نصر القفاص
توصلت الولايات المتحدة إلى خطورة ما تسميه "السلاح
الصامت" باعتباره أهم وأخطر الأسلحة فى "الحروب الهادئة" وتم
اختبار هذا السلاح فى الستينات, واعتماده كسلاح ناجع من بداية السبعينات.. ويجرى
تطويره باستمرار, ونشره كمنهج فى الدول التى تدور فى الفلك الأمريكي بصفة خاصة..
وفى الفلك الغربى بشكل عام.
دون داع لمقدمات.. لنا أن نعرف عن "السلاح الصامت" إنه
"الإعلام"!
تم اعتماد النظرية التى قام عليها "السلاح الصامت"
كنتيجة لعمل معهد العلاقات الإنسانية فى "بريطانيا" ثم تلقفته مؤسسات
أمريكية لتخلق منه منهج متكامل.. ودور هذا السلاح أن ينفذ عمليات "انقلاب
عقلى" فى المجتمع المستهدف.. أهم أهداف استخدام الإعلام – السلاح الصامت – هو
إشاعة الرعب والذعر فى أى مجتمع من التغيير, ويتحقق ذلك بترويج مكثف لأخبار
الجريمة وأفلام العنف والجنس.. مع التركيز فى نشرات الأخبار على ما يحدث من حروب
عسكرية هنا أوهناك.. نشر السلوك الاستهلاكي, بالتركيز على الأطعمة السريعة بأن
تتكاثر وتكون لها أسماء عالمية – كنتاكى نموذجا – ليتمكن الإعلام من تنفيذ عمليات
إعادة صياغة التاريخ بعد تزويره.. ثم تركيز انتباه الرأى العام على الأخبار
"المفبركة" والكاذبة.. والاهتمام بتقديم الترفيه الفاسد – أغانى ونجوم
المهرجانات نموذجا – لصرف الاهتمام عن القضايا المهمة.. وكل دولة تعتمد هذا
"المنهج الأمريكي" لها برامج خاصة.
يأتي بعد ذلك دور الدولة التى يتم قصفها بالسلاح الصامت!
كانت "الإكوادور" واحدة من الدول التى تم قصفها بعد
"بنما".
المثير أن نهاية رئيس كل دولة منهما.. كانت واحدة, وبفارق زمنى
ثلاثة شهور فقط!
تم اغتيال الرئيسين فى حادث سقوط طائرة, بعد فشل استهداف كل منهما
بالإعلام فى إطار "المنهج الأمريكي" لأن كل منهما كان يقول الحقيقة.. كل
الحقيقة للشعب!!
ظهر البترول فى "الإكوادور" وتحركت الشركات الأمريكية
لوضع يدها على هذه الثروة.. فوجئوا بأن الشعب انتخب "خايمى رولدوس" وهذا
رئيس يرفض الرشوة.. يرفض أن يرهن حاضر ومستقبل شعبه مقابل استمراره على مقعد
الرئاسة.. أكد إصراره على مواجهة أصحاب المصالح والنفوذ, وفى مقدمتهم شركات
البترول.. أعلن انحيازه للفقراء من أبناء وطنه.. دارت عجلات الإعلام الأمريكي,
تتبعها عجلات الإعلام الغربى.. تحذر من خطورة فكره الشيوعي.. تتهمه بأنه
ديكتاتور.. أرتكب الرجل الجريمة نفسها التى ارتكبها رئيس "بنما" برفضه
الإذعان والخضوع لشركة "بكتل" وهو يعلم أن رئيسها "جورج
شولتز" وضمن مسئوليها "كاسبر وينبرجر" وأصر على رفض إملاءات شركة
"جورج بوش" التى كان يسايرها الذين حكموا قبل توليه السلطة بانتخابات
ديمقراطية نزيهة.. لكنه كان مثقفا, وهذا عيب خطير من وجهة نظر الذين يديرون
الشركات متعددة الجنسيات.. هؤلاء يمسكون أهم وأخطر المناصب فى الإدارات الأمريكية,
سواء كانت الإدارة ديمقراطية أو جمهورية!! فحاكم "الإكوادور" الذى
انتخبه شعبه كان محاميا وأستاذا جامعيا.. كان شخصية قوية ويملك قدرات ساحرة حين
يتكلم.. ذلك يعنى أن يتحسس "مصاصو دماء الشعوب" مسدساتهم.. أعلن وأكد
انحيازه للفقراء, وأوضح أنه قادر على الانتصار لهم بالاستغلال الأمثل لثروات
بلاده.. تلك مصيبة بالنسبة لأولئك الذين يعملون من أجل فرض نظام "الأوف
شور" اقتصاديا وسياسيا.. ألتف حوله الفلاحون والعمال لأنه شرح لهم, خطورة
تسليم مقدرات البلاد لشركات البترول الأجنبية.. كان بذلك يرتكب الخطيئة الكبرى..
وحين جاهر "خاييمى رولدوس" فى خطاب رسمى كان يوجهه لأبناء شعبه, بأنه
يحذر من دور "جمعية روكفلر" الخيرية لمساعدة الفلاحين تمهيدا لانتزاع
أرضهم وسرقة بترول البلاد.. كان قد وضع نهاية الأمل فى ترويضه.. فتح الباب لكى
تتحرك "الثعالب" وهو تعريف لدور "المخابرات الأمريكية"!! وكان
معنى ذلك عدم جدوى "السلاح الصامت" الذى تجاوز الرجل تأثيره بقدرته على
التواصل مع شعبه!!
تلك النماذج من الرؤساء أصبحت مثل رأس الذئب الطائر, لكل من يتمرد
على أن يبصم على خطط وأجندات الولايات المتحدة.. وبالتبعية ما يريده الغرب..
فالرئيس "رولدوس" شرح لشعب "الإكوادور" أن البترول هو ثروة
المستقبل, التى لا يجب التفريط فيها.. وأن الشعب يجب أن يحصل على نصيبه كاملا من
هذه الثروة بالعدل.. أكد عزمه على قطع يد أولئك الذين يريدون نهب حقوق الفلاحين والعمال
والمحرومين.. قال أن البترول هو سبيله لتحقيق الإصلاح الاجتماعي, لتجاوز الحرمان
بما فعله الأثرياء الذين أذلوا الأغلبية بما يملكون من ثروات حرام!! وقال فى خطاب
تنصيبه رئيسل للإكوادور يوم العاشر من أغسطس عام 1979 بالنص: "علينا أن نراجع
أنفسنا للحفاظ على مصادر أمتنا من الطاقة, وعلى الدولة أن تحافظ على تنوع
الاستثمارات فى صادراتها, وألا تفقد استقلالها الاقتصادي.. وقراراتنا ستنبع فقط من
المصلحة القومية, والدفاع بلا حدود عن استقلالنا وحقنا فى تقرير المصير" ثم
أكد رفضه لأن يرهن مصالح بلاده لشركة "تكساكو" للبترول!
لغة "توريخوس" فى بنما مرفوضة.. لغة "رولدوس"
فى الإكوادور مقيتة!
تلك مفردات سبق أن قالها هناك "جمال عبد الناصر" وهى
معان ومواقف, كان ثمنها فادحا بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية.. وللغرب كله..
ذلك منهج يمكن أن ينفى أو ينسف منهج "الأوف شور" الاقتصادي و السياسي..
لحظة أن كان أباطرة هذه الشركات قد استعدوا للسيطرة على العالم.. بينهم "جورج
بوش" الذى أصبح رئيسا, ثم استمر نفوذه وشركاته بعودة ابنه رئيسا..
و"جورج شولتز" الذى أمسك حقيبة الخارجية الأمريكية قادما من شركة
"بكتل" وكذلك "كاسبر وينبرجر" و"ديك تشينى"
و"رامسفيلد" و"روبرت ماكنمار" ثم "بول وولفويتز"
وغيرهم من أباطرة المال.
فشلت محاولات تشويه سمعة "خاييمى رولدوس".. فوجىء العالم
بخبر مصرعه يوم 24 يناير عام 1981 فى حادث سقوط طائرته.. لم يخجل ساسة الولايات
المتحدة الأمريكية, وهم يقرأون فى صحف بلادهم عناوين رئيسية تقول: "اغتيال
على يد رجال المخابرات الأمريكية"!! وتحدث "عمر توريخوس" لينعيه
باكيا, ثم صارح من حوله بأنه سيلقى المصير نفسه.. ويوم 31 يوليو عام 1981 تحققت
نبوءة رئيس "بنما"!!
وصل نصف الرسالة لكل من أراد الاستمرار على كرسي قيادة بلاده.
أما نصف الرسالة الآخر.. سنجد أن كثيرين يتجاهلونه.. فالأقرب
للولايات المتحدة الأمريكية.. فرطت فيه وأذلته كما حدث مع "شاه إيران"
بما لم تنساه الذاكرة.. والذى حاول أن يناقش الأوامر والتعليمات, هاجموا بلاده
واعتقلوه وقتلوا الآلاف لتحقيق هدفهم وتنفيذ الجريمة.. كما حدث مع "مانويل
نوريجا" رجل المخابرات الأمريكية الذى نصبوه رئيسا لبنما, ثم قبضوا عليه
وألقوه فى السجن داخل الولايات المتحدة!!
مدهش أن "نوريجا" كتب مذكراته.. ونشرها!
المدهش أكثر أنهم سمحوا له بأن يدلى بحوارات صحفية.. باح فيها
بأسرار, وما نعتقده نصائح.. وهى فى الحقيقة جزء من منهج "السلاح الصامت"
الأمريكي.. وضمن ما ذكره "نوريجا" فى مذكراته أن قال: "كان وزير
الخارجية جورج شولتز مديرا تنفيذيا سابقا لشركة بكتل متعددة الجنسيات والمتخصصة فى
الإنشاءات.. وكان وزير الدفاع كاسبر وينبرجر نائبا لرئيس الشركة ذاتها.. وكان كل
ما يشغلهم الحصول على قروض بالمليارات لتنفيذ مشروع قناة بنما الجديدة.. وكانت
إدارة كل من ريجان وبوش من بعده يخشون فوز اليابانيين بالعقد, بما يعنى أن تخسر
الشركات الأمريكية مليارات الدولارات"!!
وجد "نوريجا" نفسه أمام عرضين.. أحدهما أمريكي والآخر
يابانى.. حاول أن يتذاكى لتحقق بلاده مكسبا.. تناسى أنه كان عميلا للمخابرات
الأمريكية.. فقد الذاكرة تجاه تورطه فى تجارة المخدرات قبل توليه الرئاسة بدعم أمريكي..
تم تسليط "السلاح الصامت" عليه فنشرت جريدة "نيويورك تايمز"
افتتاحية يوم 12 يونيو عام 1986 عنوانها: "مؤشرات على تورط رجل بنما القوى فى
تجارة المخدرات والتربح غير المشروع" ووقع المقال "هوجوسبادافورا"
الحاصل على جائزة "بوليتزر" ثم واصل النشر بعدها.
استمر القصف الإعلامي تجاه "نوريجا" حتى كان يوم 20
ديسمبر عام 1989.. فوجئ العالم بالغزو الأمريكى لدولة بنما.. كان كل من
"شولتز" و"وينبرجر" يغطيان الحرب من موقعيهما كوزيرين
للخارجية والدفاع.. لمجرد أنه حاول أن يتجاهل الحقيقة.
الحقيقة.. أنه كان دمية صنعتها المخابرات الأمريكية.
الحقيقة.. أن حكاية كونك رئيسا, فذلك لتستمتع بالنفوذ والثروة..
أما أن تناقش النص.. أو تحاول الاجتهاد مع النص.. كل الخيارات والسيناريوهات
للتخلص منك مطروحة.. حتى ولو كانت غزو بلادك وقتل آلاف, لتقبع فى سجن لمدة أربعين
عاما بمدينة "ميامى" ولتصبح سجين الحرب الوحيد الذى يقضى عقوبته على
أراضى أمريكية.. وذلك جعل "ديفيد هاريس" يذكر فى كتابه "إطلاق
النار على القمر" رؤيته للحكاية, فقال: "من بين آلاف الحكام والزعماء
الأقوياء وأمراء الحرب الذين تعامل معهم الأمريكان فى كل أركان العالم.. كان
الجنرال مانويل نوريجا هو الوحيد الذى يطارده الأمريكيون بهذه الطريقة.. فعلى مدار
225 سنة منذ قيام الولايات المتحدة الأمريكية.. كانت هذه هى المرة الأولى التى
تغزو فيها واشنطن دولة أخرى – المعلومة غير صحيحة لأن أمريكا سبق وغزت الفلبين –
وتعتقل قائدها وتأتى به إلى الولايات المتحدة الأمريكية, ليواجه المحاكمة والسجن..
بحجة انتهاك القانون الأمريكي على أرض بلده وداخل نطاق نفوذه الوطني"..
وبعدها نشر "بيتر إيزنر" المحلل السياسى لـ"الأسوشيتد برس"
كتابا عنوانه "ذكريات مانويل نوريجا.. سجين أمريكا" عام 1997 ذكر فيه:
"كان جلب الموت والدمار والظلم تحت دعوى إسقاط نوريجا, ومارافق ذلك من
أكاذيب.. تهديدا للمبادئ الأساسية للديمقراطية الأمريكية.. لقد تلقى الجنود
الأوامر ونفذوا, بحجة أنهم ينقذون بنما من ديكتاتور عتيد وفاسد ووحشى.. نفذوا
مهمتهم وصدقهم الشعب الأمريكي وهو مغمض العينين"!!
إنه "السلاح الصامت" القادر على تنفيذ عمليات "غسيل
المخ" والذى يجعلك تعيش مذعورا.. مرعوبا.. مستكينا.. تستهلك ما يريده أباطرة
الولايات المتحدة.. تمارس ما تسميه "واشنطن" الديمقراطية.. حتى لو تركت
هذه الديمقراطية ملكا أو أميرا أو رئيسا على كرسى القيادة, ليحكم ابنه نيابة عنه..
يتبع
0 تعليقات