آخر الأخبار

صندوق الأزمات السياسية في إثيوبيا

 




 

د. أحمد هراد

 

باحث في شؤون القرن الأفريقي

 

 

 

عكست المظاهرات العارمة التي اجتاحت إثيوبيا في 2015/ 2016 حجم المرارة ونفاذ صبر الأثيوبيين تجاه الأوضاع المتردية في البلاد التي كانت نتيجة طبيعية للحكم الديكتاتوري ونظام الحزب الواحد وتفشي الفساد والمحسوبية في كافة مظاهر الدولة بالإضافة إلى عدم كفائتها في إيجاد الحلول الناجعة للخروج بالبلاد إلى بر الأمان، اضطر بعدها رئيس الوزراء هيلا مريام ديسالين إلى الاستقالة من رئاسة الحزب الحاكم الجبهة الديمقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا ومن رئاسة الحكومة في فبراير 2018، تمكن بعدها آبي أحمد من الفوز في اقتراع داخل الحزب الحاكم وبالتالي صعوده لمنصب رئيس الوزراء في الجمهورية الإثيوبية الفيدرالية، وهو حدث فريد من نوعه نظرا لانتماء آبي أحمد لقومية الأورومو التي تشكل أكثر من 34 % من السكان والتي عانت من التهميش الممنهج طوال تاريخ إثيوبيا الحديث وأيضا لخلفيته الإسلامية في بلد معروف بإرثه المسيحي في التاريخ القديم والحديث.

 

 

حظي صعود آبي أحمد بترحيب شعبي واسع في بداية الأمر وذلك بسبب فلسفته ونظرته التي قدمها للشعب الإثيوبي والتي لخصها في كلمة واحدة ” ماديمر ” التي تعني التعاضد والمعية في اللغة الأمهرية وترتكز فلسفته على عدة سياسات عامة، كالتشجيع على الوطنية الإثيوبية وتحرير السوق وخصخصة القطاعات العامة والمزيد من الحريات السياسية، وذلك بعد ثلاثة عقود من نظام الحكم المتعمد على فيدرالية الإثنيات والحزب الواحد والحريات السياسية المقيدة الذي اعتمدته الجبهة الديمقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا EPRDF المؤلف من تحالف أحزاب الأقاليم الإثنية بقيادة الراحل مليس زيناوي رئيس وزراء إثيوبيا السابق، الذي قاد الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي لإسقاط حكم الطاغية مينغستو هيلاميريام في مايو 1991.



البداية المشجعة في 2018


وفق آبي أحمد في الإقدام على بعض الإجراءات السريعة المفعول فور وصوله لسدة الحكم، كالعفو الشامل للمعتقلين السياسيين وإطلاق الحريات السياسية بالإضافة إلى تقديمه حزمة من القوانين واللوائح الاقتصادية والتي هدفت لتحرير السوق ومحاربة الفساد، تلك الإجراءات التي ساهمت في تهدئة الشارع الإثيوبي في بداية الأمر، إلا أن شهر العسل السياسي في إثيوبيا قد مر بشكل خاطف، و مع انقضائه كان آبي أحمد على موعد مع سلسلة الأزمات العميقة في الداخل الإثيوبي التي تفاقمت في عدة أقاليم من البلاد كإقليم تيغراي في شمال البلاد و إقليم أوروميا أكبر أقاليم البلاد مساحة وسكانا، مرورا بتفاقم أزمة ديون اثيوبيا الخارجية وتصاعد الصراع بين القوى الغربية والصين في الاستحواذ على السوق الإثيوبي الواعد، بالإضافة إلى العديد من الأزمات التي جعلت رصيده السياسي البسيط على المحك.



حبات من سبحة الأزمات



أزمة تيغراي : قصقصة أجنحة الحزب القديم



تمكنت الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي TPLF بقيادة ميليس زيناوي من إزاحة الديكتاتور منغيستو هيلا ميريام وحكومة الديرغ في مايو 1991 وقيادة البلاد من خلال تحالف حزبي مكون من القوميات والإثنيات الإثيوبية المختلفة، و جرى تبني نظام حكم اتسم باللامركزية و إعطاء الصلاحيات للإثنيات بتشكيل الأقاليم وإدارتها ، إلا أنه من الناحية الأخرى فإن هذا التحالف لم يكن سوى واجهة جميلة لنظام تركزت فيه السلطات والقوة وإدارة البلاد في يد حفنة قليلة من أبناء قومية التيغراي وموفرة الأرضية الملائمة لتفشي الفساد وسوء الإدارة بالإضافة إلى القمع السياسي.


سعى آبي أحمد منذ البداية إلى تقليص نفوذ زمرة التيغراي أو الدولة العميقة ، وذلك بشنه حملة من الاعتقالات في صفوف النخبة التغرينية بدواعي الفساد و فصله أكثر من 160 ضابطا من الجيش و إقصاءه العديد منهم من مفاصل الدولة المهمة والحساسة، بالإضافة إلى قيامه بحل الجبهة الديمقراطية الثورية لشعوب اثيوبيا التي تقوده الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي وتكوينه حزب جديد باسم حزب الازدهار ، تلك الخطوة التي أنهت هيمنة قومية التيغراي و بشكل نهائي على تحالف الأحزاب الإثنية الذي استمر لثلاث عقود. أدت هذه الإجراءات الإصلاحية إلى نزوح أكثر من 120 ألف من التغرينيين من مختلف منطاق اثيوبيا ورجوعهم إلى إقليم تيغراي وإلى عودة القيادات التيغرينية إلى معاقلهم الأصلية في مقلى عاصمة الإقليم.


ومما زاد من تفاقم الأزمة بين إقليم تيغراي والعاصمة أديس أبابا، هو إعلان البرلمان الإثيوبي في مارس 2020 من صعوبة إجراء الانتخابات العامة في أغسطس 2020 بسبب جائحة كورونا – كوفيد 19 وتمديد التفويض لآبي أحمد لمدة 12 شهرا، وهو مارفضته الأحزاب في إقليم تيغراي وأعلنت أن حكم آبي أحمد سيكون غير قانونيا بحلول أكتوبر 2020، وأنها ستستمر في إقامة الانتخابات البرلمانية المحلية في موعدها، وهو ما حدث في سبتمبر الماضي، وفيها أعلن عن فوز الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي بنسبة 98.2% من أصوات الناخبين وعلى أغلبية في مقاعد البرلمان التغريني في الإقليم ، من جهته اعتبر أبي أحمد أن هذه الانتخابات ركيكة وغير سليمة ولاغية قانونيا.


رغم عدم التصريح المباشر للجبهة الشعبية برغبتها في الانفصال، إلا أنها دافعت عن حق إقليم تيغراي في تقرير مصيره و الذي يكفله الدستور الإثيوبي الذي ينص على أحقية أقاليم اثيوبيا بالانفصال وتقرير المصير.


أزمة أوروميا : إرث قديم من التهميش



الأزمة في الموطن الأصلي لأبي أحمد في إقليم أوروميا قد تبدو أكثر تعقيدا وتشابكا من نظيرتها في إقليم تيغراي، فالقومية الأورومية نالت قدرا كبيرا من التهميش والإقصاء طوال التاريخ الإثيوبي الحديث الذي بدأ بانتهاء عهد الأمراء ( 1750 – 1850 ) ، و رغم أن القومية الأورومية هي الأكبر عدديا في اثيوبيا، إلا أن التاريخ الاثيوبي وسردية الدولة التي تقوم عليها اثيوبيا الحديثة قد أقصت بشكل ممنهج القومية الأورومية والقوميات الأخرى في شرق وجنوب اثيوبيا لصالح قومية الأمهرا التي انحدر منها أغلب ملوك وأمراء الحبشة في القرون الثمانية الأخيرة.



لذا من الناحية العملية، كانت إزاحة منغيستو وصعود ميليس زيناوي في عام 1991 واعتماده لنظام جديد يرتكز الفيدرالية الإثنية بمثابة عهد جديد لقومية الأورومو وغيرها من القوميات الإثيوبية الأخرى كالصوماليين والعفر والسيدامو والهررين، بحيث أصبحت لهم الحرية الكاملة في التعبير عن هوياتهم واعتماد لغاتهم بالإضافة إلى اكتسابهم صلاحيات الحكم الذاتي لإقاليمهم.


إلا أن فلسفة ماديمر التي دعى إليها آبي أحمد والتي ترتكز على إعادة إحياء الوطنية الإثيوبية والتخفيف قدر الإمكان من الفيدرالية الإثنية والعودة إلى المركزية، قد تم رفضها من غالبية أبناء القومية الأورومية بشكل واضح وعنيف، لما فيها من تذكير لهم بالأنظمة البائدة التي أقصتهم وحرمتهم من حقوقهم الطبيعية في المشاركة في الحكم ومن ممارسة ثقافتهم.


ساهمت بعض الأحداث في أوروميا في تأجيج الصراع بين الأوروميين وبين السلطات المركزية في أديس أبابا، كمحاولة توسعة محيط العاصمة على حساب أراضي إقليم أوروميا والتي كانت الشرارة الأولى للاحتجاجات، واغتيال المغني الأورومي الشهيرهوشالو هونديسا الذي ألهب مشاعر الأوروميين القومية في احتجاجات 2015، و اعتقال بعض قادة المعارضة الأورومية كالناشط جوار محمد و بكلي جربا وأيضا المقاربة الأمنية العنيفة التي اعتمدتها الحكومة المركزية والتي أودت بحياة مئتي شخص واعتقال أكثر من تسعة الأف محتج والحكم على الكثير منهم بتهمة الإرهاب وغيرها من الجرائم الجنائية.



نفوذ الصين : هيمنة ثم انحسار، عودة الغرب


مما زاد من تعقيد الملف الإثيوبي هو وجود القوى الخارجية في الساحة الإثيوبية وتنافسهم الاقتصادي للاستحواذ أو لكسب دولة محورية في القارة الأفريقية كإثيوبيا. ربما تكون الصين من أوائل الدول التي تنبهت لإغراءات أسواق أفريقيا وأوضاعها المتواضعة و سعت إلى غزوه منذ بداية الألفية واحتكاره، فافتقار الصين للموارد الطبيعية وتزايد غلاء اليد العاملة الصينية جعلها تفكر بشكل جدي في الخروج عن حدودها الطبيعية إلى العالمية والاتجاه بالتحديد إلى القارة الأفريقية، لذا اعتمدت الحكومة الصينية في علاقاتها مع القارة الأفريقية على مقاربة خاصة أسمتها بمقاربة الشعاب الأربعة وهي خطة شاملة تعتمد على الاستثمار في أربعة مجالات وهن:


المجال الاقتصادي وهو المجال الأهم ويأتي في سلم الأولويات في سياسة الصين تجاه أفريقيا ، وذلك بتوفير القروض والمنح وتقديم الاستثمارات للدول الأفريقية.

 

المجال الأيديولوجي وذلك من خلال تلميع النموذج الصيني في الإصلاح الاقتصادي والتنمية الذي يقوم به نظام الحزب الواحد وتسويقه للدول الأفريقية.

 

المجال السياسي من خلال السعي لاكتساب دعم الدول الأفريقية وأصواتها لصالح السياسة الصينية الخارجية في محافل المجتمع الدولي والمنظمات الدولية.

 

المجال الأمني من خلال توفير الحماية والأمن للمواطنين الصينيين في الخارج خصوصا في البلدان والأقاليم المتلهبة بالإضافة توسيع نشاطها في الأمن العالمي.

 

على ضوء هذه المقاربة، رأت الحكومة الصينية في عام 2000 أن إثيوبيا هي المثال الأفضل لتطبيق هذه المقاربة ومن ثم تصديرها لبقية الدول الأفريقية، وهو ما جعلها تغدق على إثيوبيا بالقروض والمنح والاستثمارات في كافة المجالات كالطاقة والمواصلات والاتصالات، حتى أصبحت اثيوبيا بمرور الوقت مثقلة بالديون إضافة إلى تأثير الصين المتنامي في دوائر صنع القرار في أديس أبابا، ولم يخف آبي أحمد إعلان مرارته من هذه العلاقة الغير متكافئة حينما قال أن هذه الديون أصبحت مُفسدة و أيضا مدمرة للاقتصاد الإثيوبي، حيث بلغت حجم الديون الإثيوبية لبكين بمقدار نصف الناتج المحلي الإجمالي لإثيوبيا، وتقديرات حجم القروض الصينية المعلنة بلغت ما يقارب 14 مليار دولار.



لذا كانت من إحدى أولويات حكومة أبي أحمد الجديدة هو الحد من الاستدانة من الصين والاتجاه نحو الغرب الذي هرع لتقديم يد العون لحكومة آبي أحمد من خلال حزمة قروض واستثمارات بمقدار 9 مليار دولار من الدول الغربية و صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بالإضافة إلى قروض استثمارية من دولة الإمارات العربية المتحدة تقدر بثلاثة مليارات دولار، كان الغرض الرئيس من هذه الحزم الاقتصادية الإسعافية هو الحد هيمنة الصين الاقتصادية على إثيوبيا.


هذه الاستدارة الإثيوبية تجاه الغرب، لم تكن محل ترحيب في الداخل الإثيوبي خصوصا من قبل الزمرة التغرينية التي حكمت البلاد سابقا والتي كان لها الدور المهم في تمكين الصين من اقتحام الاقتصاد والسوق الإثيوبي خلال عامي 2000 – 2018، فانحسار النفوذ الصيني في إثيوبيا يعني بشكل آخر محاصرة إقليم تيغراي اقتصاديا وقطع تدفق المال الصيني عليها.



قفزة للخارج


لعل فلسفة مدمر التي اعتمدها آبي أحمد لم تكن للداخل الإثيوبي فقط بل امتدت رؤيتها لتشمل السياسة الخارجية الإثيوبية في القرن الأفريقي ودول الجوار، فقد سعى آبي احمد بخطوات جريئة إلى نزع الفتيل في القرن الأفريقي المتلهب منذ عقود من خلال تبنيه سياسة خارجية تعتمد على المصالحة وتصفير المشاكل في القرن الأفريقي والتي تمثلت في توقيعه اتفاقية السلام مع النظام الاريتري بعد فترة طويلة من اللا سلم واللا حرب والتي نال على إثرها جائزة نوبل للسلام في عام 2019، وأيضا في تقليصه للدور الإثيوبي السلبي في الأزمة الصومالية ودعم الحكومة الصومالية الحالية، و كلا الخطوتين شكلتا انقلابا كبيرا في السياسة الخارجية لإثيوبيا في منطقة القرن الأفريقي، تلك السياسة الخارجية الإيجابية أيضا تجاوزت حدود القرن الأفريقي ، فكان لآبي أحمد دور كبير في المصالحة السودانية وأيضا في تسوية أزمة جنوب السودان.


إلا أنه من الناحية الأخرى، فقد ازدادت حدة الخلاف والشقاق بين إثيوبيا ومصر حول السد النهضة الإثيوبي العظيم ، ولم تستطع الخارجية الإثيوبية من التوصل لحل عادل ومعقول في المفاوضات الثلاثية بينها وبين دولتي المصب مصر والسودان، بل استخدمت الحكومة الإثيوبية ملف سد النهضة في تأجيج المشاعر الوطنية الإثيوبية بطريقة ديماغوجية للقفز على تناقضات الداخل في كثير من الأحيان.



إعادة النظر في فلسفة ماديمر


التباعد السريع بين ملقى عاصمة إقليم تيغراي والعاصمة الإثيوبية أديس أبابا وتلويح تيغراي بورقة الانفصال قد تكون مجرد مناورة سياسية من القادة التغرينيين أكثر منه محاولة حقيقية في الانفصال عن الجسد الإثيوبي، وذلك سعيا منهم لحصول إقليم تيغراي على حصة أكبر من النفوذ والسلطة قد تكون أكبر بكثير من وزنهم الديموغرافي الذي لا يتجاوز 6 % من مجموع الشعوب الإثيوبية البالغ عددها أكثر من 110 مليون نسمة، وقد يكون هذا هو التفسير الوحيد لعدم لجوء الحكومة المركزية في أديس أبابا لاستخدام القوة ضد إقليم تيغراي، و سبق لآبي أحمد بأن وصف فكرة المقاربة العسكرية ضد تيغراي بالجنون.


أما المقاربة الأمنية للملف الأورومي فقد أثبتت فشلها وأنها لم تؤد إلا إلى المزيد من التوترات في أوروميا، وكان الأصح أن يتم معالجة الأزمة بمزيد من الهدوء واستخدام اللغة الناعمة وإجراء المزيد من الإصلاحات والتعديلات في فلسفة مدمر من خلال الابتعاد عن المركزية و الحفاظ قدر الإمكان على مكتسبات الفيدرالية الإثنية لحكومة ميليس زيناوي السابقة التي التزمت باحترام سرديات وتاريخ الإثنيات الخاصة وابتعدت عن ثقافة الوطنية الإثيوبية، التي قد لا توجد حدود فاصلة و واضحة بينها وبين ثقافة الأمهرة الحكام التاريخيين لإثيوبيا في المخيلة الجمعية لدى العديد من الشعوب الإثيوبية



من الناحية الاقتصادية، فإن انحسار النفوذ الصيني في الاقتصاد الإثيوبي المثقل بديون كبيرة لبكين ومحاولة الغرب لمليء هذا الفراغ الناشئ قد لا تمر بشكل سلس أو تكون ذات تأثير محدود، نظرا لارتباط القروض الغربية العضوي بحزمة من الشروط التي من شانها أن تعيد هيكلة البلدان من الداخل خصوصا في مجالات إداراة البلاد والحريات والديمقراطية وهو مالم تستعد له إثيوبيا بشكل فعلي.



الأيام القادمة قد لا تكون سهلة أو كريمة في تقديمها حلولا ناجعة وشاملة لحكومة آبي أحمد في حلحلة الأوضاع الشائكة في إثيوبيا، والشعوب الإثيوبية قد تخرج يوما ما لإسقاط آبي أحمد كما أسقطت هيلا ميريام ديسالين أو سيضطر آبي أحمد إلى إلغاء فلسفته بشكل تدريجي فكرة بعد فكرة للبقاء في السلطة.



 

إرسال تعليق

0 تعليقات