جمال محمد غيطس
راجع تقارير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومؤشر الاستثمار
الدولي قديما وحديثا، وستلاحظ بسهولة أن عمليات الاقتراض الخارجي المنفلتة واسعة
النطاق، ارتبطت دوما بالحكومات وأنظمة الحكم الديكتاتورية، أما أنشطة الاستثمار
الخارجي المرتكزة إلي قواعد إنتاجية وتنموية راسخة طويلة الأمد فارتبطت دوما
بالحكومات وأنظمة الحكم الديمقراطية.
وظاهرة التلازم بين الديكتاتورية والاقتراض الخارجي، والديمقراطية
والاستثمار الخارجي لم تحدث مصادفة، سواء في الماضي أو الحاضر، وإنما حدثت وتحدث
لأسباب موضوعية ومنطقة وعقلانية محضة.
فأنظمة الحكم الديكتاتورية تستمد وجودها وبقائها من قوة السلاح
والقمع والممارسات القائمة على الضغط والترهيب والتخويف والاعتقال والقتل وسحق
الحريات والقيم والدروس علي القوانين، وإدارة أنشطتها الاقتصادية استنادا إلى رؤى
حكامها أو بالأدق حاكمها الأوحد، الذي يفرض ما يراه هو صوابا وصحيحا بلا مناقشة
ولا مشاركة، وعند التنفيذ وبعده يتم الأمر بلا مراجعة أو محاسبة أو شفافية أو وقوف
عند قانون أو دستور.
والثابت تاريخيا أن الأنظمة الديكتاتورية غالبا لا تطيق الصبر علي
بناء قواعد إنتاجية يأتي عائدها تدريجيا أو بصورة غير مباشرة، بل تكون شرهة
للسيولة النقدية الضخمة السريعة، التي تحتاجها لتمويل آلتها الأمنية والعسكرية
اللازمة لفرض الاستقرار قهرا ومن ثم الاستمرار في السلطة عسفا وجبرا وجورا، أو
لتمويل الخطط والأفكار الصادرة عن قادتها أو قائدها الأوحد، والتي عادة ما تكون
مفرطة الحجم والعدد، وباهظة التكلفة، ولا تستند لدراسات كافية، وتنفذ لأغراض الحكم
والسياسة، بأكثر من أغراض التنمية المستدامة طويلة الأجل.
وإذا ما تصادف وكانت موارد الدولة المحكومة ديكتاتوريا محدودة ولا
تكفي لسداد فواتير آلتها الأمنية العسكرية الضخمة، والمشروعات الأضخم المخصصة
للتسويق السياسي، فإن الحاكم لا يكون أمامه سوى التوسع في الجباية من الداخل في
صورة رسوم وضرائب قاسية لا تتوقف، والاقتراض من الخارج في صورة ديون مباشرة أغلبها
قصير الاجل بشروط مجحفة، وبسبب سلطة القهر والاستبداد، لا يكلفه ذلك سوى التوقيع
علي مراسيم بالجباية الداخلية، أو التوقيع علي اتفاقات مع دائنين من الخارج، وفي
الحالتين يحدث الأمر بلا ضوابط كافية، أو إجراءات رشيدة، ومن هنا تنشأ ظاهرة
التلازم بين الديكتاتورية والاقتراض الخارجي، القائمة علي انتهازية كل من المقرض والمقترض،
وهى ظاهرة ثبت تاريخيا أنها كثيرا ما أدت إلي وقوع البلاد في "مصيدة
الديون"، أو الوصول إلي النقطة التي لا يتوفر فيها مصدر لسداد الديون القديمة
إلا بديون جديدة، على غرار ما حدث مع ديكتاتوريات أمريكا الوسطي والجنوبية خلال
العقود الماضية، ومن أشهرها تجربة الجنرال بينوشيه في شيلي.
في الجهة المقابلة نجد أن أنظمة الحكم الديمقراطية تستمد شرعيتها
ومبررات بقائها واستقرارها من احترام الدستور والقانون، وقيم الحرية والعدل
والشفافية والنزاهة والمصداقية والمسائلة والحوكمة، والاستناد للعلم والبحث
والخبرة في اتخاذ القرارات، ثم الانسياب السلس للمعلومات والرأي العام الواعى وفى
طليعته الأحزاب الناضجة، والبرلمان القوي والجامعات ومؤسسات البحث الجادة الرصينة،
والإعلام الحر المستقل، والنقابات المهنية الحية، ومنظمات المجتمع المدني النشطة.
هذه المنظومة المتكاملة من الأطر القانونية والتشريعية والسياسية
والقيمية والمجتمعية، هي التي توفر البيئة المستدامة، التي يكون استقرارها ناجما
عن الرضي الشعبي والمجتمعي الطوعي بالسلطة القائمة، نتيجة توافر آليات محاسبتها
وتغييرها، ومن ثم تكون هي البيئة التي يأنس ويطمئن إليها ويطلبها رأس المال والاستثمار
الخارجي، القائم علي قاعدة المنافع المتبادلة، لا الانتهازية المتبادلة، ولا يدخل
دولة أو اقتصاد ما، إلا بعد التيقن من وجود قواعد ونظم عادلة وشفافة ومحددة للعمل
والإنتاج، مرتبطة بقيم المجتمع والدولة، لا برأس السلطة الحاكمة أو قواعدها العليا.
من هنا يأتي الارتباط والتلازم بين أنظمة الحكم الديمقراطية، وأنشطة
الاستثمار الخارجي، وما يصاحبه من تدفقات نقدية وخبرات معرفية متنوعة، تأتي بعد
دراسة ومفاوضة شاقة بين أصحاب رؤوس الأموال في الخارج والسلطات القانونية
والتنفيذية الوطنية في الداخل، ومن ثم تذهب إلي القواعد الإنتاجية فى قطاعات
الزراعة والتصنيع و الخدمات العامة الموجهة للقطاعات الواسعة من الشعب كالتعليم
والصحة، وليس قطاعات البنية التحتية والخدمات العقارية لصيقة الصلة بحركة الحكم
وركائزه الضيقة، ما يقود إلي حالة تبادل منافع طويلة الأمد بين المستثمر الخارجي
وبيئة العمل الداخلية، تتطور مع الوقت لتتولد من خلالها حركة تنمية داخلية أصيلة
ذاتية الدفع، تحقق عائدات وقيمة مضافة حقيقية، وقادرة علي تعميق خبراتها وقوتها مع
الوقت.
وتاريخيا تمثل مجموعة دول جنوب شرق آسيا وعلي رأسها سنغافورة
وكوريا الجنوبية وماليزيا، النموذج الأبرز في الارتباط بين الديمقراطية والقدرة
علي اجتذاب الاستثمارات ورؤوس الأموال الأجنبية، حيث تمكنت هذه الدول وغيرها
الكثير من بناء قواعد إنتاجية حقيقية راسخة من خلال المشاركة مع رأس المالى
الاستثماري الأجنبي، أعادت بها بناء اقتصادها، وحققت تجارب تنموية مستدامة نادرا
ما انتكست.
إذا كنت تريد الاستزادة، وتريد أن تعرف أين تقف الدول المفرطة في
الاستدانة، والدول الجاذبة للاستثمار، وعلاقة كليهما بأنماط الحكم المختلفة،
فيمكنك مطالعة مراجعات صندوق النقد الأخيرة لهذا العام، حول اقتصادات دول العالم
المختلفة، وما تضمنته من توصيات، وسيمكنك معرفة الدول التي تنهشها العلاقة
المتوحشة المريضة بين الديكتاتورية والاقتراض، والأخرى التي ترعاها وتنميها
العلاقة الصحية بين الديمقراطية والاستثمار.
0 تعليقات