صبحي شحاتة
يكتب النفساني الكبير دوستويفسكي في روايته" الأبله" هذا
المشهد الفارق والعجيب: كان الأمير ميشكين في قاعة قصر أسرة مضيفيه، وهي قاعة
فاخرة غاصة بالرواد الفاخرين، وهو بينهم يتأملهم ومحتويات القاعة، حتي سقطت عينه
علي فازة ثمينة، شعر الأمير بأنه سيصطدم بها، فحاول طيلة مكوثه في القاعة أن يتجنب
الاقتراب منها، ثم انشغل بالرواد ومخالطتهم والحديث معهم والانخراط في الاحتفال-
حتي أنا القارئ نسيت تلك الفازة- لكن فجأة انفجر دوي هائل علي أثرة كانت الفازة
ساقطة محطمة علي الأرض أمام الأمير ميشكين الذي اصطدم بها..
لقد عرف الأمير ميشكين منذ البداية أنه سيصدم الفازة، لكنه لم يصدق
حدسه ونساه أو غفل عنه، مثلي أنا القارئ تماما، فإذا بحدسه ذاك يقوده علي غفلة منه
إلي ما حذره منه من قبل.
كيف عرف، أو استطاع دوستويفسكي هذه المعرفة الحدسية؟! ومن أين له
هذه الجرأة والرود واختراق كل توقع، بل وأجبار الأحداث أن تسير ضد المنطق، وتنفتح
علي منطق آخر جديد تماما، مدهش محير صادم.
كان علي ميشكين لما أحس بهذا الإحساس أن ينصرف فورا من القاعة،
لكنه فيما يبدو تحرج وراهن أنه مجرد أحساس عابر، كما ظننت أنا القارئ، لكن العابر
صار مقيما، والمرهف اللطيف الخفي، تحول إلي فعل خارجي خشن انفجاري، ثم تعرف
البشرية من بعد، أن خفقان أجنحة الفراشة في طوكيو يؤدي إلي عاصفة في أمريكا.
والخوف الأول غير العقلاني اللاعب اللاهي الشاذ من الاصطدام بالفازة، قاد ميشكين
دون وعي منه إلي الفازة فعلا، فصدمها وحطمها.
ما الذي قصد إليه دوستويفسكي من هذا؟ كيف له التفكير علي هذا النحو
غير المتوقع، وغير المنطقي؟ كيف نهل من جرأة خياله بهذا القدر، فصار له رؤية دائما
مدهشة، هل هو يعبث في النفس الإنسانية؟ هل ثمة جسر بين الخيال والواقع، وبينه هو
ككاتب وبين شخصياته؟!
اسأله كثيرة لابد محيرة تنتاب قارئ دوستويفسكي، وتجعله يعيد النظر
في التفكير الإبداعي دوما، إنها الجرأة الإبداعية غير المحدودة التي تشكل وتعيد
تشكيل الإنسان ذاته..
يقول كارل غوستاف يونج عالم النفس التحليلي عن طباع الإنسان
البدائي، أنه شديد الانتباه لما يحدث حوله، ويعتبر ما يحدث له رسائلا جادة عليه
احترامها، فلو خرج من عشته أو كهفه إلي الغابة بغرض الصيد، وحدث في طريقة شيئا
يحدس منه بأن اليوم غير مناسب للصيد، يعود فورا إلي مسكنه.
يسمي الفلاسفة هذا الشعور بالحدس، الذي هو المعرفة المباشرة دون
توسط، وهذا الشعور الحدسي مازال موجودا لدينا حتي الآن، ويتمثل في قول واحد في
الصباح وهو خارج من بيته إلي العالم وقد وجد شيئا غير جيد يحدث أمامه، يقول:
يبدو أن هذا اليوم مش فايت
أو هو يوم باين من أوله..
لقد حذر ميشكين نفسه بواسطة الإحساس الحدسي، لكن عقله لم يصدق حدسه
هذا، فإذا به يحدث فعلا.. هناك إذن إدراك قبل عقلي إدراك نفسي شعوري حدسي يفوق
العقل المنطقي، انتبه له الإنسان منذ بدائيته فجنبه الكثير وساعده علي البقاء
والاستمرار وتلافي الأخطاء والمزالق والمهواوي.. كيف للفن أن يكتشف هذا قبل العلم؟
وهل هو اكتشفه أم خلقه خلقا؟! ثم أجبر العلم علي تبنيه.
في العلاقات الإنسانية بين الناس يقود الحدس العلاقة من أولها، فما
أن يتقابل اثنان رجل وامراة بغرض الحب، والزواج، والصداقة الخ، يوجد هذا الحدس
الذي يستشرف المستقبل، ويكون هذا الحدس إما تحذيرا للشخص أنه سيصطدم بالفازة كما
حدث مع ميشكين، أو أن هذه بداية رائعة ليوم رائع، ومن ثم حياة طيبة مع شخص جيد..
إن الحدس الداخلي أكبر وأهم من العقل وفهمه المنطقي، بل أن الحدس
عقل أعمق، علينا الانتباه إليه حتي يقودنا إلي حياة أخري نحبها، أو لا نحبها،
فننجوا منها.
وحده المبدع الحر جرئ الخيال، قادر علي فتح أفق في الإنسان بخياله
العظيم، فيزيد منه ويعيد بذلك تشكيله وخلقه من جديد..
0 تعليقات