عمر عسر
تشير دراسات عديدة إلى أن إفريقيا قارة المستقبل اقتصاديا وأنها
أرض الفرص، وتؤيد تنافسات القوى الكبرى على بسط نفوذها أو إيجاد موضع قدم في
القارة السمراء هذه الفرضية.
ورغم الفرضيات التي تذهب إلى أن إفريقيا أرض المستقبل فما تزال
أنظمة حاكمة في القارة تقود بلدانها عكس اتجاه المستقبل بما يمزق مجتمعاتها ويهدد
بقاء دولها، على رأس هذه الأنظمة النظام الحاكم في إثيوبيا.
بدأ آبي أحمد رئيس وزراء إثيوبيا عهده بوعود طموحة لتحديث إثيوبيا
وتنفيذ إصلاح سياسي واسع يترافق مع خطة تنمية اقتصادية تنتشل بلاده من وهدة التخلف
التي سقطت فيها جراء عقود من الفساد والقمع والاقتتال الأهلي.
وحقق آبي أحمد ما أمكن أن يكون بوادر نجاح في عدة مجالات.. الإفراج
عن سجناء رأي، فتح سوق إثيوبيا أمام الاستثمار الخارجي، التصالح مع إريتريا بما
يتيح استقرارا يسمح بالتنمية ويطمئن المستثمرين. وكان الفوز بجائزة نوبل المرموقة
بوابة أحمد لشهرة دولية واسعة ما كان يتصورها في أكثر أحلامه وردية.
لفترة لم تطل كان الانطباع عن آبي أحمد إيجابيا فهو شاب (تولى
المنصب وعمره 42 عاما) وهو قادم من الجيش الذي التحق به ليغادره إلى المخابرات
الإثيوبية التي وصل خلال عمله فيها لرتبة عقيد ثم تركها عام 2010 لينضم إلى الجبهة
الديمقراطية لشعب أورومو. بعد فوزه بمقعد برلماني لدورتين تولى وزارة العلوم
والتكنولوجيا من 2016 حتى 2017 وصار نائبا لرئيس إقليم أورومو في نهاية 2016.
اختار ائتلاف الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية أبي
أحمد رئيسا للائتلاف ما أهله ليصير رئيسا للوزراء بشكل تلقائي خلفا لرئيس الوزراء
السابق هايلي مريام ديسالين، الذي أعلن استقالته بعد اندلاع أعمال عنف واحتجاجات
مناهضة للحكومة بسبب نزاع بين مواطنين غالبيتهم من عرقية أورومو والحكومة حول
ملكية أراض.
تجمعت لآبي أحمد عوامل صنع صورة إيجابية هي: الشباب والعمل بالجيش
والمخابرات والعمل السياسي في البرلمان والحكومة، ورأي المراقبون أن إثيوبيا على
أعتاب مستقبل مبهر، لكنه خيّب أمل من ظنوا أنه قائد إثيوبيا إلى مستقبلها.
أظهر آبي أحمد نزعة غريبة للتسلط لفتت انتباه مراقبين إثيوبيين
وأجانب، فوصفه الناشط الحقوقي والصحفي وأحد زعماء الأورومو جوهر محمد بأنه
"شعبوي"، وقالت الصحفية ميشيلا رونج المراقِبة المخضرمة للسياسة
الإثيوبية، أنه يشبه دونالد ترامب الرئيس الأمريكي السابق وفلاديمير بوتين رئيس
روسيا المزمن، من الشعبويين الذين "يستخدمون النداءات القومية لإيقاف النقاش
السياسي المحلي والعمليات المؤسسية".
وبدأت ردود الأفعال على تسلط آبي أحمد برفض إقليم التيجراي (شمال
إثيوبيا) تأجيل الانتخابات وإصدار حكومة الإقليم المنتخبة قرارا بإجراء الانتخابات
في موعدها.
بدلا من التعامل مع قرار إقليم التيجراي بأسلوب رجل الدولة. تعامل
آبي أحمد مع القرار وكأنه تحد شخصي له وانفجرت تصريحاته التهديدية التي أبرزت صورة
مغايرة له كشخص منفلت الأعصاب لا يقبل أي مساس بما يراه "حقوقه
السلطوية" ولا يقيم حسابا لشئ سوى هيبته المستمدة لا من أحكام الدستور
الإثيوبي بل من تراث الأباطرة الأحباش القدامى أصحاب الحق الإلهي في الحكم والذي
يقابله تكليف إلهي بالطاعة للرعية. رعية أم مواطنون هذا السؤال هو المحدد لمستقبل
آبي أحمد ومن ورائه إثيوبيا كلها.
في نوفمبر 2020، قرر آبي أحمد "تأديب" رعيته المارقين في
إقليم التيجراي وشن عليهم حملة عسكرية لإجبارهم على "الخضوع" لسلطته
والإقرار بسلطانه، بدأت العمليات بما أثلج صدر آبي ومنحه أملا في نجاح حملة
"تأديب المارقين" فألقت سلطات أديس أبابا القبض على عدد من قيادات جبهة
التيجراي وتمت لآبي السيطرة على ميكيلي عاصمة إقليم التيجراي.
ثم دارت على قوات آبي أحمد الدوائر ونظمت قوات التيجراي بعد
تنفيذها انسحابا تكتيكيا إلى الجبال صفوفها وبدأت حرب عصابات ضد قوات أديس أبابا
كبدتها خسائر فادحة في الأفراد والمعدات وتحولت حملة التيجراي من استعراض قوة
إمبراطور أديس أبابا إلى مستنقع غرقت فيه هيبته وابتلعت حفره جيشا ظن آبي أنه لا
يقهر وعلم التيجراي أنه جيش مهزوم قبل أن يحارب، وأثبتت المعارك أن جيش آبي يمارس
نشاطين اثنين بكفاءة تامة: الأول تسليم الأسلحة والمعدات، والثاني الوقوع في الأسر.
في 28 يونيو فرت قوات آبي أحمد من ميكيلي عاصمة إقليم التيجراي بعد
أن نهبت البنوك والمتاجر، ليعلن آبي أن قواته انسحبت بعد أن حققت أهدافها!!!
دون الدخول في التفاصيل العسكرية، فإن دخول قيادات جبهة التيجراي
ميكيلي والاستقبال الشعبي الحافل لهم دليل على هزيمة آبي أحمد الذي أعلن أن
"حملة تأديب" التيجراي نجحت في التخلص من قيادات الجبهة، لكن ارتباك
الهزيمة دفع آبي للاعتراف بسقوط سلطته في الإقليم بتأكيده أن مواطني التيجراي
عاملوا الجيش الفيدرالي كجيش احتلال، لكن القوات بالفعل كانت قوات احتلال.
طمعا منه في إنهاء عملية "التأديب" بسرعة استعان آبي
أحمد بجيش إريتريا وارتكب الجيشان جرائم حرب ضد مواطني التيجراي شملت وقائع اغتصاب
ونهب الممتلكات وتدمير البنية التحتية، فهل يتم إنفاذ القانون بمثل هذه الجرائم!؟
وهل يستعين حاكم يدعو مواطنيه لإعلاء قيمة الوطن بجيش أجنبي لقتل مواطنيه؟ هذان
السؤالان كانا المدخل لتشكيل الصورة الجديدة لآبي أحمد، صورة المتعطش للسلطة
والخارج عن كل قانون.
حرب التيجراي كانت في صلبها تعبيرا عن رفض آبي أحمد لدستور إثيوبيا
الفيدرالي القائم على منح صلاحيات متساوية للأقاليم والشعوب التي تتشكل منها
إثيوبيا، وتقوم رؤية آبي على أن الفيدرالية هي السبب المباشر لأزمات إثيوبيا وأن
المخرج هو حكم مركزي لا يعترف بحقوق سوى حقوق السلطة ولا يقر امتيازات سوى لمن
يحكمون من أديس أبابا، وبدلا من طرح رؤيته في برنامج انتخابي واستفتاء المواطنين
قرر آبي أن يطلق رؤيته للسياسة الإثيوبية على المواطنين من فوهات المدافع وأن
يسقطها على رؤوسهم من قواذف الطائرات.
ولأن هدفنا ليس سرد الوقائع بل محاولة استقراء الدوافع فالشاهد أن
"حملة تأديب التيجراي" وضعت آبي أحمد في بؤرة التصويب داخليا وخارجيا،
جرائم الحرب التي ارتكبتها قوات أديس أبابا وأسمرة استفزت قطاعات واسعة من الشعوب
الإثيوبية - رغم التعتيم الإعلامي- وحدت برأس الكنيسة الإثيوبية لوصف حرب التيجراي
بـ"الإبادة الجماعية"، كما استدعت إدانات دولية واسعة لآبي أحمد كان من
أهم عناصرها أن هذه الجرائم لا تليق بمن فاز بجائزة نوبل للسلام، وتحولت الجائزة
من بؤرة ضوء مسلطة على نجم بالمسرح الدولي إلى كشاف مسلط على وجه مجرم في غرفة
تحقيق.
وعلى مستوى السياسة الخارجية، فشل آبي أحمد في الحفاظ على صورته
وشوّه صورة بلاده، وتحول من صانع سلام محتمل لمفجر صراعات يجب إيقافه. وليس من
دليل أوضح من موقفه من مفاوضات سد النهضة مع مصر والسودان، تعامل آبي مع هذه
القضية يكشف تمكن أوهامه منه وتغلب أحلامه عليه، السد الذي يمثل وفق الدعاية
الرسمية الإثيوبية مشروعا للنهضة حولته أوهام آبي أحمد إلى مشروع للدمار.
بعد تولي آبي أحمد السلطة في 2018، لقى سيمجنيو بيكلي مدير مشروع
سد النهضة مصرعه في حادث لم يتم كشف مرتكبيه، وبعدها تغير مسار السد، وبدلا من أن
يكون محطة توليد كهرباء كما كان مخططا له صار منشأة لبنك مياه يمكن للحاكم في أديس
أبابا عبره تعطيش مصر، وبدأت المفاوضات حول السد بين مصر والسودان من جهة وأديس
أبابا من الجهة الأخرى تصير لعبة عبثية لا طائل منها ولا فائدة.
وانسحب وفد آبي أحمد من المفاوضات مرتين، الأولى في واشنطن
والثانية في كينشاسا، وصارت دعاوى إثيوبيا حول السد هذيانا من قبيل أن السد
الإثيوبي أصغر من السد العالي في مصر وأن تقسيم المياه تم بناء على اتفاقيات في
عهد الاستعمار.... إلى آخر ما تشدق به آبي ومسئولو حكومته، لتجد أديس أبابا نفسها
معزولة عن العالم الذي اكتشف انها لا تعلم ماذا ترفض كما لا تعلم ماذا تريد، مقابل
ضبط النفس والتعامل وفقا للقوانين الدولية اللذين تحلت بهما القاهرة والخرطوم.
ويحاول آبي أحمد الاستفادة من تعنته غير المجدي داخليا بتصوير نفسه
مدافعا لا يلين عن حقوق إثيوبيا، وإلقاء تهمة الأزمات التي تشهدها البلاد على طرف
خارجي يرفع عنه -فيما يتوهم-عبء المحاسبة عن نتائج أفعاله ويتيح له البقاء في
السلطة حتى تتغير الظروف، لكنه في سكرة توهماته يغفل عن أن تعنته يفتح الباب واسعا
أمام نشوب أول حرب على المياه في إفريقيا ستكون فاتحة شر على العالم الذي يشهد
بسبب المياه نزاعات مكتومة تنتظر أول شرارة للانفجار، وهكذا تحول "موهوم أديس
أبابا" من أزمة لإثيوبيا إلى مهدد لأمن العالم.
أزمة إثيوبيا ليست في منصب آبي أحمد، إنما مصيبتها في أوهامه
وأحلامه، فها هو يدعو شعوب إثيوبيا وقومياتها إلى رفع السلاح والتكتل ضد التيجراي
لاستئناف حملته ضدهم، ويتغافل عن القتال الدائر بالفعل ضد جيشه في إقليمي أوروميا
وبني شنقول، وتعميه أوهامه عن رؤية هاوية الحرب الأهلية التي يدفع بلاده إليها.
هناك أسئلة تجب على الإثيوبيين إجابتها لمحاولة تحديد مستقبل
بلادهم...
الأول هل هم مواطنون أم
رعايا، الثاني هل استدعاء جيش أجنبي لقتل الإثيوبيين وارتكاب جرائم حرب بحق قوميات
منهم وسيلة لإنفاذ القانون، الثالث والأهم من الذي من حقه البقاء آبي أحمد بأوهامه
وأحلامه أم إثيوبيا موحدة بشعوبها وقومياتها؟، هذه الإجابات مطلوبة على وجه السرعة
فالهاوية لا تحذر أحدا.
0 تعليقات