د. أحمد هراد
– كاتب وباحث في شؤون القرن
الأفريقي
مسيرة العار هي واحدة من أبرز ملامح الحرب العالمية الثانية وربما أشهرها
من الناحية الترويجية والدرامية إن صح التعبير، فهي المسيرة التي استعرض فيها زعيم
الاتحاد السوفييتي جوزيف ستالين الجنود النازيين الأسرى في شوارع موسكو في السابع
عشر من يوليو 1944 وهم أذلاء منزوعي السلاح وبوجوه متجهمة قبل أن يصلوا إلى محطتهم
الأخيرة وهي مراكز التجميع. بلغ عدد هؤلاء الأسرى حوالي سبعة وخمسين ألفا جنديا
وهو رقم ليس بكبير مقارنة بعدد القوات المتحاربة في عملية بربروسا التي قام بها
الألمان لغزو الاتحاد السوفييتي والتي اعتبر فيها مسرح الحرب بأنه المسرح الأكثر
ازدحاما في التاريخ!
لم يخيل لي عند رؤيتي لهذا المشهد من خلال إحدى وثائقيات الحرب العالمية
الثانية، أن أرى هذا المشهد مجددا بشكله الدرامي ذاته في القرن الحادي والعشرين،
ربما لأن شكل عالمنا قد تغير تغيرا جذريا بعد أن وضعت هذه الحرب الكونية أوزارها،
وذلك بسبب تراكم الإسهامات القانونية والحقوقية والإنسانية التي أنتجت صرحا دوليا
وإنسانيا عظيما اسمه الأمم المتحدة، والتي من خلالها وضع تعريف من هو الأسير؟ وكيف
يجب معاملته؟ وغيرها من مواد اتفاقية جنيف بشأن معاملة الأسرى في أغسطس 1949، ولكن
في الوقت نفسه حينما نرى مسيرة العار بعد كل هذا التراكمات الحقوقية والإنسانية في
دولة ما قد خرجت للتو من الحرب، لنا أن نتخيل حجم التجاوزات والانتهاكات الجسيمة
والكارثية التي وقعت في مسرح الحرب والتي دفعت المواطنين يهتفون فرحا بخلاصهم من
تلك الجيوش التي حملت بشارة الموت لكل ما هو حي على الأرض، ومسيرة العار في شوارع
مقلي لم تكن مجرد مسيرة جنود وقعوا في الأسر، بل كانت انعكاسا لما حدث في إقليم
تيغراي خلال الأزمة التي امتدت لقرابة ثمانية أشهر، من الرابع من نوفمبر 2020 إلى
الثامن والعشرين من يونيو 2021.
بدايات الأزمة تيغراي
البداية الحقيقية لأزمة تيغراي كانت مع إزاحة رموز جبهة تحرير تيغراي TPLF من قمة
الهرم السياسي في الحكومة الإثيوبية المتمثلة في الائتلاف الحاكم ” الجبهة الثورية
الديموقراطية لشعوب إثيوبيا EPDRF”، الذي كانت
فيه جبهة تحرير تيغراي هي المهيمنة على الائتلاف مدة ما يقارب 27 عاما، وذلك
تحديدا في الثاني من أبريل 2018 مع استلام الدكتور آبي أحمد لزمام الحكم في
البلاد، هذا التغيير الكبير في قمة الهرم أعقبه سلسلة من الإجراءات والخطوات التي
اتخذتها الحكومة الجديدة بغية تغيير شكل الهرم السياسي برمته، هذا الهرم الذي عانى
الكثير من التشويه بسبب تعاقب الحكومات والأنظمة غير ديموقراطية والرجعية
والديكتاتورية والتي كانت عنيفة في كثير من الأحيان بحق الإنسان الإثيوبي باختلاف
مشاربهم وقومياتهم وخلفياتهم السياسية والثقافية والدينية.
هذه المحاولة للتغيير الشامل لشكل الهرم، كان يعني بالضرورة التخلص من رموز
جبهة تحرير تيغراي بشكل تام وليس الاكتفاء بالإزاحة والإبعاد، وهو ما جعلها تتحول
من مبادرة للتغيير الحقيقي إلى صراع مراكز القوى وأجنحة الحكم داخل المنظومة
السياسية الواحدة وهي جبهة الائتلاف EPDRF. انتهت سلسلة إجراءات التغيير إلى طريق مسدود، وجميع الظروف
السياسية التي مرت بها إثيوبيا منذ 2018 – إلى 2020 كانت تهيئ القوى المتصارعة
المتمثلة في حكومة آبي أحمد وجبهة تحرير تيغراي وربما غيرهم إلى التصادم، ولكن شكل
هذا التصادم وحدته لم تكن في مخيلة أحد من المهتمين، ولم يتخيل احد أنها ستصل
لمستوى حرب شاملة تتصدر عناوين الأخبار العالمية حتى مع أكثر المتشائمين أو حتى
أكون دقيقا بشكل أكبر ” حتى مع أكثر المؤيدين لحركة التغيير وأكثرهم راديكالية!
بدأت الحرب في تيغراي في صبيحة الرابع من نوفمبر إثر إعلان الحكومة
الإثيوبية البدء في شن حملة عسكرية شاملة في تيغراي، مدعية أن ثكنات الجيش
الإثيوبي وتحديدا قطاع الشمال المرابض في إقليم تيغراي قد تعرضت للهجوم من قبل
قوات جبهة تحرير تيغراي بالإضافة إلى قتل العديد من الجنود الإثيوبيين وذلك في
عشية اندلاع الأزمة حسب الرواية الحكومية، وهو السبب الذي دعى الحكومة الإثيوبية
إلى إعلان العملية العسكرية الشاملة على الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي TPLF والذي سميت
بعملية إنفاذ القانون، وذلك في الرابع من نوفمبر 2020.
بينما قدمت الجبهة رواية أخرى، فبعد ما يقارب الشهرين من اندلاع الحرب – في
السابع عشر من ديسمبر 2020 – أجرت وكالة الأنباء رويترز مقابلة مع دبري تسيون جبر
مايكل رئيس جبهة تحرير تيغراي، أنكر فيها الأسباب التي تحدثت عنها الحكومة، وقال: “نحن
لم نبدأ أي هجوم، وهناك بعض الجنود ممن انضموا للجبهة بعد أن رفضوا الطريقة التي
تعاملت فيها الحكومة الفيدرالية مع إقليم تيغراي”.
أيا كانت الرواية هي الأصح، المهم أن ما حدث في إثيوبيا وفي تيغراي في بعد
إطلاق الشرارة الأولى للحرب قد غير وجه السياسة الإثيوبية في الداخل وفي الخارج
بصورة تدعو للقلق على مستقبل البلاد وسلامة أمنه الاجتماعي.
أحداث تيغراي
كما أسلفنا، قامت الحكومة الفيدرالية بإعلان الحرب في الرابع من نوفمبر،
وإعلان أن الإقليم هي منطقة عمليات عسكرية مغلقة وقامت أيضا في قطع الاتصالات
وخدمات الإنترنت في الإقليم كإجراء روتيني عسكري وأمني، وهو ما عزل الإقليم تماما
عن بقية الأراضي الإثيوبية وعن بقية العالم، لذا أصبحت رواية أحداث الحرب وخط سير
المعارك حكرا بيد الحكومة الفيدرالية التي هي طرف أصيل في الأزمة، فلم تكن هناك
وسائل إعلام تغطي ما حدث ولم يكن هناك تواجد للطرف المقابل وهي قوات جبهة تيغراي
على وسائل الإعلام، وكأن الجبهة تحولت في غمضة عين إلى سحابة صيف تبددت دون أي
تحدث أي جلبة، وإن كانت هناك بعض مقاطع المرئية المتناثرة هنا وهناك نشرتها قوات
تيغراي، ولكن في المجمل كانت الحكومة هي من رسمت خط سير الأحداث.
نستعرض أهم الأحداث التي وقعت خلال الأزمة:
– إعلان بدء عمليات إنفاذ القانون في إقليم تغراي في الرابع من نوفمبر 2020.
– حركة تغييرات في الحكومة الإثيوبية، وتولي دمكي مكونن حقيبة الخارجية،
وتولي تيرونيه تمسقن رئاسة المخابرات، والجنرال برهانو جولا رئاسة الأركان.
– إعلان جبهة تحرير تيغراي عن وجود القوات الإريترية وشهادة النازحين عن
وجود مليشيات فانو FANO.
– رفض الحكومة الإثيوبية طلب الاتحاد الأفريقي للمصالحة والحوار مع الجبهة
الشعبية لتحرير تيغراي.
– سقوط أغلب المدن في تيغراي.
– إعلان رئيس الوزراء آبي أحمد عن مهلة 72 للمقاتلين للاستسلام وإلقاء
السلاح.
– إعلان الحكومة عن سقوط مقلي، عاصمة إقليم تيغراي.
– تقارير عن انتهاكات واسعة النطاق، وأنباء عن وقوع مجازر وعمليات اغتصاب
ممنهجة على نطاق واسع في الإقليم
– المجتمع الدولي يدين الانتهاكات والفظاعات التي تم نشرها عبر وسائل
التواصل الاجتماعي وغيرها.
– المجتمع الدولي يدعو الحكومة إلى المبادرة إلى المصالحة والحوار الشامل
مع جبهة تحرير تيغراي ومع عموم القوى السياسية في إثيوبيا
– المجتمع الدولي يدعو لفتح المعابر والحدود لإيصال الغذاء إثر أنباء عن
استخدام الجوع كأداة حرب
– أنباء صادمة عن وقوع مجاعة وتعرض ما يقارب ثلث مليون إنسان للجوع في
الإقليم، وما يقارب المليون إنسان على حافة الجوع.
هيمنت هذه الأحداث على المشهد الإثيوبي وعلى أزمة تيغراي ما يقارب سبعة
أشهر، ولكن الشهر الثامن والأخير من الأزمة شهدت تطورات كبيرة، ساهمت بشكل كبير في
قلب المعادلة وسقوط إقليم تيغراي بيد قوات دفاع تيغراي، أول تلك الأحداث كانت
في تشكيل ما يسمى قوات دفاع تيغراي TDF والتي أنشئت
منذ بداية أزمة تيغراي، وتعتبر الجناح العسكري لجبهة تحرير تيغراي والتي تضاعفت
قوتها مع انضمام العديد من الأحزاب والقوى المسلحة في تيغراي لهذه المظلة العسكرية
كالمجلس الوطني لتيغراي العظيمة، وحزب ساويت- سلساي وياني وحزب استقلال تيغراي
وغيرها، وما هي يعني حدوث اصطفاف قومي شعبي شكل أغلبية شعبية واضحة، صبت في صالح
جبهة تحرير تيغراي ومقاتلي قوات الدفاع
خلال الفترة الأخيرة من الأزمة، وربما كان ذلك بسبب الانتهاكات الفظيعة والعمليات
الانتقامية التي ارتكبتها القوات المتواجدة في الإقليم، وهو جعل هذه الحرب التي
بدأت لأسباب سياسية في أعين الجميع تتحول إلى حرب وجودية في أعين أبناء تيغراي.
نوعية العلميات والانتشار التي تبنتها قوات دفاع تيغراي، التي انسحبت من
المدن الكبرى مع بدء الأزمة واتخذت من الجبال بيوتا، لعبت دورا كبيرا في تطويق
الجيش الوطني الإثيوبي في المدن، بالإضافة إلى شكل العمليات “اضرب واهرب Hit-and-Run ” التي
اعتمدها قوات دفاع تيغراي TDF في ريف الإقليم.
لوحظ قيام قوات دفاع تيغراي بعمليات عسكرية ونوعية في الأسابيع الأخيرة قبل
سقوط مقلي، وخروج المقاتلين من معاقلهم التقليدية باتجاه الحواضر الكبرى في
الإقليم في عملية سميت باسم رأس ألولا Ras Alula Operation، وهو ما جعل
المدن أشبه بسجون كبيرة للجيش الوطني الإثيوبي، ولعل هذا ما يفسر فداحة الخسائر في
الجيش الوطني الإثيوبي الذي وصل إلى سحق ما لا يقل عن خمس فرق عسكرية كاملة من جيش
الدفاع الإثيوبي، وكما هو فإن الفرقة العسكرية في الجيش الإثيوبي تضم ما يقارب من
خمسة إلى ستة آلاف جندي، وهو ما يعني أن الحصيلة الأولية تشير إلى مالا يقل عن
عشرين ألف جندي إثيوبي – مقارب للرقم الذي ذكره دبري تسيون في مقابلته في
النيويورك تايمز – بالإضافة إلى تطويق ثلاث فرق عسكرية أخرى ووقوعها في الأسر
والعديد الأرقام الأولية للأسرى تتراوح
بين 6 – 10 آلاف والأرقام مرشحة للتصاعد، والخسائر التي ذكرها أليكس دي وال في
مقاله بأن الجيش الإثيوبي قد فقد النصف تماما من قواته قد يكون مبالغا فيه نوعا
ما، ولكن حسب الأرقام المتواترة قد تصل التكلفة الإجمالية إلى خمسين ألف جندي بين
قتيل وأسير وهو ما يعني أن أقل من ربع قوة الجيش وليس النصف، ولا نعلم حتى الساعة
كم هو حجم الخسائر في القوات الإريترية والمليشيات الامهرية المتطرفة التي تسمى ب FANO.
هذه الأرقام الأولية التي ذكرتها قد تعطي فكرة عامة إلى الأساليب التي
أديرت بها الحرب في تيغراي ، والتي أقل ما يقال عنها أنها متعجلة ومندفعة جدا
ونتيجة قرار سياسي طائش، رغم أن الدلائل تشير إلى أن الحكومة الفيدرالية قد أعدت
لهذه الحرب قبل نوفمبر 2020، فكيف يمكن أن تقوم الجبهة بهجوم على مئتي ثكنة عسكرية
على الجيش الإثيوبي في الثالث من نوفمبر، وفي صبيحة اليوم التالي – أي في الرابع
من نوفمبر – تقوم قوات الجيش الإثيوبي بالرد ودخول الإقليم وبصحبة القوات
الإريترية والمليشيات الأمهرية؟ إلا إذا كانت القوات الثلاثية على استعداد وجهوزية
تامة وعالية وأن النية كانت مبيتة من قبل نوفمبر بوقت طويل، بالإضافة إلى التقارير
التي أشارت بوضوح إلى دور المليشيات الأمهرية المتطرفة في ارتكاب مجزرة في دنشا Dansha في الخامس
من نوفمبر – أي في اليوم الثاني من بدء العملية – وهو ما يعني أن تلك القوات الغير
نظامية قد تواجدت مع الساعات الأولى من اندلاع الحرب!
لذا فهذا التخبط أو الاندفاع في التخطيط الحربي والتخبط في الإعلام الحربي الذي أنكر مرارا
نقاط عديدة ثم عاد وأقر بوجودها مثل تواجد القوات الإريترية والانتهاكات الجسيمة
وشبح المجاعة ليس له سوى تفسير واحد، وهو أن الجيش الإثيوبي قد دفع فاتورة باهظة
للتغيير الذي سعى له آبي أحمد في الفترة ما بين 2018 – 2020 ، ومن المعلوم أن حجم
القادة والضباط من قومية تيغراي شكلوا رقما كبيرا في الجيش الوطني قد يصل إلى
أضعاف مضاعفة مقارنة بحجم قومية تيغراي سكانيا، لذا فحركة التغييرات في الجيش سواء
كانت في فصل الجنرالات والضباط أو في إحالتهم إلى المعاش والتقاعد أو في جعلهم قيد
التحقيق والحجز، خلقت منه جيشا بلا رأس، وغير قادر على اتخاذ قرارات عسكرية سليمة
ومنطقية، وقد تفسر أيضا موافقته المبهمة في استدعاء قوات أجنبية ومليشيات غير
نظامية لمسرح الحرب، بالإضافة إلى غياب الضبط في صفوف الجنود الذين تورطوا في
الانتهاكات الواسعة التي وقعت في الإقليم نظرا لغياب المركزية في الجيش وضعف
المتابعة، وهو ما أكده قائد الجبهة
الشعبية لتحرير تيغراي في مقابلته مع رويترز في السابع عشر من ديسمبر 2020 ، حينما أشارا إلى
انشقاقات في الجيش الإثيوبي لدواعي أخلاقية!
المآلات
أعتقد أن مؤسسة الجيش العريقة في إثيوبيا التي ساهمت في تشكيل إثيوبيا
الحديثة في تسعينيات القرن التاسع العشر الميلادي، وساهمت أيضا على الحفاظ على
استقلاله بعد ذلك، لن تقف مكتوفة الأيدي لما حدث مع استغلال سياسي لها نتيجة حركة
التغيير التي حدثت بعد 2018، كيف لا وهي التي دفعت فاتورة باهظة في مسرح الحرب في
تيغراي وكانت أداة في إحداث شرخ بالغ في إيمان المواطنين بمؤسساتهم التي استدعت
قوى من خارج الحدود لتصفية فصيل داخلي، ودفعت وستدفع الكثير من سمعتها التي تضررت
على المستوى الخارجي والدولي، هذا الجيش إن استعاد تصور مكانته الحقيقية
والتاريخية ربما سيكون له رأي في الأوضاع القادمة في إثيوبيا وفي ترتيب البيت من
الداخل، وربما قد يعيد الأمور إلى نصابها ويساهم في تغيير من داخل القصر!
ختاما، سقطت برلين بعد عام من مسيرة العار التي أقيمت في
شوارع موسكو في 1944، وسقط النظام الملكي في مصر في 1952 بعد هزيمة 1948، ودخل
النظام الناصري حالة موت سريري بعد عودة الجيش المصري من سيناء في نكسة يونيو 1967،
وكذلك هذا هو حال الدولة العراقية بعد غزو الكويت وعودة الجيش العراقي الذي عاد
داخل حدوده بعد عاصفة الصحراء الذي فوجئ بانتفاضات الجنوب والشمال، فالتاريخ يقول
أن الجيوش المنهزمة لها دور في الداخل بعد عودتها إلى ثكناتها ومواقعها الأولى. ما
حدث في تيغراي من الناحية العسكرية غير معلوم على وجه الدقة إلى الآن، ربما لأن
فصول الأزمة في تيغراي لم تنتهي بعد، ولكن الأكيد أن حال مؤسسة الجيش وربما الدولة
الإثيوبية ككل سيكون لهما شأن آخر بعد مسيرة العار.
0 تعليقات