آخر الأخبار

الهرمنيوطيقا الغربية والهرمنيوطيقا الاسلامية -مقارنة منهجية مختصره-

 


 

أبو أحمد المهندس

 

الكثير منا يعرف ان الهرمنيوطيقا تعني العلم الذي يبحث فيه عن قواعد فهم النص ومناهج هذا الفهم ، وظهر هذا العلم بمسماه المعروف به اليوم في عالم الغرب ، واستطاع المفكرون هناك ان يطرحوا مباحث دقيقة ومهمة بهذا العلم ، ومر بتجاذبات وتقلبات أفرزت رؤى واتجاهات متنوعة قد لاتكون منسجمه مع بعضها الآخر.

 

وكان لشلايرماخر الحصة الأكبر فيها . إلا أن الهرمنيوطيقا دخلت على يد هايدغير وغادمير مضمار آخر من البحث ، حيث انتقلت الهرمنيوطيقا من البحث المعرفي للفهم إلى البحث الوجودي ، وبالحقيقة على أيدي هؤلاء دخل الفهم في غياهب النسبية والتعددية والتأريخانية ، فبعد ان كان فهم النص يوصل القارئ إلى الجزم واليقين بغرض المؤلف، أصبحت النسبية والتعدديه في الفهم مجموع ما يخرج به القارىء عند قراءته للنص ، وبدل ان يتخذ المفسر غرض المؤلف ميزانا في تفسير النص ، صار فهم المفسر ومنظومته الفكرية معيارا للنص ، والأصالة والمحورية تعود الى المخاطب أو مفسر النص!!!

 

وبعبارة أكثر تفصيلا : مرت الهرمنيوطيقا هناك في عالم الغرب، بثلاث مراحل تطوريه هامه (سيتم التفصيل فيها في منشور لاحق) :-

 

١- الهرمنيوطيقا ماقبل الكلاسيكية (مرحلة عصر النهضة).

 

٢- الهرمنيوطيقا الكلاسيكية (مرحلة شلايرماخر) .

 

٣- الهرمنيوطيقا المعاصرة أو الفلسفية ( مرحلة هايدغير)

 

أما بالنسبة للهرمنيوطيقا الإسلامية ، فلم تظهر في عالم المعرفة كعلم مستقل ، لكنها ظهرت كقضايا مبثوثة في فروع العلوم الإسلامية المختلفة من تفسير وأصول الفقه وكلام وعرفان، غطت الكثير من مباحث الهرمنيوطيقا المهمة ، فمثلا مباحث الألفاظ التي تطرح في أصول الفقه ترتبط ارتباطا مباشرا بالهرمنيوطيقا، وكذلك البحوث المرتبطة بأصول التفسير والتأويل ، كالمحكم والمتشابه والتنزيه والتشبيه والجبر والتفويض والتوقف ، كل هذه البحوث وغيرها تقع في إطار فلسفة التفسير من جهة وضمن بحوث الهرمنيوطيقا من جهة أخرى.

 

حيث ذهب بعض المفسرين إلى أن قوله تعالى ( ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ) ، الى ان التصور الشامل لهذه الآية تنسجم مع مفهوم الهرمنيوطيقا التي يقول بها علماء الهرمنيوطيقا الجدد ، اذ الملاحظ في هذه الآية ، الإشارة الى التعددية (بالمعنى التكاملي) التي ذهبت إليها بعض مناهج الهرمنيوطيقا ، قبل بيان ملامحها المبنائية بقرون عديدة ، ويستفاد منها أيضا ، ان التفسير يمكن ان ينطوي على مراتب تكاملية يفهمها الناس كل على حسب مستواه الفكري والعلمي ، وكل واحد يدرك بعدا أو وصفا أو مرتبة من النص المفسر ، وهذه الإفهام الصحيحة المطابقة للواقع بدرجه ما ، يكمل بعضها البعض، وبهذا المعنى تعد مناهج تفسير القران بحثا هرمنيوطيقيا كاشفا عن مراتب إدراك معاني كلام الله ، وبذلك يمكن تسميتها وحسب المنهج المتبع بالهرمنيوطيقا الإسلامية.

 

ويمكن إجمال أهم القواعد والأسس المنهجية التي تميزت بها الهرمنيوطيقا الاسلامية كمايلي (سيتم التفصيل فيها في منشور لاحق) :-

 

١- المعنى رهن النص.

 

٢- محورية المؤلف في التأويل.

 

٣- التأويل النحوي (مراعاة القواعد النحوية) والتأويل الفني (النفسي أو الذاتي).

 

٤- تفسير النص بالنص .

 

٥- المراتبية أو الطبقية في المعنى ضمن بنية النص. ( وهذه المنهجيه لانظير لها في الهرمنيوطيقا الغربية ومنهجيه حصرية للهرمنيوطيقا الإسلامية) .

 

ولم يظهر الخلاف بين الهرمنيوطيقا الغربية (الكلاسيكية) ، والهرمنيوطيقا الإسلامية إلا بعد ظهور الهرمنيوطيقا الفلسفية على يد هايدغير وغادمير، فالغرض المشهور من الهرمنيوطيقيتين (الكلاسيكية الغربية والسلامية) تتلخص في انتزاع قصد المؤلف من النص، لان معنى النص ليس إلا ذلك المعنى الذي قصده المؤلف، ولو ذهب المفسر أو المؤول الى غير هذا المعنى، فقد ضل الطريق ، وسقط تأويله عن الاعتبار !!! واللفظ في هذين الهرمنيوطيقيتين ، كالعبارات دال وحاكِ، والمعنى مدلولّ ومحكي ، والكاتب أو المتكلم يريد نفس المعنى الذي استعمله (الإرادة الجدية) ، ومطابقة هذا التفسير مع الواقع الخارجي ونفس الأمر …

 

ولكن بعد مجيء هايدغير ( مؤسس الهرمنيوطيقا الفلسفيه) وتلميذه غاديمير ، تغير الأمر !! فالهرمنيوطيقا التي طرحها هايدغير وغادمير ، تنكر ان يكون للنص معنى ثابت ومركزي يتم تحديده بمراد المتكلم وقصده ، مما سمح باعتبار القراءة إعادة إنتاج للنص ، وبذلك صار النص لانهائيا ، ومتعددا من زوايا مختلفة: دلاليةً وقرائية وعلامائية ، وبسبب هذا التعدد لايمكن لأي قراءة ان تستنفد النص لأنه يبقى مفتوح أبدا !!!.

 

وعلى حد تعبير هايدغير ( لايظهر معنى الكلام او النص الا من خلال نسبته الى سائر الاشياء ) ، او على حد تعبير غادمير ( ان المعنى نتاج إدغام الأفق المعنائي للنص ، والافق المعنائي للمفسر ، واذا كانت هذه النسبة متغيرة ومتكثرة، كان المعنى المنتزع من النص متغيرا ومتكثرا ايضا ). اي على قاعدة ديالكتيكية السؤال والجواب !!!( سيتم توضيح هذه القاعدة الغاديمريه في منشور مستقل).

 

وأخيرا ؛ تبين مما سبق ان النزعة النسبية والتعددية التي ظهرت بوضوح في الهرمنيوطيقا الغربية الفلسفية (مرحلة هايدغير)، تتقاطع وبشكل ملحوظ مع المعتقدات والقيم الدينية، التي تتميز اغلب نصوصها كما هو معروف بالقطعية والاطلاقية الزمانية ووضوح الغرض الإلهي منها باعتبارها سنن إلهيه، خلاف ماذهبت إليه الهرمنيوطيقا الغربية من اعتبار النص وليد تفاعل وتناص ثقافي وبيئي بشري !! ، وهو في حالة سيلان دائم ، بحيث لايمكننا ان نجزم بأي أمرٍ نفاه النص القرأني او أثبته !!! ، وبهذه الحالة من النسبية والتعددية كيف يمكن ان يكون النص القرأني هاديا ونورا مبين؟؟!!، فالقرآن والسنة الصحيحة لايمكن ان يكونا هاديين ، الا في الحالة التي يمكن الوصول فيها الى بعض المحتويات والمضامين، التي يحويانها بشكل قاطع ومطابق للواقع ، والغرض الالهي الذي اريد منها ، فاذا كانت أفهامنا عن القرآن الكريم ناقصة بشكل دائم وقابلة لنقيضها ، فكيف يمكن ان يكون القرآن بيانا او بصائر ٍٍ للناس ؟؟!! وهل يمكن ان يكون تمسكنا به ذا معنى من المعاني ؟! بل الصحيح ان التمسك به لايكون الا اذا امكن الوصول ولو الى مرتبةٍ من مراتب معانيه .اما وفق هذه الهرمنيوطيقا : فما يمكن ان يتبع في كل عصر او مايتبع فعلا، انما هو مجرد ظنون وتخيلات يمكن ان تطابق الواقع كما يمكن ان لاتكون كذلك!!!

وما يفاقم خطورة المنهج الجديد في الهرمنيوطيقا الفلسفيه ان بعض المفكرين العرب والمسلمين اصبحوا بعد ان اطلعوا على مباني الهرمنيوطيقا الفلسفية يؤكدون على محورية المفسر في التفسير وتاريخية فهم الدين وضرورة تبدله وعصرنته !! ، اذ انهم ومع الاسف سلموا بصحة هذه الرؤى والمناهج الهرمنيوطيقيه دون تدقيق وتمحيص !! ، ووظفوها في الفهم النسبي والتعددي والتأريخاني للنصوص القرانيه والروائيه وبدأوا يتشدقون بها ، وكما وصف خطورتها احد المفكرين ، بانها ( لاتبقي حجر على حجر ) !!!....وللكلام تتمه

 

إرسال تعليق

0 تعليقات