آخر الأخبار

الدين وما بعد الدين

 



 

عز الدين البغدادي

 

كثير من المتدينين يرون أن الدين هو الغاية التي لا يمكن تجاوزها ولا يقع شيء مفيد خارجها، ففيه كل شيء وهو يغني عن أي شيء آخر. وهذا فهم خاطئ خطير جدا. مثل الإسلام قفزة هائلة في الوعي الإنساني لا سيما عند العرب، إلا أن الخطأ كان في تصور أنه لا يوجد شيء خارجه، وانه وصل إلى منتهى ما يمكن للعقل أن يصل إليه وان لا شيء بعده معرفيا.

 

وهذا الفهم هو ما جعلنا نقف عند مفاهيم محددة لم نستطع تطوير رؤيتنا أكثر منها. كمثال على ذلك عندما تناقش موضوع الحرية الإنسانية ستجد في القراءة الدينية أن الأمر عند السلفية مثلا ينحصر بمقطع من حديث يقول "وأن تؤمن بالخير خيره وشره" وعندما تأتي إلى الأشاعرة تجد أنهم قدموا نظرية عرفت باسم الكسب لكنهم وقفوا عندها ولم يتجاوزوها بشيء وكأنها رؤية مقدسة، وأما عند الامامية فالأمر محصور بعبارة "لا جبر ولا تفويض لكن أمر بين أمرين" كما إن الفكر الفلسفي الإسلامي لم يتجاوز بكثير نظرتي الجبرية والقدرية ( المؤمنين بحرية الإرادة). لكن عندما تنظر إلى الفكر الغربي الذي لا يوجد لديه سقف ديني فستجد أنّ هناك كما هائلا من التراث الفلسفي حيث طرحت الجبرية النفسية والجبرية الاجتماعية وطرحت تحاليل فلسفية ونظريات نفسية كثيرة لطبيعة الفعل الإنساني وآلياته، كما نوقشت مفردات من قبيل الغريزة والفطرة، كما صارت الحرية تدرس من رؤية سياسية من حيث معناها وحدودها وطريقة ممارستها وأمور أخرى كثيرة.

 

في الفقه، يمكن ان نضرب مثلا مثلا بالنظر الى شرب الخمر أو العلاقات الجنسية خارج الزواج حيث تجد أن الرؤية الفقهية لا تتجاوز الحكم الشرعي وهو التحريم في المثالين، وهو أمر طبيعي بحسب وظيفة الفقه، لكن المشكلة ان يتم تجاهل أمور كثيرة وكثيرة جدا تتعلق بهذين الموضوعين، عندما لا يلاحظ كمية الإغراء التي يتعرض لها الشاب في هذا الزمن أو غلاء المهور بشكل جنوني.

 

أو عندما ينظر إلى الغناء كحكم شرعي بالتحريم دون أن ينظر لمسائل اجتماعية ونفسية كثيرة وخطيرة ومعقدة تتعلق بجوانب ايجابية أو سلبية. وبأي حال فقد كان النظر يتم الى المسالة من حيث مبدئها لا من حيث تفاصيلها، ففي الغناء لا يفرق بين شخص يسمع أغنية مثلا أو يدندن مع نفسه بكلمات جميلة ولحن شجي وبين حدث له دلالات اجتماعية وأخلاقية مثل إقامة حفل للفنانة أليسا في اربيل بلغت فيها سعر بطاقة الدخول 500 دولار، فالفقه لا يقرأ أمورا كهذه.

 

سياسيا لا زالت فكرة الوطن والوطنية والدولة والديمقراطية موضع شك لأنها لم ترد في الكتاب والسنة، او الدعوة الى تطبيق الشريعة دون إدراك للفرق بين الثابت والمتغير فيها، بينما لا زال الدفاع قويا عن الاستبداد باسم الطاعة، وقمع الحرية باسم ثوابت الدين وهي في الحقيقة ليست ثوابت بل كثير منها أفكار لمرحلة معينة تم تثبيتها لأنها ظهرت في مرحلة تكوين المذاهب والتدوين سواء في الفقه او علم الكلام.

 

في القرآن الكريم أثنى على أسرة نبي (آل زكريا) ووصفهم بأنهم (كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا) إلا أن الإمام علي (ع) طرح رؤية تتجاوز هذه الفكرة وأكرر تتجاوز ولا أقول تخطئ الفكرة، عندما ميز بين عبادة التجارة وعبادة العبيد وعبادة الأحرار فقال: «إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار"، وقال: "إلهي ما عبدتك خوفا من عقابك ولا رغبةً في ثوابك ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك".

 

أي إنه طرح فكرة عن العبادة تتجاوز الثواب والعقاب إلى رؤية أرقى وهي القيام بالعمل بسبب قيمته الذاتية وليس بسبب الثواب او العقاب. وهذا ما قصدته تماما، فالأمر لا يعني رفض الدين، بل فهم ان الدين مثل قفزة كبيرة في الوعي لكنه لا يمثل خاتمة الوعي.

 

برأيي وقناعتي ان الإسلام يمثل القمة من حيث القيم الحياتية التي وضعها والمثل الكبيرة التي دعا إليها الا ان الجانب المعرفي لا يحدده دين، وان تصور ان الدين يمثل كل شيء وخاتمة المعرفة هو خطأ كبير وقع فيه الفقهاء والمتكلمون والفهم الديني العام وأدى الى خسائر كبيرة..

 

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات