مالك الأشتر
عندما نبحث في معاجم اللغة العربية سنجد أن للسجود معنى لغوي أصيل
نتج عنه ذلك المعنى الاصطلاحي الفقهي الذي نعرفه، فالمعنى الاصطلاحي الذي نستخدمه
في الفقه والمشهور بيننا هو "وضع الجبهة على الأرض بقصد إظهار الخضوع"،
فمتى يضع الإنسان جبهته على الأرض خاضعا يسمى ساجدا.
ولكن..
وجدنا أن لفظ "سجد - سجودا" من الناحية اللغوية له معنى أوسع،
فهو يعني الخضوع التام بشكله الواسع، فمتى سلك الإنسان مسلكا أو قام بفعل ما يشير
لخضوعه التام لشخص أو لشيء يقال له "سجد".
فكان العرب يقولون (سجدت السفينة) أي دخلت في دوامة بحرية و تم
فقدان السيطرة عليها فأصبحت خاضعة للبحر بشكل تام، وكان يقال في لسان العرب (أعطى
الاسجاد) يعني أعطى الجزية ، والإسجاد كذلك في لسان العرب يعني إدامة النظر مع
السكون أي الخضوع التام، ويعني كذلك الانجذاب بقوة حتى فقدان السيطرة.
فانجذاب الكواكب للشمس وخضوعها في مدارها حولها يسمى سجودا، والقمر
يسجد للأرض ويخضع للدوران حولها في مدار لا يخرج عنه ملليمترا واحدا، والأرض تأخذه
طوعا أو كرها وتسجد بدورها وتدور حول الشمس في خضوع تام، والكواكب كذلك في
مجموعتنا الشمسية قد سجدت للشمس اي خضعت لها وذلت ودارات حولها ساكنة مطمئنة
بأقمارها وأفلاكها، والشمس بكل ما يسجد من كواكب وأقمار وأفلاك تأخذها في دورة
سجود أكبر لمركز المجرة وهكذا ..
ومن هنا نفهم كيف رأى النبي يوسف عليها السلام الشمس والقمر وأحد
عشر كوكبا له ساجدين، اي بمعنى خاضعين مطيعين منجذبين حول مركز هو شخص النبي يوسف
عليه السلام، وكذلك نفهم أمر الله عز وجل للملائكة أن يسجدوا لآدم، اي يخضعوا له
ويدورون حوله فتصبح له الولاية التامة، فتخضع له كل الملائكة من الريح والماء
والتراب والنار والطبيعة قاطبة بمن فيها وما فيها.
وبالتالي لغة وليس اصطلاحا فنحن جميعا نسجد للولي الذي أمرنا الله
بالخضوع له، ومن هنا نفهم معنى عبد الرسول وعبد الحسين وعبد الزهراء اي الساجد
الخاضع لولي الله، ومن هنا يقول الله "الم اعهد إليكم يا بني ادم الا تعبدوا
الشيطان" اي أن تسجدوا للشيطان وتخضعون له.
وهذا المعنى للخضوع (السجود) كان لابد وان لتجسد في رمزية واضحة ،
كانت في بيت الله الحرام، الكعبة المشرفة، التي وضع مكانها آدم وبناها إبراهيم
الخليل عليه السلام، والطواف حولها هو سجود تام متناغم مع حركة السجود الكونية لله
فالمؤمنون يسجدون للكعبة (اي يخضعون لها وينجذبون حولها في مدار محدد بسكون
مطمئنين ويسجد معهم الكون بأكمله.
ولم يكن ميلاد أمير المؤمنين علي عليه السلام في الكعبة صدفة او
حتى مجرد تشريف أو تكريم إنما هو تتمة لمفهوم السجود الكوني العظيم، فالسجود لعلي
هو نفس السجود لآدم وإبراهيم ويوسف والنبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فسجود الأرض للشمس ليس معناه ان الشمس إلها ! بل هو طاعة وانجذاب
لمن له الولاية، حتى يتدبر أمر الكون ويتم النظم التام فيه، فلو رفضت الأرض طاعة
الشمس لانهار النظام الكوني وفسد، وكذلك كان سجود الملائكة لآدم وكذلك سجود إخوة
يوسف لأخيهم.
إما السجود بالمعنى الاصطلاحي الفقهي في السلوك العملي والذي يعني
التعبير عن الخضوع بوضع الجبهة على التراب فقد خصه الله لنفسه دون غيره ، إما
حقيقة السجود بمعناه اللغوي هو حالة كل مخلوق يسجد أي «يخضع بشكل تام» لمن ينجذب
له في دوائر متتالية كلها سجود يلحقه سجود، مركزه اللامتناهي والأخير هو فيض
الوجود نفسه وذات الإله سبحانه وتعالى.
0 تعليقات