آخر الأخبار

عيديد: أفكار وأحداث قبل الحرب الأهلية الصومالية

 


 

د. أحمد هراد

 

شكلت الأزمة الصومالية مادة خصبة للعديد من المهتمين والكتاب طوال العقود الثلاثة الماضية، بدءا من عام 1991م وحتى يومنا هذا، ولكن أغلب تلك الكتابات لم تلامس الأسباب الحقيقية للحرب الأهلية في الصومال والمقدمات التي سبقت الانهيار التام في السادس والعشرين من يناير من ذلك العام، وإن كان بعض الكتاب قد أشاروا عن بعد لبعض أو كل تلك الأسباب، إلا أن تسلسل الأحداث وذكر الظروف المحيطة خصوصا في فترة الثمانينيات مازالت حبيسة الوثائق السرية ومراسلات السفارات الغربية التي كانت شاهدة ومتابعة بصمت لما يحدث، وسدل الستار عن تلك الفترة المضطربة من الثمانينيات ساهم بشكل مباشر وكبير في ظهور طبقة جديدة من الساسة والمهتمين الذين لم يملكوا تصورا شاملا لما حدث في السابق، وبالتالي كانت حلولهم المطروحة أما غير حقيقية أو بعيدة عن الواقع أو سببا في استفحال الأزمة في أحايين كثيرة، كما رأينا في أحداث الحرب الأهلية في الصومال.



مع حلول ذكرى رحيل الجنرال محمد فارح عيديد قبل ربع قرن والذي يوافق غرة أغسطس من كل عام، آن لنا أن نقرأ في تلك الأجواء والظروف عصفت بالبلاد الصومالية من خلال عيون الجنرال، علنا نستطيع أن نفهم لماذا كانت الخطوات السياسية والعسكرية التي اتخذها الراحل عيديد بهذا الشكل، وبالتالي سيكون لنا القدرة على الانتقاد بطريقة علمية وبعيدة عن العواطف والاصطفاف القبلي كما تشهدها جمهورية الصومال والشعوب الصومالية ككل سواء في ذاك القطر أو في غيره.



من هو محمد فارح “عيديد” ؟



ولد محمد لأب يدعى فارح حسن هلمي وأم تدعى فاطمه صالح، في الخامس عشر من ديسمبر 1934 في مدينة بلدووين، وتلقى تعليمه القرآني في قرية ولول في الإقليم الصومال الإثيوبي، ثم تنقل بعدها بين مقديشو وبيداوا ليتعلم اللغة الإنجليزية طوال فترة إقامته بين أخواله وإخوته، وخلال تلك الفترة انضم عيديد إلى رابطة الشباب الصومالي المعروف باسم S.Y.L ومن خلالها مدارسها استطاع استكمال مرحلته السابعة والثامنة، كما تمكن من إجادة اللغة الإيطالية بحكم احتكاكه المستمر مع الضباط والموظفين في الصومال الإيطالي أثناء فترة إقامته في مقديشو. (1)



تلقى عيديد تعليمه العسكري الأول في عام 1950م ثم استكمل دراساته العسكرية العليا في الكلية العسكرية لحلف الناتو في كسانو – روما في 1952م، وعمل بعدها كقائد للشرطة في إقليم بكول وبنادر وجوبا السفلى طوال فترة الخمسينيات، ثم انتقل بعد ذلك إلى العمل في الجيش بعد تلقيه الدراسة العسكرية في أكاديمية فرونزي في الاتحاد السوفييتي. (2)



عمل بعدها كمستشار عسكري للرئيس محمد سياد بري، وعضوا في البرلمان الصومالي وفي لجنة الدفاع، ثم انتقل بعد ذلك إلى الهند للعمل فيها كسفيرا للهند وسري لانكا وسنغافورة بين عامي 1984 – 1989م (3)





انشق السفير الصومالي عيديد عن النظام الصومالي في يونيو 1989 وظل في الهند لاجئا حتى ديسمبر من نفس العام، ليعود بعدها إلى الصومال كقائد لجبهة المؤتمر الصومالي الموحد التي أطاحت بالحكومة الصومالية في يناير 1991م. (4)



انقلاب 69



دخلت الصومال في منعطف خطير بعد انقلاب أكتوبر 1969م الذي قاده الجنرال محمد سياد بري مع مجموعة من الضباط بعد تسعة سنوات من حكم ديموقراطي فاسد ممزوج بالنظام القبلي، وكان فساد هذه المرحلة هو الحجة الأولى لقادة الانقلاب في تنفيذ مخططهم في الحادي والعشرين من أكتوبر، والتي تمت بمساعدة من الاتحاد السوفييتي. (5) (6)



ولكن سرعان ما انحرفت الحركة الانقلابية عن أهدافها المعلنة في الأيام الأولى من الانقلاب، وقامت بسلسلة من الأخطاء في طريقة الحكم ربما كان أولها هو تبني النظام للاشتراكية العلمية ” الماركسية ” والتي انتهت بفشل ذريع، مرورا بانزلاق الحكومة الصومالية في مستنقع القبلية، وصولا إلى الفساد واستخدام القوة ضد الشعب الصومالي بمختلف أطيافه مع استخدام سياسة فرق تسد التي أجهزت على النظام الاجتماعي الصومالي الهش أصلا.(7)



في مذكرات محمد فارح عيديد، ذكر الجنرال العديد من النقاط التي كانت سببا في فشل ثورة سياد بري، واختصرها في خمسة عشرة نقطة كان أهمها:

 

عدم كفاءة الرئيس محمد سياد بري، وتبني نظام غير عملي وغريب عن المجتمع الصومالي ” الاشتراكية العلمية “، وفشل التخطيط الاقتصادي، وانعدام العدالة الاجتماعية، واعتماد القبلية والمحسوبية والديكتاتورية في حكم البلاد، وتبني سياسة فرق تسد بين أطياف الصوماليين، وتخبط نظام التعليم في الصومال، وفشل السياسة الخارجية الصومالية. (8)






تبعات الحرب الإثيوبية-الصومالية



دخلت الدولة الصومالية بعد سنوات من الانقلاب في حرب مريرة مع إثيوبيا في 1977م والتي انتهت بهزيمة ساحقة للجيش الصومالي في صحراء أوغادين، تلك الهزيمة التي كانت نقطة تحول كبيرة للنظام الصومالي وكاشفة لمدى إفلاسه، فقد أفلس من الناحية الأيديولوجية بعد تخليه عن الاشتراكية العلمية كرد فعل على تدهور العلاقات بين الصومال والاتحاد السوفييتي بسبب مواقف الأخيرة في الحرب الإثيوبية – الصومالية، وأفلس من الناحية الاقتصادية نتيجة التكلفة الباهظة للحرب والتي أجهزت على الاقتصاد الصومالي الذي كان أصلا من أفقر اقتصادات العالم منذ استقلاله، وأيضا أفلس من الناحية الأخلاقية بسبب تحول فوهة مدافع الجيش الصومالي تجاه الشعب الصومالي في الشرق والشمال، وارتكابه انتهاكات فضيعة في حواضر تلك النواحي وهو ما أدى إلى تكوين مليشيات وجبهات كان هدفها الإطاحة بالنظام وإيقاف تلك الانتهاكات، فتكونت جبهة الخلاص الديموقراطي الصومالي S.S.D.F في بعد الحرب مباشرة – 1978م – وجبهة الحركة الوطنية الصومالية S.N.M في 1980م. (9) (10)



ساهمت هذه الظروف القاتمة في بلورة فكر الجنرال عيديد في خلاص الدولة الصومالية، فطرح عدة مبادرات عندما كان سفيرا في الهند، وكان الغرض منها هو تشخيص الحالة الصومالية ونظام الحكم واقتراح “روشتة” للحلول اللازمة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذا الكيان المتهاوي، وقد يكون عيديد هو أول من قدم مبادرة لإنقاذ الصومال بطريقة سلمية وبعيدا عن استخدام السلاح.






الديموقراطية الذاتية



كانت أولى مبادرات عيديد هو طرح فكرة “الديموقراطية الذاتية”، والتي تعني ممارسة الديموقراطية في ظل الحكم الذاتي للشعوب، وأن التركيبات الاجتماعية والسياسية التي تتدخل في حرية الشعب يجب أن تلغى، وقاربت فكرته إلى حد ما الفلسفة الأناركية التي ركزت على مبدأ التوجيه الذاتي Self-directedness للشعوب. (11)



ادعى عيديد من خلال مبادرته، أن الشعب الصومالي مارس الديمقراطية بشكل كبير خلال أربعة آلاف سنة الماضية، ولم تختبر القبائل الصومالية حكما مركزيا جامعا بين أطيافهم من الناحية السياسية، بل كان لهم نظام اجتماعي وقضائي واقتصادي خاص سمي بالحير Xeer تمتع فيه جميع أبناء القبيلة في اتخاذ القرارات التي تخص القبيلة حينما تتم اجتماعاتهم الخاصة التي تسمى بالشير Shir، وهذا الذي جعل فكرة الذاتية Autonomy راسخة في الفكر الصومالي، واستشهد في طرحه بما كتبه عالم الصوماليات الشهير إيوان ميردين لويس I. M. Lewis في كتابه الديمقراطية الرعوية. (12)



رأى عيديد أن هذه الديمقراطية هي الأصلح والأفضل للشعب الصومالي كونها تتناغم مع النسيج الاجتماعي لأبناء القومية الصومالية المؤسسة على الحكم الذاتي والحرية المطلقة، بشرط أن ينص الدستور على هذه الديمقراطية، وأن تكون الأحزاب غير مبنية على أساس قبلي ضيق، بل أن تكون أحزاب وطنية عابرة للقبائل وتجمع عدة قبائل تحت مظلتها، وأن يكون للأحزاب التي تفوز بمقاعد في البرلمان حصة في تشكيل الحكومات لضمان التمثيل الأوسع للشعب الصومالي. (13)





مبادرة نوسدو NUSDO



في مارس عام 1988م، طرح السفير عيديد مبادرة جديدة تمثلت في إنشاءه لمنظمة نوسدو والتي هي اختصار ل “المنظمة الديمقراطية الصومالية الموحدة الجديدة ” وفي العام نفسه أصدر بيان Manifesto حمل اسم المنظمة، وكانت أبرز أهداف هذه المبادرة:



1- إسقاط نظام محمد سياد بري الديكتاتوري وإحلال سلطة بديلة.



2- التخلي عن أيديولوجية الاشتراكية العلمية التي كانت غير مناسبة، وكانت أيضا غطاء سياسي للقبلية والمحسوبية والإرهاب الذي مارسه الرئيس الصومالي.



3- تطبيق نظام ديمقراطي مناسب للشعب الصومالي كديمقراطية التمثيل الغير مباشر، وبشكل فوري وسريع.



4- رفض القبلية والجهوية والنظام الطبقي، والسعي لبناء وحدة وطنية بين أطياف الشعب الصومالي.



5- خفض عدد المحافظات من ثمانية عشر إلى عشرة محافظات.



بالإضافة إلى عدد من الأهداف الأخرى التي سعت لتغيير الشكل الاجتماعي للشعب الصومالي كاللغة والتاريخ وتأهيل الفرد الصومالي لجعله أكثر إنتاجية.



أما الفلسفة التي انطلق منها عيديد في بلورة هذه المبادرة، فاختصرها في ستة عشر مبدأ: الحرية، الوحدة، الديموقراطية الشبه مباشرة، العدالة الاجتماعية، دولة الرفاهية، التعليم الإسلامي، المساواة، الأخوة، الحب، السلام، التنمية، التحديث، الابتكار، الخدمة، الهوية الصومالية، التعايش السلمي.



ختم عيديد مبادراته بكتابة دراسة بحثية بعنوان الديمقراطية في الصومال : جذورها ومستقبلها، في نوفمبر 1989م ثم قبل غادر بعدها الهند متجها إلى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، والوقوف على مسرح السياسة الصومالية عن قرب. (14)







قبل السقوط



حينما وصل الجنرال محمد فارح عيديد إلى العاصمة الإثيوبية في ديسمبر 1989م ، كانت الساحة الصومالية تشهد حربا أهلية في الشمال الصومالي – صوماليلاند لاحقا – بين الجيش الصومالي والجبهة الوطنية الصومالية S.N.M التي استطاعت تحرير قطاعات كبيرة من الشمال ومحاصرة حواضر الشمال الكبرى، ومن الناحية الأخرى كان الجنوب يشهد تكون حركات مسلحة كحركة الوطنيين الصوماليين S.P.M بالإضافة إلى حركة الخلاص الصومالية الديمقراطية S.S.D.F التي بدأت في استعادة نشاطها بعد توقف دام لسنوات بعد أزمة الشرق في بداية الثمانينات. (15)



بعدها بثلاثة أشهر – أي في فبراير 1990 – تم تأسيس المؤتمر الصومالي الموحدU.S.C في العاصمة الإيطالية روما، وضمت العديد من السياسيين والضباط والتجار المنتمين لقبيلة الهوية – القبيلة الأكبر من الناحية الديموغرافية -، والتي ينتمي إليها الجنرال أيضا. في ذلك الحين لم يكن للمؤتمر أي حضور في الأراضي الصومالية، كما لم تعترف بها الحكومة الإثيوبية، وتكوين هذه الجبهة كانت مفاجئة للجنرال عيديد كما أوحت مذكراته المكتوبة، ووافقه في ذلك المؤرخ الصومالي سعيد شيخ سمتر في تقريره عن حقوق الأقليات أن السبب الحقيقي لتغيير قبيلة الهوية موقفها من الإذعان إلى المقاومة المسلحة هو غير معروف، هل هو بسبب الفصل المتعسف لكبار الضباط من القبيلة أو هو لمنافسة القبائل الأخرى التي كونت مليشياتها الخاصة؟ (16)



أيا يكن، فقد حاول عيديد منذ البداية أن يضم هذه الجبهات والحركات المسلحة في مظلة واحدة على ضوء إعلان نوسدو، ولكنه فشل في هذا المسعى لعدة أسباب أهمها، تكوين المؤتمر الصومالي الموحد U.S.C، بالإضافة إلى طلب الجبهة الوطنية الصومالية S.N.M تكوين لجنة خاصة لدراسة الاقتراح الذي تقدم به الجنرال، وقتها أدرك عيديد أن إعلان نوسدو لم يعد يجدي نفعا، فالأحداث كانت أسرع بكثير من خطواته! (17)



عندها اتخذ محمد فارح عيديد قرارا تاريخيا غير به مجرى نهاية الدولة الصومالية بشكل كبير، وهو انضمامه إلى جبهة المؤتمر الصومالي الموحد، وتحويله إلى قوة فاعلة على الأرض بدلا من بقاءه كمكتب سياسي في روما، فطلب من إثيوبيا الاعتراف بالجبهة ومدها بالدعم اللوجستي، ثم سافر بعدها إلى شمال الصومال وتحديدا إلى مدينة بالي جوبالدي لحضور المؤتمر السادس لجبهة S.N.M بحضور ممثلي جبهتي U.S.C و S.P.M والذي تمخض عنه لاحقا اتفاق الثاني من أكتوبر 1990م، الذي كان أهم بنوده هو تحرير البلاد وإسقاط نظام سياد بري، ثم قيادة البلاد بطريقة مشتركة بين الجبهات الثلاثة عن طريق حكومة انتقالية. (18)



بعدها انتقل عيديد إلى مدينة موستاهيل Mustahil الحدودية بين إثيوبيا والصومال، وبدأ بشن عملياته العسكرية على الجيش في أقاليم وسط الصومال، وخلال ثلاث أشهر فقط كان وسط الصومال قد سقط بالكامل بين أيدي مقاتلي المؤتمر الصومالي الموحد.



في تلك الأثناء وتحديدا في مايو 1990م، اجتمع 114 فردا من السياسيين والأعيان والضباط من النخبة الصومالية وأصدروا بيانا سمي ب ” المانيفيستو ” وموجها إلى رئيس البلاد وحكومته، وكان مضمونه هو إنقاذ البلاد من الانهيار الاجتماعي والسياسي، والدعوة لإقامة لجنة وطنية مهمتها وقف حالة الاحتراب الشاملة بين الصوماليين وبين فصائل المعارضة والجيش الصومالي، وإقامة دستور جديد والدعوة لانتخابات عامة عن طريق حكومة مؤقتة أو حكومة تصريف أعمال. (19)



رفض الجنرال عيديد مخرجات المانيفستو، بل ورفض مجموعة المانيفستو أنفسهم، حيث اعتبر أن المجموعة قد أنشئت أصلا عن طريق الرئيس الصومالي سياد بري، لإجهاض العمل السياسي للجبهات المسلحة التي كانت قد سيطرت على مناطق شاسعة من الصومال آنذاك، وبالفعل فإن الإعلان لم يدعو إلى أن يتنازل الرئيس الصومالي على الحكم بشكل صريح، بالإضافة إلى ارتباط العديد من الذي شاركوا في صياغة الإعلان بالرئيس الصومالي سواء من الناحية القبلية أو من الناحية الشخصية. (20)



في يونيو 1990، تم انتخاب محمد فارح عيديد لرئاسة المؤتمر الصومالي الموحد في المؤتمر الثاني للجبهة في إقليم هيران في وسط البلاد. (21)



التدخلات الدولية



شهدت اللحظات الأخيرة من سقوط الدولة الصومالية تدخلات دولية وإقليمية ساهمت بشكل كبير في رسم الأحداث الأخيرة قبل السقوط، وذلك من خلال التأثير المباشر والغير مباشر على اللاعبين في المسرح الصومالي المضطرب، ففي المراسلات بين مجموعة المانيفستو والسفارة الأميركية في الصومال، كشفت المجموعة امتعاضها وتذمرها من تدخل إيطاليا والدول الخليجية في الأزمة ودعمها المستمر للرئيس الصومالي، وطالبت الولايات المتحدة بالعمل على وقف المساعدات المالية التي تقدمها دول الخليج للرئيس الصومالي، والتي استخدمها لشراء السلاح ولثرائه الشخصي، وكان آخرها تقديم مساعدة مالية بقيمة 70 مليون دولار أثناء إعلان المانيفستو، فرد السفير الأميركي في الصومال آنذاك جيمس بيشوب James K. Bishop أن دول الخليج تقوم بذلك لحشد الدعم الدولي للوقوف لصالحها في أزمة الاحتلال العراقي للكويت. (22)



أما عن دور إيطاليا، فبالرغم من أن سياد بري أعلن اشتراكيته العلمية في بداية السبعينيات، إلا أنه حافظ على علاقات متميزة مع إيطاليا وازدادت تلك العلاقة عمقا مع حكومة بتينو كراكسي الاشتراكية، لدرجة أن كراكسي وبعض المسؤولين الإيطاليين تورطوا في علميات فساد كبرى في الصومال بالتنسيق مع سياد بري وعائلته، وهو ما دفع وزير الخارجية الإيطالي غياني دي ميكاليس بالتقدم لطلب إرسال قوات عسكرية إلى الصومال، تحت غطاء حماية السفارة الإيطالية، وهو مادفع المؤتمر الصومالي الموحد في الحادي عشر من يناير 1991م – أي قبل إسبوعين من سقوط سياد بري – بمناشدة المجتمع الدولي للضغط على إيطاليا بإيقاف دعمها لنظام الديكتاتور ووقف إرسال قواتها العسكرية إلى البلاد، ولعل السياسي فرانشيسكو روتلي اختصر وضع الحكومة الإيطالية فيما يخص الشأن الصومالي: بأنها فقدت إحساسها بالواقع الصومالي ومايجري هناك! (23)



ولكن الغريب أنه في الوقت الذي كانت فيه مجموعة المانيفيستو تشتكي من تدخلات الخليج، كان المؤتمر الصومالي الموحد يحث مسؤوله الإعلامي في لندن السيد عبد الشكور شيخ إبراهيم على مواصلة عمله للبحث عن مساعدات دول الخليج وخصوصا المملكة العربية السعودية، كما ورد في أرشيف المراسلات السرية بين أعضاء المؤتمر الصومالي الموحد، وهو ما يعني أن الفرقاء الصوماليين لم يملكوا رؤية موحدة فيما يخص التدخلات الخارجية! (24)





دخول العاصمة مقديشو



بحلول ديسمبر 1990م ، كانت قوات المؤتمر الصومالي الموحد U.S.C ومليشيات جبهة S.P.M تحاصر العاصمة مقديشو، وبدأت قوات النظام وتحديدا قوات الحرس الرئاسي الشهيرة ب “فرقة الطواقي الحمر Red Beret” بشن علميات عسكرية عنيفة ضد سكان مقديشو، ففي السادس من ديسمبر قامت هذه القوات بارتكاب مجزرة في سوق المواشي الواقع في الجزء الشمالي-الشرقي من العاصمة، وأدت إلى مقتل أكثر من 17 شخص أغلبهم من قبيلة الهوية، ومازاد الأمر فداحة هو أن بنية قوات الطواقي الحمر كانت محصورة في أبناء قبيلة الدارود في الثمانينات – وهي قبيلة الرئيس -، ثم ازدادت ضيقا فأصبحت تمثل الفرع الذي ينتمي له الرئيس الصومالي وهي عشيرة المريحان Marehan وتحديدا في عائلة ديني Reer Dini، وهو ما أدى إلى اتساع رقعة المواجهات بين سكان مقديشو، بين المنتمين لقبيلة الدارود التي تم تسليحهم من قبل الرئيس وبين المنتمين لقبيلة الهوية التي تلقت الدعم من قوات عيديد التي تحاصر العاصمة، وحينما اندلعت هذه المواجهات وخرجت عن نطاق السيطرة قامت الحكومة الصومالية بالتفاوض مع مجموعة المانيفيستو واختيار بعض أعضائها لتشكيل حكومة وزارية جديدة، بينما انضم بقية أفراد المجموعة في المقاومة المسلحة وشكلوا المؤتمر الصومالي الموحد U.S.C – فرع مقديشو – ! (25) (26)



في التاسع عشر من يناير 1991م ، تمكن الجنرال عيديد ومليشيات المؤتمر من التقدم ودخول العاصمة مقديشو في مقابل تراجع القوات الحكومية، واستمرت المواجهات إلى أن فر الرئيس الصومالي محمد سياد بري من العاصمة على ظهر دبابة متجها إلى بلدته في إقليم غيدو في جنوب الصومال، بعدها بثلاث أيام فقط قامت مجموعة المانيفيستو التي شكلت مليشيا المؤتمر – فرع مقديشو من انتخاب رجل الأعمال ومالك الفنادق علي مهدي محمد رئيسا مؤقتا للبلاد، لإجهاض تقدم المليشيات الصومالية ودعوتها إلى حكومة وحدة وطنية انتقالية، وهو ما رفضه عيديد ورأته بقية الجبهات انقلابا على اتفاقية الثاني من أكتوبر 1990م بين الجبهات الثلاثة، وبالتالي كان رفض عيديد سببا في انقسام المؤتمر الصومالي الموحد بين الفرقة العسكرية التي قادها والتي شكلت نواة الجبهة الحقيقية وبين مجموعة المانيفيستو بقيادة علي مهدي الذي انضمت في اللحظات الأخيرة للمؤتمر، وكلا الفصيلين في المؤتمر كانا سببا لاندلاع المعارك في العاصمة مقديشو بين الفصيلين، وهو ما أدى إلى النتيجة الحتمية وهو إزاحة الحكومة المركزية دون طرح بديل! (27)





الخاتمة



المبادرات التي تقدم بها الدبلوماسي والجنرال محمد فارح عيديد ربما هي مناسبة إلى حد بعيد للصوماليين الذين اهتدوا إلى خلاصة هذه المبادرات بعد عقدين من حرب أهلية طاحنة، ولكن هناك عدة نقاط مهمة تم تجاوزها والتي بدونها فقدت مبادرات عيديد لمعناها وجوهرها، منها الالتزام بالعمل الجماعي، الذي سيأتي بالحلول التوافقية الوسطية بين الجميع بشكل تلقائي. ولكن المتابع لسير الأحداث قبل انهيار الحكومة المركزية سيجد أن مستوى التواصل والتنسيق بين أطياف المعارضة كان ضعيفا جدا ومعدوما في أحايين كثيرة، وربما كانت هذه الحالة من اللا تواصل تعكس بشكل حقيقي حالة الفرد الصومالي الاجتماعية وربما تعكس اللا مركزية في الوعي الجماعي للمجتمعات الصومالية، وهذه النقطة وإن كانت جوهرية فأنها كانت محل إهمال في مبادرات عيديد لإصلاح الفرد الصومالي، وأيضا محل إهمال الجبهات والمليشيات الأخرى.


افتقرت مبادرات عيديد أيضا إلى فكرة الاحتفاظ على مكتسبات الدولة ومقدراتها في حال سقوط النظام وانهياره، لذلك اشتبكت فكرة خلع النظام وتفتيت الدولة في أذهان مقاتلي جبهة المؤتمر، وقد يكون عدم تجذر فكرة الدولة في أذهان الصوماليين سببا في ذلك الاشتباك.


أيضا افتقرت المبادرات إلى التوكيد على فكرة العدالة الانتقالية والاحتكام للأعراف الصومالية في الصلح وعدم الانتقام، كما فعلت صوماليلاند الطرف الآخر في الأزمة في ذلك الوقت، أو كما فعلت رواندا وجنوب أفريقيا وغيرها من البلدان التي عصفت بها الحروب الأهلية، وقد يكون هذا سببا لطول الحرب الأهلية في الصومال بشكل غير مبرر وغير معقول!


أخيرا
، من يقول أن الحالة الصومالية تتماهى إلى حد كبير مع الأناركية قد يكون مصيبا إذا تحدث عن المجتمعات الصومالية في أوقات السلم، ولكن ما حدث بعد تاريخ 26 يناير 1991م – سقوط مقديشو – هو مثال حي لما قاله توماس هوبز عن الحالة الطبيعية للإنسان قبل نشوء الدول والتي لخصها في قوله أنها “حروب الكل ضد الكل” أو كما صاغها بطريقة أدبية معبرة حينما قال أن ” الإنسان ذئب لأخية الإنسان “. (28)



ربما تكون فكرة هوبز حافزا للنخب الصومالية للتفكير من جديد في تكوين وتأسيس دولة الصومالية على أسس جديدة وعقد اجتماعي جديد يعكس آمال جميع الصوماليين.



– كاتب وباحث في شؤون القرن الأفريقي



المراجع والمصادر



(1) Dr. Satya Pal Ruhela: Mohammed Farrah Aidid and his vision of Somalia , P 1.



(2) http://aideed.org/view.php?id=65



(3) https://thebiography.us/en/aidid-mohammed-farah

 



(4) https://www.washingtonpost.com/archive/politics/1992/09/08/aideed-warlord-in-a-famished-land/071be58c-f5fb-47ef-92df-b1197b638ee7/

 



(5) Gary D. Payton: The Somali Coup of 1969: The Case for Soviet Complicity.



(6) Mohamed Haji Ingiriis: The Suicidal State in Somalia: The Rise and Fall of the Siad Barre Regime, 1969-1991, P 77



(7) Pal Ruhela (no.1) P 101



(8) Ibid. P 102-112



(9) Peter J. Schraeder and Jerel A. Rosati: POLICY DILEMMAS IN THE HORN OF AFRICA: CONTRADICTIONS IN THE U.S.-SOMALIA RELATIONSHIP



(10) https://www.refworld.org/docid/3ae6a607b.html

 



(11) Nassrine Azimi: Humanitarian Action and Peace-keeping Operations: Debriefing and lessons, Report of the 1997 Singapore Conference>



(12) I.M. Lewis: Pastoral Democracy, a study of pastoralism and politics among the northern Somali of the Horn of Africa.



(13) Pal Ruhela (no. 1) P 149



(14) Ibid. P 100



(15) https://www.refworld.org/docid/3ae6ad8e14.html

 



(16) FCO 31/6605 : S.N.M Somali National Movement – A Minority rights group report, Somalia: A Nation in Turmoil. Dr. Said S. Samatar.



(17) http://www.garanuug.com/taariikh/rewinding-revolution-rhetoric-in-reliving-the-past-the-kacaan-era/

 



(18) FCO 31/6606 S.P.M – Somali Patriot Movement – Archives



(19) Mohamed Haji Ingiriis: The Making of the 1990 Manifesto: Somalia’s Last Chance for State Survival



(20) Pal Ruhela (no. 1) P 167



(21) https://www.refworld.org/docid/3ae6abac20.html

 



(22) Wikileaks: DISCUSSION WITH MANIFESTO SIGNERS



https://wikileaks.org/plusd/cables/90MOGADISHU11003_a.html

 



(23) Washington Post Archives



https://www.washingtonpost.com/archive/opinions/1993/01/24/the-italian-connection-how-rome-helped-ruin-somalia/cd843c56-6443-42e4-98b6-0f0a9147cee3/

 



(24) FCO 31/6606 , Press release 10 January 1991



(25) Human Rights Watch: SOMALIA: A FIGHT TO THE DEATH? LEAVING CIVILIANS AT THE MERCY OF TERROR AND STARVATION , February 13 1992



(26) https://www.refworld.org/docid/3ae6acd950.html

 



(27) Somali Peace processes: Chronology



(28) Thomas Hobbes: Leviathan or The Matter, Forme and Power of a Commonwealth Ecclesiasticall and Civil

 

إرسال تعليق

0 تعليقات