نصر القفاص
كان الدكتور "عبد القادر القط" يسمى الذين يتحدثون بغير
علم ومعرفة, بأنهم "جامعى أعقاب السجائر"!! لذلك حين تعود إلى وثائق
وحقائق التاريخ.. ستجد هؤلا يسارعون بإطلاق ألسنتهم ضدك وضد الحقيقة.. لأن كراهية
الحقيقة تميز "السذج والبلهاء" الذين يدافعون دائما عن الحاكم.. أى
حاكم.. ملكا أو رئيسا.. مأمورا أو عبدا للمأمور.. فالذين يحترفون هتاف
"بالروح.. بالدم.. نفديك يا زعيم" يموتون فى صمت مريب!! وتبقى مسيرة
الزعيم.. سوا كانت تدعو للفخر أو تستحق اللعنات.. سوا كانت تفوح منها رائحة الوطن
والشعب أو تزكم الأنوف بخدمة من ينهبون الوطن ويمصون دم الشعب!!
حين كتب "عبد الناصر" للزعيم السوفيتى
"خروشوف" جملة مهمة قال فيها: "حيث تعز الحقائق على الكتاب..
يلجأون إلى الخيال" كان يضع خطا بين ما قبله وما يأتى بعده.. واختار أن يكون
دبلوماسيا قدر ما يملك – وهو كثير – فأضاف قائلا: "إن التفسير الوحيد الذى
أجده فى قدرتى لذلك الوضع, هو أن أخطاء لا تغتفر قد وقعت فى الفهم.. أو فى النقل..
أو فى الترجمة.. ولعلك لم تنس يا سيادة الرئيس, أنك قلت لى مرة أثناء اجتماعنا فى
شهر مايو سنة 1958.. إن أخطاء فى الترجمة كانت من أهم أسباب الخلافات بينكم, وبين
المارشال جوزيف بروز تيتو رئيس اتحاد الجمهوريات اليوغسلافية الاشتراكية الشعبية –
كان هذا اسم يوغسلافيا قبل تفكيكها – ويظهر أن هذا السبب.. سوء الترجمة على أرجح
الفروض, قد عاد بفعل نفس التأثير المدمر فى أزمة العلاقات بين بلدينا.. لهذا فإننى
حريص فى هذه المناسبة, أن لا أضيع هذه الفرصة.. فى هذه اللحظات الحاسمة.. لكى أشرح
لك باستفاضة وتفصيل, كل وجهة نظرى كما أراها.. وأسجل ذلك كتابة على الورق.. لا
أتركه لذاكرتك أو لذاكرتى.. ولا لقدرة مترجم يقدر أو يعجز عن التعبير"!!
أضع خطوطا تحت عبارة: "أسجل ذلك على الورق.. لا أتركه لذاكرتك
أو لذاكرتى.. لأنه بهذه العبارة أراد أن يقول للزعيم الروسى.. بينى وبينكم وثيقة
مكتوبة للتاريخ, تتمثل فيما قلته أو سأقوله.. لأن القادم فى الرسالة أصعب.. أكثر
وضوحا.. لا يحتمل تأويلا أو مواربة.. وفى ضوء هذه الرسالة, كانت علاقة "عبد
الناصر" مع الشيوعيين فى مصر والعالم العربى.. لأنه قال بوضوح.. لست شيوعيا..
ولن أكون!! أوضح ذلك بعد أن التمس أن يكون الخلاف يرجع لسوء فهم.. أو نقل.. أو عيب
فى الترجمة وله سابقة!!
إستأنف "عبد الناصر" فى رسالته: "عزيزى الرئيس..
إنكم تذكرون كيف جاءنا العدوان على غير انتظار.. أنه وقت كنا نعتقد فيه.. وكانت
معلوماتكم التى أتيتم بها إلينا.. تساند اعتقادنا بأن ذروة الأزمة قد مرت بسلام..
وأن المفاوضات التى تقرر أن تستمر فى جنيف, وتحدد لها يوم 29 اكتوبر تحت إشراف
الأمم المتحدة, وقد قضت إلى حد كبير على احتمالات التدخل العسكرى المسلح.. لكن
العدوان كما تذكرون سيادتكم, جاء فى نفس الوقت الذى كنا نستعد فيه لمفاوضات جنيف..
وجدنا أنفسنا فجأة نتعرض لعدوان بشع, لا أجد فى وصفه أبرع ولا أدق من العبارات
التى وصفته فى أحاديتكم العديدة.. وفى خطبكم التى نقلتها الأنباء إلينا فى ظروف
تلك الأزمة العصيبة.. والتى كان لها من الوقع فى نفس الشعب المصرى, وفى نفوس
الشعوب العربية.. وفى نفسى كمواطن عربى.. أثرا لا أظننى أقدر على أن أفيه حقه من
الوفاء والوقار.. ودعنى هنا يا سيادة الرئيس أوضح نقطة إشتد فيها الجدل بيننا
والنقاش.. لقد قلت فى خطبة ألقيتها فى دمشق.. إننا نقف فى مواجهة العدوان الثلاثى
فى ميدان القتال.. ووحدنا لا ننتظر معونة أحد.. لكن هذه العبارة على ما أحسست من
خطابك ومن تصريحاتك.. لم تقع منك موقع الرضا.. وأحب أن أقول أنه لم يخطر فى بالى,
ولا فى بال أحد من أعضاء حكومتى أن يقلل من قيمة الإنذار الذى وجهه رئيس الوزراء
السوفيتى فى ذلك الوقت.. لكن هذا لا يعنى أن الحقيقة التى أوردتها فى خطابى بدمشق,
ليست صحيحة إلى أبعد حد.. لقد كنا فى ميدان القتال وحدنا.. كان جنودنا فى سيناء
يحاربون وحدهم.. كان جيشنا وشعبنا فى بورسعيد يحاربون وحدهم.. ولم نكن نؤمل فى عون
إلا من الله".
أعيد قراءة هذه الرسالة لأهميتها.. ليس إعجابا بزعيم يستحق الإعجاب
والتقدير.. لكن لكى نعرف ونفهم.. من هو "عبد الناصر" كرئيس وزعيم.. فهو
لا يفوته تذكير الزعيم السوفيتى بأنه أرسل له معلومات تنفى وقوع حرب عام 1956.. ويذكره
بأن مصر حاولت قدر ما تستطيع أن تمنع الحرب, وقبلت ما أرادته الأمم المتحدة.. ثم
يؤكد على تقديره للموقف السوفيتى.. ثم يعيد التأكيد على أن جنود مصر وشعبها,
حاربوا وحدهم.. قاتلوا وحدهم دون عون من أحد غير الله.. وكان يقصد ذلك مع سبق
الإصرار, تمهيدا لمزيد من الشرح والتوضيح.. بل ولتأكيد المعنى بوقائع راح ينعش
ذاكرة "خروشوف" بها!!
أضاف فى رسالته ليقول: "لعلك تذكر يا سيادة الرئيس أنه فى
أثناء العدوان الثلاثى على مصر.. تصادف أن زار الاتحاد السوفيتى وقتها السيد شكرى
القوتلى رئيس الجمهورية السورية.. وأنه وجد بدافع التضامن العربى وبحافز الأخوة
المخلصة, أن يتباحث مع أقطاب حكومتكم فيما يمكن أن تقدمه بلادكم لنا من مساعدة..
كان العدوان الثلاثى قد بدأ يوم الاثنين 29 أكتوبر, وكانت زيارة الرئيس شكرى
القوتلى تبدأ يوم 30 أكتوبر.. ثم أتيحت له فرصة التباحث مع رئيس الوزراء السوفيتى
نيكولاى بولجانين بحضور عدد من قادة الاتحاد السوفيتى وكبار العسكريين.. بعدها
تلقيت رسالة بعث بها الرئيس السورى لى حددت موقفكم من العدوان.. كان واضحا من
الرسالة أن الاتحاد السوفيتى غير مستعد لدخول حرب عالمية.. وأنه على هذا الأساس لا
يستطيع الاتحاد السوفيتى أن يتدخل عسكريا ولا حتى بإرسال متطوعين.. وأن أقصى ما
يمكن عمله لمساعدتنا هو إرسال بعض المعدات إلينا مع بعض الفنيين.. وأؤكد لكم أننى
قدرت هذه الرسالة حق قدرها, ولم يخطر ببالى حتى فى الجو المكفهر الذى كان يحيط
بوطننا وقتها.. أن أحملكم فوق ما تقررون أنكم قادرون على احتماله.. كان كل ما
فعلته.. واسمح لى أن أذكر لك هذا السر الآن.. إننى نزعت هذه الرسالة من الملف الذى
كان يضمها, ووضعتها فى جيبى.. لأنى لم أشأ أن يطلع عليها من قد تتأثر روحه
المعنوية بقراءتها.. ولم تخرج هذه الرسالة من جيبى, إلا بعد أن كانت المعركة قد
انتهت.. أمرت حينها بإعادة الرسالة إلى مكانها فى الملف, كإحدى وثائق الدولة
وشواهد التاريخ.. ومازلت أعتقد أن هذه الوثيقة شرف كبير لنا.. إذ هى خير دليل على
أننا حاربنا فى ميدان القتال وحدنا فقط.. وكنا ندرك أيضا أننا سنظل وحدنا.. ولعلك
تدرك يا سيادة الرئيس أن الإنذار السوفيتى الذى لا ينكر أحد أثره, قد صدر من موسكو
مفاجأة لنا بعد أن مرت تسعة أيام.. كنا فيها فى ميدان القتال وحدنا.. وقد كان يمكن
أن نفقد عزيمتنا.. كان يمكن ان يشتد اليأس بنا.. وكان جائزا يا سيادة الرئيس أن
نستسلم بعد يومين أو ثلاثة أو أسبوع.. بل كان يجوز أن نستسلم صباح اليوم الذى صدر
فيه إنذاركم من موسكو.. ماذا كان يجدى الإنذار يومها يا سيادة الرئيس إذا كان
موضوعه قد انتهى وسقط؟"!!
تعامل "عبد الناصر" مع "السوفيت" على أنهم
أصدقاء, وكان هذا يفرض عليه أن يصارحهم مهما كانت قسوة صراحته.. تعامل معهم باحترام..
لكنه يفخر باحترامه لشعبه أكثر.. تعامل معهم بتقدير لكن كل التقدير كان لوطنه
وصمود شعبه.. أوضح أن الإنذار السوفيتى كان له أثره على المعارك والموقف, لكنه كان
مؤمنا بشعبه وأنه كان الحاسم فيما تحقق.. وصارح الزعيم السوفيتى بأنه كان يعلم
بموقفهم الرافض للدخول كطرف فاعل فى الأزمة.. وذكر أنه احترم ذلك ولم يصدمه, لأنه
لم يراهن على غير شعبه بما يملكه من اعتزاز بالوطن والدفاع عنه مهما كانت
التضحيات.. مهما كان الثمن فادحا.. أراد أن يقول بوضوح أن احترامه.. كل احترامه..
تقديره كل التقدير.. رهانه تماما.. كان على الشعب المصرى, الذى علق الأمانة فى
عنقه.. وفى هذه المعانى الواضحة.. الصادقة.. سر تمسك الشعب به واصراره على أن
يستمر قائدا وزعيما بعد هزيمة 1967.. وليت "جامعى أعقاب السجائر"
يفهمون!!
كان يمكن أن يتجاوز تلك النقطة الفاصلة إلى غيرها.. لكنه شاء
التأكيد عليها, بإضافة ما يؤكد على إيمانه بما قاله.. فأضاف: "إذن فإن الأمر
على حقيقته, لم يكن فقط أن الشعب المصرى حارب وحده فى الميدان.. ولم يكن فقط يعرف
أنه سيظل وحده فى الميدان.. بل كان كل شىء, حتى الإنذار السوفيتى الذى صدر بعد
تسعة أيام من بدء القتال.. يتوقف على صمود هذا الشعب واستعداده للتضحية.. بل
وتصميمه على العناد!! ومع ذلك فقد أشدنا بالإنذار السوفيتى وأثره.. ولم نكن نمل
الحديث عنه عرفانا وإقرارا.. وقد كانت إشادتنا بأثر هذا الإنذار, من أسباب تعرضنا
بعد العدوان لحملة عنيفة.. إتهمونا خلالها بأننا نسينا الموقف الذى اتخذته الأمم
المتحدة.. ونسينا دور الضمير العالمى وقت العدوان.. وكان الأمر الذى استوجب
التصريحات التى لم تقع منكم موقع الرضى عن الحقيقة فى أمر العدوان.. إن إذاعات
كثيرة تنطق باسمكم وصحف تصدر فى بلادكم, راحت وسط مناقشات بيننا وبين الحزب
الشيوعى السورى تعود بالفضل كله إلى هذا الإنذار.. وتصور الأمر على نحو يبدو منه
أن الشعب المصرى لم يقاتل, وأن الشعب السورى لم يهب.. والشعوب العربية كلها لم
تتحفز.. إنما هى جميعا قبعت ساكتة فى انتظار أن ينقذها هذا الإنذار.. لذلك كان
واجبا أن أحق الحق, وأرد الأمر إلى نصابه.. وأن أضع دور شعبنا فى مكانه الصحيح,
باعتبار أنه كان الجيش الحقيقى.. بل الجيش الوحيد فى ميدان القتال.. ولست أرى أنه
يمكن إنكار هذه الحقيقة, كذلك لست أرى أنه ينبغى الإقلال من قيمتها أو
تجاهلها"!!
كانت مكانة الشعب وقيمته هى الأهم عند "عبد الناصر"..
كانت تضحيات الشعب عنده هى الأغلى والأولى بالتقدير.. سرا وعلانية.. لأنه كان
مؤمنا بهذا الشعب إلى ما لا نهاية.. وكان الشعب يثق فيه إلى ما لا نهاية.. كان
يعتبر الشعب هو الجيش الحقيقى.. بل الجيش الوحيد.. والشعب كان يعتبره القائد
الحقيقى والزعيم الوحيد.. وهو كان لا يكترث بماكينات الدعاية التى تعمل ضده ليل
نهار.. لأن شعبه حوله, وهو يؤمن به ويحترمه لحد التقديس بعد الله!! وبعد أن أسهب
كثيرا وطويلا فى التأكيد على أن ما تحقق من نصر وإنجاز.. راح يوضح للزعيم السوفيتى
الفارق بين الشيوعية التى تنكر الأديان, وبين الاشتراكية التى يؤمن بها وتضع الدين
على الرأس وفى عمق القلب والروح.. وتلك تفاصيل مهمة..
يتبع
0 تعليقات