إذا كانت عمامات الوهابية التي سجدت لله شكراً علي نكسة يوليو 1967
، لم يستمع لها الكثيرون ، ولم يعبأوا بصراخها في المساجد والزوايا عقب النكسة بأن
الهزيمة غضب وانتقام من الله لأننا لم نطبق " شريعتهم السلفية الوهابية
الإخوانية" ..
لم يستجب المصريون لكل هذا الصراخ وهذه الدعوات في حينها ، وظلوا
يطالبون بمعركة رد الاعتبار وتحرير الأرض ، وظل الشباب المصري علي تمسكه بمبادئ
الوطنية المصرية والاستنارة والتقدم ، وظل الشعب المصري علي ثقافته الوطنية
المؤسسة علي قيم التعاضد الشعبي والوحدة الوطنية والتسامح ، والتمدن الحضاري ..
في حين برزت المفارقة العجيبة في الفترة التي تلت الانتصار العسكري
في معركة أكتوبر ، وفي عهد الرئيس " المؤمن " أنور السادات وذلك أن
آلالوف من المصريين قد بدأت تفتتن بشرائط الشيخ كشك التي جري طبعها وتوزيعها علي
نحو واسع يبعث علي الريبة ..
وبدأ تصاعد مشهد ازدحام المصريين كل يوم جمعة أمام المسجد الذي
يتهدج فيه صوت الشيخ كشك وهو يسب ويلعن كل مظاهر المدنية في المجتمع المصري ..
، كذلك الحال في مسجد القائد إبراهيم في الإسكندرية مع الشيخ
المحلاوي .
وبدأت قناة تلفزيون الدولة (المنصة الإعلامية المرئية الوحيدة
للمصريين وقتها) تبث برنامج (نور علي نور) الذي كان يتولي فيه المذيع أحمد فراج
استضافة وتقديم الشيخ محمد متولي الشعراوي قبل الانتقال لإذاعة مباراة كرة القدم
الرئيسية التي سيكون طرفها إما فريق النادي الأهلي أو فريق نادي الزمالك أو
المنتخب المصري .. وكانت هذه نقطة الذروة في المشاهدة عند العدد المعتبر من عموم
المصريين وخاصة تلاميذ المدارس وطلبة الجامعات وأجيال الشباب التي ستسود فيما بعد
فترتي الثمانينيات والتسعينيات ..
، وانتشرت شرائط الكاسيت المتضمنة للخطب النارية لهؤلاء وغيرهم حول
عذاب القبر والثعبان الأقرع ، وكفر الاشتراكيين ، وميوعة بنات المجتمع المصري ،
وخلاعة أهل الفن والفكر والإبداع ، وما إلي ذلك من هجوم ينصب مباشرة علي الثقافة
الوطنية المصرية ، بهدف هدم ثقافة شعب بأسره وإحلال ثقافة ذات طابع معادي لكل ماهو
وطني وتقدمي وحضاري ..
، هذا بالتوازي مع إطلاق موجات التشكيك والتزوير المركزي في
تاريخنا الوطني ..
ومع التوازي مع هيمنة الشرائح الاجتماعية الصاعدة أغنياء الحرب
والمهربين وكبار تجار المخدرات علي الإنتاج السينمائي كوسيلة لغسل الأموال ،
وبالتالي حفل الإنتاج السينمائي في هذه اللحظة التاريخية بعشرات الأفلام التجارية
التي كانت تحفل بمشاهد العري الغير مبرر موضوعياً أو فنياً والتي بدت كنوع من
أنواع التجارة الجنس في مجتمع يعاني من تحولات عميقة ، فوصمت الفن وأهل الفن أمام
العموم من البسطاء بالخلاعة والتحلل الأخلاقي لتجد الأجنحة الدينية للطبقات
الصاعدة ضالتها في الترويج لأفكارها حول (العودة لمجتمع السلف الصالح) كحل وحيد
للنجاة من هذه اللعنة من وجهة نظرها ..
فمع شروق كل صباح في تلك الفترة التي تلت حرب أكتوبر كانت جوقة
السادات ومثقفيه وإعلامييه يرددون وتردد قطاعات كبيرة من الليبرالية المصرية
المشوهة نشيد زمن الباشوات الجميل ، وتنعي للمصريين نقصان الخير بفعل إنشاء السد
العالي الذي تسبب في شح الطمي وهروب سمك السردين من مصر وتنعي مصر الكئيبة البعيدة
عن دينها في ظل سيطرة عبد الناصر والشيوعيين علي الحكم ..
وكانت إشارة البداية قد سبقت في الإعداد لذلك عبر أوامر السادات
التي أعطاها لذراعه اليمني (محمود عثمان إسماعيل أمين تنظيم الإتحاد الاشتراكي وقتها
ومحافظ أسيوط الأسبق فيما بعد) لإنشاء وتأسيس الجماعات الإسلامية في الجامعات
وإطلاق أنشطتها بالسماح بدخول قيادات وكبار مشايخ التأسلم السياسي لإلقاء
المحاضرات علي الطلاب وتنظيم رحلات مجانية للحج يتولي كل من الإخوان والسلفيون
الموجودون بالمملكة السعودية فيها ترتيب الندوات والاجتماعات والجوانب الدعوية أثناء
رحلة الحج ..
من ثم إطلاق يد أعضاء الجماعات الإسلامية داخل الجامعات في تصفية
كل الأنشطة الثقافية الطلابية باستخدام الجنازير والعصي والأسلحة البيضاء ضد
الطلاب أصحاب التوجهات اليسارية والقومية التي كان السادات قد بدأ يبدي انزعاجه
منها ومن تيارات اليسار المصري فاهتدي لهذه الفكرة كوسيلة لضرب اليسار وإبعاده
كعقبة في طريق التحولات والإنحيازات السياسية والاجتماعية التي كانت قد بدأت
ملامحها تنطلق بمجرد إقرار ورقة أكتوبر 1974 ..
وهكذا انقلب السياق الوطني إلي سياق يرجع كل شرور العالم وآثامه
إلي الشيوعية والشيوعيين واستيقظ جيل من المصريين فجأةً ليجد عبد الناصر قد تحول
من زعيم وطني إلي شيطان أعظم حرم المصريين من هويتهم الإسلامية وسار في ركاب
الشيوعيين أعداء الدين .
وهكذا كانت قطاعات ليست قليلة من المجتمع المصري وسط هذا الجو
العاصف من التزييف المركزي للوعي تحس بالإحباط وفقدان الثقة بالتاريخ ، وتنحو نحو
الانزلاق إلي ثقافة التأسلف والتوهب في مرحلة الانتقال إلي دولة العلم والإيمان
التي أسس لها أنور السادات بمشاركة كمال أدهم رجل المخابرات الأمريكية في البلاط
الملكي السعودي وبإشراف مباشر من الإدارات الأمريكية المعنية حتي جاءت لحظة 1979
الفاصلة والتي شهدت تشكيل فيالق مايسمي بالمجاهدين في أفغانستان وصعد الدعم المالي
والمعنوي لعصابات وجماعات التدين السياسي من إخوان ووهابيين وسلفيين جهاديين
مسلحين أو جهاديين دعويين إلي ذروة غير مسبوقة في التاريخ المصري الحديث ..
____________
حمدى عبد العزيز
26 يوليو 2021
0 تعليقات