آخر الأخبار

في ذكرى ثورة يوليو/ تموز1952م يطل "وجه ناصر"... لكن "العميان لا يرون النور"!!

 

 


 

 

رأفت السويركى

 

حقاً وصدقاً... هذا هو "يوم النور" الذي أطلت شمسه في الفضاء المصري منذ 69 عاماً ؛ وأقول "النور السياسوي" تحديداً حتى لا "يَتَمَعَّرَ" وجه البعض اصفراراً أو احمراراً أو اسوداداً وهو يقرأ هذه التدوينة؛ ويظن حول معناها الظنون لمرض في قلبه؛ وما أكثر أمراض القلوب السياسوية في الوقت الراهن؛ زمن الفضاءات الافتراضوية المفتوحة؛ حيث لا ضابط لضجيج القطعان وضوضاء الزفاف الشعبوية وأناشيد جُلَّاس مقاهي النظرية الإيديولوجوية؛ وسويقة المتنشطين الدولاريين .

 

*****

 

هذا هو الثالث والعشرون من يوليو/تموز؛ اليوم الذي جعل لمصر الحديثة في العام 1952 م من القرن المنصرم وزنها الإقليموي والعالموي كمعيار؛ مع بدء مرحلة ما تُسمى "التحرر الوطنوي" من الاستعمار القديم المتهالك؛ ليبدأ زمان "ثورات الفقراء" في قارات أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.

 

في ذلك اليوم المشهود الذي أصفه بـ "يوم النور السياسوي" ثقة في كل فعالياته التي حدثت ولا تزال تحدث؛ ظلل الله برعايته "ثُلَّةً" من أبناء الشعب المصري الذين يحملون كضباط في الجيش المصري الشريف هموم الأمة؛ ليقوموا - بما تأخر كثيراً- بفعل تغيير الواقع المتردي واسترداد صورة مصر المخبوءة لقرون تحت كرابيج القهر من الإقطاعيين لمصر الفلاحين؛ وفي غرف نوم القصور على أسرَّة المحظيات وملك اليمين؛ وفي اقتصادات الريع والاحتكار. ومئات ألوف الشغيلة بالقهر والإجبار لشق قناة السويس بالسخرة.

 

في الثالث والعشرين من يوليو/ تموز 1952 م كان الموعد مع التاريخ؛ لتنقلب خريطة المنطقة كلها "من الماء إلى الماء"؛ أي من الخليج العربي شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً؛ ومن البحر المتوسط شمالاً إلى رأس الرجاء الصالح وضفتي المحيط الهندي والأطلسي الجنوبي جنوباً... حيث يبدأ "عصر التحرر الوطني والحياد الإيجابي".

 

*****

 

في الثالث والعشرين من يوليو /تموز 1952م؛ أنقلبت معايير الحكم من ملكية فاسدة مهترئة وأحزاب منخورة بسوس سياسة التباهي والمقامرة إلا اللمم؛ ليعاد تنظيم البناء من جديد؛ في دولة وطنوية/قوموية تحاول أن تكون الدولة/ النموذج لكل الأشقاء والأصدقاء في العالم بجهد مؤسستها العسكريتارية المسؤولة أمام الله والتاريخ عن مصر وأمنها وأمانها.

 

في الثالث والعشرين من يوليو /تموز 1952م؛ صار لمصر طعم آخر وصورة جديدة؛ لدولة تبتني وتستزرع وتستصنع؛ وتتحدى كل القوى التي تتربص بها وتحاول الاستفادة من ثُغرات الواقع والتجربة والخطأ منهاجاً بديلاً؛ لمجتمع رأسمالوي قديم لا تتوفر به مواصفات وقوى هذا النظام؛ أو مجتمع متمركس شيوعوي بحكم أن مصر في قلبها الأزهر الشريف؛ فلم يكن إلا ماكان مع خوض كافة التحديات والتجارب.

 

في الثالث والعشرين من يوليو /تموز 1952م؛ كان بدء "مشروع النور" بمجانية التعليم الإلزامي من الابتدائي إلى الجامعي وما بعد الجامعي؛ وبرامج الاستصناع والاستزراع المختلفة... تختلف أو تتفق مع النتائج والمتحقق؛ لكن عليك الاعتراف بحجم وأهمية ما حدث؛ وإلاَّ كنت من العميان الذين لا يبصرون؛ وليست لهم قلوب لا يفقهون بها معنى "النور"!!

 

******

 

في الثالث والعشرين من يوليو /تموز 1952م؛ بدأت التجربة وتطورت وانتجت تحولات بنيوية في عمق المجتمعين المصري والعربي والأفريقي فكان جمال عبد الناصر أيقونة الوطنية والحرية والتنمية والتي صارت تمثل رمزاً يعرف قيمته المناضلون في كل أرجاء الدنيا.

 

في الثالث والعشرين من يوليو /تموز كل عام؛ تشرق في نفوسنا شمس نعرف وجهها الصبوح، تأتي إلينا بالإشارة والبشارة على الرغم مما يحيط بنا من اسوداد وانهيارات وضلالات؛ فنحن الجيل الذي عاش، وسمع، وأدرك معنى مقولة: " ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد"٠

 

يأتي إلينا وجه جمال عبد الناصر من عمق هذا التاريخ، ليذكرنا بالعزة والكرامة من جديد، أيام كنا أبناء الثورة، وجيل نتاج فعلها، ومحيطها البشري الذي تعلم في مدارسها؛ وارتدى نسيج قطن مزراعها "طويل التيلة" الذي نسجته مصانعها، وركب سيارات وأتوبيسات انتجتها ماكينات وأيدي وسواعد عمالها الأشراف، واستخدمت الأمهات المصريات الثلاجات والغسالات انتاج "المصانع المصرية"،... إلخ

 

*****

 

وهذا ما لا يدرك معناه الكثيرون من "ببغاوات" هذا الزمان؛ كباراً وصغاراً، والذين يشكلون قطعاناً إلكترونية ضاعت في الغيبوبة؛ فتفرغت لتمارس الزعيق الأجوف؛ وتكشف تغافل وعيها عن وجوبية تلك الضرورات الباترة لحكم ملكي فاسد قلباً وقالباً، كان يعيش في كنف الاحتلال البريطاني؛ وكان يتلاعب فيما يظن أنها حياة سياسوية تقليدية بأحزاب إقطاعية ونخبوية انتهازية عميقة؛ لم تغير من واقع الفقراء شيئا!

 

والمؤسف أن هناك من النخب المصرية المزيفة والمضللة ابنة مرحلة ثورة النور وما تلاها من مراحل صارت مصابة في وعيها بالتسرطن السياسوي؛ فأخذت تنحاز إلى متوهمها في مربع التضاد مع هذه الثورة وناصر رمزها الكبير.

 

والمؤسف أن هذه النخب ومنها المهندسون والأطباء والمدراء والمحاسبون والمحامون والإعلامويون غير المضارين من تلك الثورة؛ لأنهم لم يكونوا من أبناء الإقطاع أو رأس المال القديم؛ حيث استفادوا من مشروع هذه الثورة التي وضعتهم في المربع النخبوي والتي لولا هذه الثورة لكانت هذه النخب البلهاء لا تزال تعدو أجيرة بالتبعية في حقول الأقطاعيين؛ وتتعمق في أقدامهم كآبائهم وأمهاتم "الشقوق" التي تختبى بداخلها ثعابين الأرض والضفادع والصراصير؛ أو كانت من هوامش العمالة المستأجرة بوجبة طعامها في أحد مصانع النسيج.

 

لذلك فإن أفراد تلك القطعان الالكترونية راهناً من المتأخونين المضللين أتباع حسن الساعاتي البناء الماسوني؛ والمتأدلجين أتباع ماضوية النظرية؛ والمتنشطين في "سويقة" المتاجرة ببيع متوهم الديموقراطية بالدولار؛ كلهم عادوا لاجترار وصف حدث ثورة ذلك الزمان بالانقلاب؛ ورجال ذلك العهد بالعسكر... ومنهم من لا يزال يواصل انتاج ذلك الخطاب الأعمى المتداعي ذاته بتعميق الصورة الذهنية السلبية، وإعادة اجترار المقولات القديمة عينها، حول ما يحدث راهناً برعاية المؤسسة الوطنية العسكرية المصرية الشريفة من جهود إعادة البناء وإنقاذ مصر من سيناريوهات الربيع العبروي المتصهين؛ باستدعاء اصطلاح الانقلاب والعسكر من جديد؛ لأن ثورة يونيو/حزيران الجديدة هي الإبنة الشرعية لثورة يوليو/تموز المجيدة؛ وهي التي التفت حولها الملايين بعد أدركت كارثة تمكن الجماعة الماسون البنائية من المصير الوطنوي!!

 

*****

 

إن هؤلاء الذين جعلوا من أنفسهم خصوماً لتاريخ شعب ووطن وأمة يوليو/تموز1952م... ترى إلى الشخص منهم منزلقاً في كلمات خرقاء؛ حين ينظر إلى تجربة "ثورة يوليو1952" نظرة الجاهل، من دون أن يتأمل ولو لبرهة... أن قدرته تلك على ممارسة القول ما كانت ستتوفر له يوماً في غياب ما أتاحته تلك الثورة له من مجانية التعليم المطلقة للجميع، ولظل على حاله وأسرته من عموم الحفاة العراة في الريف البئيس؛ ويعمل وأبوه وأخوه وأمه وأخته في أرض وحقول الباشاوات والاقطاعيين. ولو لم يستمتع بالتغيرات الهيكلية التي أحدثها فعل ناصر في المجتمع المصري لظل منسحقاً في درجة السلم الاجتماعي الهامشي.

 

"مجانية التعليم" التي أحدثتها "ثورة يوليو" هي التي اتخمت مصر بأساتذة جامعات؛ وأطباء ومهندسين وصحافيين؛ وخبراء في كل الحقول المعرفية والتخصصية، أحدثوا بعد "اتفاقية السادات" نُقلات في دول الهجرة المؤقتة بالخليج، غير أن الفريق الناقم على "ثورة يوليو" والدولة الراهنة؛ هو من الذين لا يبصرون كل ذلك، لأن الغرض المتمكن منهم مرض.

 

*****

 

ليس معنى هذا القول تقديس "التجربة الناصرية"، وعدم دراستها موضوعياً بظروف عصرها، وتحديات تلك المرحلة، وما فرضته من قرارات وإجراءات؛ ولكن ينبغي ألا ننظر إليها بحقد سياسوي أعمى. يهدي الله هؤلاء الى الحق... لأن الملايين التي خرجت لوداع جسد ناصر شكلت أكبر وداع عزاء في التاريخ؛ حيث حفر ناصر مكانه الخالد في القلوب ولا يزال إلى الآن مذكوراً بالخير من الملايين وكثير منهم لم يروه.

 

وإذا أحب أحد الناقمين على ناصر أن أذكره بجذوره الاجتماعوية؛ فليقل لي من هو؛ ومن هو على الأقل أبوه؛ ومن أين خرج؟ ومن دون شك ستكتشف أنه من جموع المستفيدين من تعميم وتوسيع مجانية التعليم الأساس والجامعي التي أتاحتها "ثورة يوليو" لتذهب بها إلى القرى والنجوع والمحافظات ليستفيد بها الشعب المصري.

 

*****

 

وحين يرد ذكر "ثورة يوليو"، التي لا تغيب عن وجداننا وأذهاننا... يهل دوماً وجه "جمال عبد الناصر"، الذي كتبت حزناً على وفاته قصيدة طويلة؛ ألقيتها حين كنت شاباً عشريني العمر في "مهرجان تأبينه" الذي أقيم بدار الأدباء في القاهرة العام 1970م؛ وشاركت فيه نخبة من أكبر شعراء الأمة العربية على مدى يومين تكتب ملحمة الحب والوداع لناصر.

 

ومن أبيات قصيدتي التي أختارها في هذه المناسبة؛ أقول في رثاء ناصر الحبيب:

 

كُنْتَ صُبْحَاً مُبَارَكَاً، بَعْثُهُ لَمْ

 

يَشْهَد الشَّرْقُ مِثْلَهُ فَعًّالا

 

عَرِفَتْكَ الشُّعُوبُ فَجْرَاً تَجَلّى،

 

وَجَسُوْرَاً، وَمُبْدِعَاً صَوًّالا

 

فَحَمدَنَا الْإِلَهَ خَيْرَ ثَنَاءٍ،

 

وَشَكَرْنَاهُ، أَنْ حَبَانَا جَمَالا

 

وَاتَّبَعْنَاكَ، قَائِدَاً خَالِدَاً، لا

 

يَنْثَنِي للصِّعَابِ، فَذَّاً مِثَالا

 

وَافْتَقَدْنَاكَ مُهْجَةً، وَفُؤَادَا

 

وَسِرَاجَا،ً ومِشْعَلاً، وَهِلالا

 

وَمَشَيْنَا، شِعَارُنَا بِالدِّمَا والرُّوْحِ،

 

لابُدَّ أَنْ نَسِيرَ عِجَالا

 

وَحَلفْنَا، نُحَقِقَ النَّصْرَ حَتْمَاً،

 

وَحَلفْنَا، نُحَطِّمَ الْأغْلالا

 

أَنْتَ حَيٌّ مُخَلَّدٌ، وَكِفَاحٌ،

 

كُلَّمَا أنْكَرُوهُ، زَادَ جَلالا

 

أَنْتَ مِصْرٌ، وَمِصْرُ قَاهِرَةُ الأزْمَانِ،

 

فَانْهَضْ وَكَذِّبَ الأقْوَالا

 

"رأفت السويركي"

 

إرسال تعليق

0 تعليقات