آخر الأخبار

الدب الغارق في أحلام العظمة

 




 

عمر عسر

 

عندما كتبت إن روسيا دولة "عرة" لم يكن قصدي السب للتنفيس عن الغضب إزاء موقفها من أزمة سد النهضة في جلسة مجلس الأمن، بل هدفت لتوصيف قد يكون جارحا أو شعبويا لدولة تظن في نفسها أنها قوة عظمى ويصدق ظنها هذا كثيرون ويعولون عليه، في حين تكذبه حقائق لا سبيل لإنكارها أو التغاضي عنها.

 

تعيش روسيا الحالية حلم استعادة القيصرية التي كانت، وسبيلها لتحقيق هذا الحلم تركة أسلحة ورثتها عن دولة البروليتاريا التي حوّلت روسيا والدول سيئة الحظ التي كانت ترزح تحت سلطة السوفيتات البغيضة إلى سجون تعيسة تعلوها لافتات تبشر بجنة أرضية يبنيها الحزب وتحوطها عناية الرفاق، وباستغراقها في أحلامها القيصرية تخسر معركة تلو أخرى وتفقد من مساحات نفوذها ما لا يسعها تعويضه.

 

في سبيل الشعور بالرضا عن الذات تهتم روسيا بامتلاك مظاهر القوة رغم أن ركائز قوتها تتساقط من تحتها، وطوال تاريخها الحديث إبان الحرب الباردة كانت روسيا السوفيتية لا تمارس ضغطا بقوتها إلا على حلفائها مثل ما فعلت مع مصر بعد نكسة يونيو حين تباطأت في إمداد مصر بقطع غيار الطائرات للضغط على جمال عبدالناصر - رحمه الله تعالى- ليمنح الاتحاد السوفيتي أرضا على ساحل المتوسط لإقامة قاعدة عسكرية، فكان رده على الطلب والتباطؤ خلال زيارته الأخيرة لموسكو صاعقا استدعى ترضية كبيرة لمصر.

 

أدركت أمريكا والكتلة الغربية توق روسيا - لنقل الاتحاد السوفيتي توخيا للدقة التاريخية- للعظمة جيدا، وكان هذا التوق من أهم الأسلحة التي استخدمت لإضعاف الاتحاد، فقد قادت واشنطن موسكو لسباق تسلح استنزف من قوة موسكو ما قادها لفقد إمبراطورية الرفاق، لكنها لم تستسلم لتصنيفها دولة عادية، وجاءها ضابط المخابرات السابق ليستعيد أمجاد القيصرية.

 

تعاني موسكو في مختلف عهودها من بطءٍ في الإدراك والحركة لكنها تعوض عيبها هذا بالاعتماد على الكتلة، والدليل على هذا حجم خسائرها المادية والبشرية في الحرب العالمية الثانية والدمار الذي تعرضت له مدنها، فمع اتساع مواردها و"كثرة عدد سكانها" لا داعي للبراعة في التخطيط أو تخفيض الخسائر، وليكن واقع حرب التحرير أن نغسل دنس النازيين من أرضنا بدم شهدائنا، وبالنظر لقمع النظام وبطشه لم يفتح - وقتها- أحد فمه بأن الخسائر كان ممكنا الحد منها، وقامت دعاية ستالين ورفاقه على أن الرفاق البروليتاريين لا يبخلون بأرواحهم فداء للعلم الأحمر، وتحولت مآسي الشهداء لأساطير فداء واختصر الأمر في رقم يبعث على الفخر المكذوب لقدرة جنة الاشتراكية على تقديم ملايين الشهداء ودون أن يسأل أحد الرفاق القادة نفسه هل وعدنا الناس بالحياة أم بالموت! .

 

ولنذكر أن أشد معارك موسكو السوفيتية ضراوة كان خصومها من ذات معسكر الاشتراكية، ولا ننسى ما صبه السوفييت على يوغوسلافيا تيتو وصين ماو من لعنات واتهامات بالانحراف عن خط ماركس والثورة، في حين كانت معارك موسكو مع الغرب نموذجا للتردد وعدم الإقدام وإهدار القوى.

 

ولاحظ الأستاذ محمد حسنين هيكل في كتاب "الزلزال السوفيتي" أنه من أهم أسباب فشل التحالف العربي السوفييتي هو أن العرب ورثوا البيروقراطية العثمانية وأن حلفاءهم السوفييت كانوا ورثة البيروقراطية البيزنطية، ما يعني أن الطرفين كانا يتعاملان مع تحديات القرن العشرين بآليات القرون الوسطى، ولعلنا لا ننسى أن السوفييت نصحوا الزعيم جمال عبد الناصر بعدم البدء بالهجوم على إسرائيل في 1967 وكان ما كان.

 

ولعل دافع روسيا إلى موقفها الذي أبدته تجاهنا في مجلس الأمن هو توهمها أن مصر لا بد أن ترتمي في أحضان موسكو مع تغير الإدارة الأمريكية وحاجة مصر إلى حليف دولي قوي يساندها في مواجهة التحدي الأخطر لحقها في الحياة، وهذا التوهم لم يأخذ في الاعتبار عوامل كثيرة من أهمها: أولا أن روسيا نفسها واقعة تحت حصار محكم من الغرب سواء من جهة حلفائها السابقين (أوكرانيا، روسيا البيضاء) أو خصمها في الحرب الباردة (الناتو)، وثانيا: أن مصر توقفت عن إيداع أوراقها لدى طرف واحد، وبدلا من إعادة موسكو حساباتها لجأت إلى ما ظنته عقابا لمصر عبر تبني وجهة نظر آبي أحمد.

 

خطأ موسكو في حساباتها الخاصة بمصر وأزمة السد الإثيوبي دليل كافٍ على أزمتها البنيوية التي تتلخص في أنها تخطئ بالحساب وتبطئ بالحركة، وتؤسس حساباتها على افتراضات دون النظر إلى الوقائع الملموسة... مصر من وجهة نظر روسيا خالفت المأمول منها ها هي الإدارة الأمريكية تغيرت إذن لا مناص للقاهرة من الارتماء في أحضان موسكو فإن تحركت القاهرة بما يحقق مصالحها دون الارتماء في أحضان موسكو أو الوقوع تحت رحمة واشنطن فهي إذن مخطئة لا بد من عقابها!

 

بناء على ما تقدم، لم يدهشني موقف روسيا في مجلس الأمن ولم يصدمني انحيازها لإثيوبيا، فحسابات موسكو الخاطئة ترى أيضا أن الأزمات التي تحاصر أديس أبابا تجعلها حليفا طيعا بغض النظر عن مدى الأعباء الواجب تحملها لمساندة هذا الحليف.

 

صدق من وصف روسيا بـ"الدب" فهو ثقيل الكتلة بطئ الحركة ضعيف البصر وحسير البصيرة، والأسوأ من الدب من ينتظر منه مناصرة ويعمى عن أنه محاصر في وكره يجتر في سباته التاريخي أوهام عظمة ويطارد أشباح أمجاد.

 

إرسال تعليق

0 تعليقات