هنا نذهب إلى أن
جماعات داعش والقاعدة(الدواعش الجدد) والإخوان المسلمين(الدواعش القدامي) وغيرهم
ممن آمن ومارس سياسيات التكفير والإقصاء والذبح، هم محاربون كارهون لروح الإسلام
الحقيقي، وفي هذا السياق نسجل :
أولاً: من أصول وقيم ثقافة
الإسلام الصحيح والتي شوهها هؤلاء التكفيريون تلك الجملة الرائعة "اختلافهم
رحمة"، أي أن الإسلام له من السعة في قبول الآراء المتعددة ما يجعل العقول
المتفاوتة والأزمان المتفاوتة والأماكن المتباعدة، يتوفر لها أكثر من فهم للنص
الواحد. وكلنا يعرف القصة الشهيرة حين قال النبى (ص) لأصحابه وقد عزم على الخروج
لقتال بني قريظة:"لا يصلين أحدكم العصر إلا في قريظة"، فخرج المسلمون
وحين اقترب موعد المغرب، انقسم المسلمون فريقين: فريق تآول كلام النبي وقال: إنما
قصد النبي تعجيلنا للخروج، والأفضل أداء الصلاة في الطريق حتى لا يخرج وقتها،
وفريق آخر فهم الأمر على حرفيته، فصلى العصر حين وصل قريظة بعد غروب الشمس، وهنا
لم يرد النبى (ص) فعل أي من الفريقين. وترك اختلافهم في التآويل لأن في اختلافهم
رحمة وحكمة وهو ما لم يدركه تكفيريي هذا الزمان الذين أبدعوا في صناعة التكفير (وفي
مقدمتهم داعش والقاعدة ومن تفرع منهم من تنظيمات العنف )وأوغلوا في القتل وسفك
الدماء للمختلفين معهم سياسياً وفي أمور الدنيا والحكم والتي أبيح فيها شرعاً
وعقلاً الاختلاف وتعدد الآراء، وليس حتى دينياً كصلاة العصر كما فعل النبي قبل
أكثر من 1400 عام مثلاً!!.
ثانياً: لقد أثبتت وقائع ما
سمي بالربيع العربي(والذي كان في أغلبه ربيعا عبريا وليس عربيا!!) خلال الفترة من 2011
إلى اليوم، خاصة في العراق وسوريا وشمال سيناء في مصر وفي ليبيا وغيرها من البلاد
التي ابتليت بالتكفيريين وجماعاتهم المتعددة، أن ثمة مؤامرة لتفتيت الصف الإسلامي
من الداخل، وهذا حق لا ريبة فيه، ولم يعد الأمر مجرد خطط مستترة، بل أصبحت المسائل
معلنة، تقال في مراكز صناعة القرار الدولي وبخاصة في واشنطن كما تقال في المعاهد
العلمية والجامعات الكبرى، وأجهزة المخابرات الدولية. وأحد أنجح الوسائل التي
استخدمتها تلك المؤامرة هم هؤلاء التكفيريون الكارهون للإسلام والذين يساهمون في
تشويه صورته وسمعته وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ربما، حسب رؤيتنا المتواضعة،
مصداقاً لقوله تعالى في سورة الكهف (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً، الذين ضل
سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً) الآية 103-104. ولمزيد من تعميق الحوار دعونا نعود إلى جوهر
مسألة التكفير والتي نرى أنها ذات جذور فكرية، ولا بأس أن نعرج على هذه الجذور
الفكرية سريعاً، لننتقل للحظة الحاضرة.
يرتبط التكفير بفرقة
الخوارج –كما سبق وأشرنا- وهم في ذلك خرجوا عما أقامه النبي من قواعد سمحة للدين
،لقد وضع لنا النبي قواعد عامة لا ينبغي العدول عنها منها البينة والاستتابة وعدم
التعجل بتكفير الناس لأن هذا التكفير يترتب عليه فورا خروجه عن الملة، والتفريق
بينه وبين زوجه، وألا يغسل ولا يدفن في مقابر المسلمين، وأن تعلن الأمة البراءة
منه، في منظومة شديدة الخطورة تترتب علي حكم التكفير.
ولعلنا نتذكر تلك
الواقعة الشهيرة للنبي مع أسامة ابن زيد، أن أحد المشركين في إحدى الغزوات قال لا
إله إلا الله، فقتله أسامة بن زيد، فلامه النبي في ذلك وقال لأسامة: أقتلته وقد
نطق الشهادتين؟ قال له: يارسول الله إنما قالها تعوذاً من السيف؟!. أي خوفاً من
القتل وليس إقتناعاً أو إيماناً، فقال له النبي الكلمة المشهورة: هلّا شققت عن
قلبه؟! وفي رواية آخري : ما تصنع بـ لا
إله إلا الله؟! إذن مسألة التكفير مسألة خطيرة!.
وفي واقعة آخرى ذات
دلالة يرويها لنا الموروث النبوي العظيم وهي أن حاطب ابن أبي بلتعة، ثبت ـ وهو
صحابي جليل ـ أنه سرب نبأ خروج المسلمين لفتح مكة "تسريب أسرار عسكرية يمثل
جريمة خيانة عظمي بمفهوم اليوم!"، ومع ذلك لم يصدر عن النبي شئ يفهم منه
مطلقاً أنه نقل حاطب ابن أبي بلتعة إلى مسمي"الكفر"، رغم أنه عاتبه
وأنبه وفق أخلاق النبي وسماحته، ولم يفعل ما يفعله التكفيريون هذه الأيام، من ذبح
وسفك للدماء، كما فعلت داعش وأخواتها من جماعات التكفير ضد الأسرى والمختلفين معهم
من المسلمين في سوريا ومصر والعراق!.وسجلهم في هذ معروف ومشهود خلال حقبة الربيع
العبري هذ(2011-2021)
ثالثاً: نعود لمسألة
ينكرها التكفيريون ويعملون على هدمها وهي وحدة الأمة التي هي ضرورة اليوم، ونسجل
هنا تعجب العديد من العلماء الذين تسألوا لماذا ينقسم المسلمون مع أن الأصل واحد،
والقبلة واحدة، والصوم والصلاة واحدة، وهناك قواسم تجمعنا أكثر مما تفرقنا، وهنا
أستدعي مقولة هامة أوردها الإمام القرطبي في تفسيره، وأراها تصلح أساساً لما أسميه
"فقه الائتلاف"، وبعضهم يسميه "فقه الاختلاف"، قال: "مازال
أصحاب النبي (ص) يختلفون في أحكام الحوادث، وهم مع ذلك متآلفون", فما دام
الخلاف في الفروع والتفاصيل فلا مشكلة على الإطلاق، وتأملوا معي طبائع أصحاب
النبي، كان فيهم المترخص كابن عباس، وكان فيهم من يأخذ بالعزائم كابن عمر، ولكن
كان النبي يمثل "خيمة موحدة تجمع بين الاتجاهين"، لأن هناك أصولاً عامة
تجمع المترخص والآخذ بالعزيمة، هذا الفقه الذي يرفضه دواعش هذا الزمان، نحسب أننا
نحتاج مجدداً لتعلمه وتعلم أداب الحوار، وهنا أذكر مقولة رائعة للإمام الشافعي عقب
إحدى مناظراته، حين أخذ بيد مناظرة في ود وحب، متسائلاً: "ألا يستقيم أن نكون
إخوة ولو اختلفنا في المسألة؟".
رابعاً: من القضايا المهمة
التي برز فيها دور التكفيريين، هي إثارة الخلاف وتعميقه بين مذهب أهل السنة ومذهب
الشيعة، خدمة بالأساس لمخططات سياسية أميركية وإسرائيلية، حتى ولو كان عامة –وليس
قادة- هؤلاء التكفيريون لا يعلمون بها، وهنا نريد أن نعرف إلى أين تأخذنا فتنة
السنة والشيعة؟ وهي ثغرة يحاول أعداؤنا النفاذ إلينا منها، ونذكر هنا عبارة أوردها
أحد العلماء "كان السني يناظر الشيعي والشيعي يناظر السني في المسألة، ولا
يمنعهما هذا أن يشتركا في محل تجاري واحد"، كان ذلك في عصور تثمن فيها الأمة
الاختلاف وتستطيع أن تجعله ضمانة لقوة الأمة، لأن الاختلاف ثراء فكر، ولكننا اليوم
عاجزين عن الوصول لنقطة المؤالفة بين المختلفين كما فعلت التجربة الإسلامية عبر
الـ1400 الماضية.
يتبقى أن نسأل فى
ختام هذه االسطور عن علاقة التكفير
بالداعشيين القدامي (وليس الجدد فحسب)، وعلاقته أيضا بكل من الاستعمار البريطاني قديماً والأميركي
الإسرائيلي حديثاً، واعتبار الإسلام هو "العدو الأخضر"، بعد القضاء على "العدو
الأحمر"، والذي يقصد به السوفييت، رغم أن القضاء على المعسكر الاشتراكي لم
يكن ليتم دون استغلال تلك المذاهب الإسلامية المتطرفة واستخدامها في حشد الشباب لقتال الروس، كما
يقال استراتيجياً "في بطنهم الرخو" في أفغانستان وما حولها، وذلك باسم
الإسلام.
لقد ثبت يقيناً
اليوم وبالوثائق المنشورة وخاصة في سنوات ما سمي ب(الربيع العبري!!هذا) أن
ثمة تمويل سخي وروابط قوية بين الاستخبارات العالمية وبين جماعات العنف
والغلو الديني في عالمنا الإسلامي بهدف تشويه الإسلام وتحقيق المصالح الإستراتيجية
لها، في غالب البلاد الإسلامية وفي قلبها البلاد العربية وخاصة بلاد الشام ومصر ...ذلك
هو الهدف الاستراتيجي لمن يحرك ويوجه ...تنظيمات
العنف باسم الدين والدين منها براء قطعا .
والله أعلم!.
0 تعليقات