نصر القفاص
ليلة 14 مايو عام 1971, ذهب "محمد حسن الزيات" ليتسلم
عمله كوزير للإعلام, بدلا من "محمد فايق" الذى قدم استقالته قبل ساعات..
يمشى خلفه رجل يحمل "كلاشينكوف" لحمايته.. عرف من أذهلهم المشهد أن اسمه
"محمد عثمان اسماعيل" وأصبح واحدا من أهم رجال الزمن الجديد.. كان مع
"يوسف مكادى" و"أحمد عبد الآخر" يتولون مسئولية محافظات
الصعيد.. فقد شاء النظام أن يكون هناك رجال يمسكون مفاتيح الوجه القبلى, وآخرون
عليهم إحكام السيطرة على الوجه البحرى.. غير مسئولين عن مثلث العاصمة ويشمل: القاهرة
والجيزة والقليوبية.. أما مدن القناة فقد أصبح راعيها "عثمان أحمد
عثمان"!
تولى "محمد عثمان إسماعيل" ملف تأسيس الجماعات الإسلامية
وتسليحها, ولتسهيل مهمته جعلوه محافظا لأسيوط.. بعد أن وقف فى اجتماع لقيادات
الاتحاد الاشتراكي فى "بنى سويف" ليقول أمام الحضور: "إن أعداء مصر
ثلاثة.. هم المسيحيون أولا.. الشيوعيون ثانيا.. ثم اليهود ثالثا" وكرر الكلام نفسه فى اجتماع
للمكتب التنفيذى للاتحاد الاشتراكي!
تجدر الإشارة إلى أن الدكتور "محمد عبد السلام الزيات"
تولى منصب الوزير لشئون مجلس الأمة ونائبا لرئيس الوزراء, وقبل رحيل "أنور
السادات بأيام تم القبض عليه.. أصبح متهما بالتخابر لدولة "بلغاريا" فى
قضية تم الإعلان عنها ضمن ما أسموه "ثورة 5سبتمبر" وأعطتها الداخلية اسم
"قضية التفاحة" وشملت عددا من الذين تم التحفظ عليهم.. فقد كان للاعتقال
اسم آخر.. كما أصبح "تحريك الأسعار" بديلا عن "رفع الأسعار"..
وهكذا!!
ضمن "منهج الخداع الاستراتيجي" تم تحويل ثورة 23 يوليو
إلى متحف التاريخ.. فهذا زمن ثورة أخرى وعصر جديد.. إنه "زمن ثورة
التصحيح" أو "ثورة 15 مايو" كما شاء "موسى صبرى" فى
الأخبار, وشاركه فى التبشير بذلك "عبد الرحمن الشرقاوى" القطب اليسارى
الشهير.. وأصبح الدكتور "أحمد كمال أبو المجد" أحد أهم رموز المرحلة بتوليه
وزارة الشباب ثم وزارة الإعلام. إلى جانب أنه يتولى منصب أمين الشئون الدينية فى
الاتحاد الاشتراكي.. يكشف ذلك أن منهج حكم "السادات" كان يولى أهمية
قصوى للشباب والإعلام والأوقاف!! وضمن "المنهج" أن يتم تقريب عدد من
كبار قادة اليسار, وإعطاؤهم مناصب تنفيذية وسياسية لحين إعداد رجال الحكم الجديد..
فأصبح "مراد غالب" جنبا إلى جنب مع "بطرس بطرس غالى" وبينهما
وزير الخارجية "إسماعيل فهمى" و"تحسين بشير".. وظهر الدكتور
"فؤاد مرسى" كوزير للتموين قبل أن يستأذن مدركا ما يحدث, وكذلك الدكتور
"إسماعيل صبرى عبد الله" الذى تولى وزارة التخطيط فى المرحلة الأولى من
تولى الرئيس الجديد الحكم.. فقد كانت هذه الوجوه مطلوب منها القيام بدور لتهدئة
التيار الناصرى الجارف فى الجامعات, وتحكم اليسار فى النقابات العمالية.. وعلى
التوازى تم مواربة الباب لجماعة "الإخوان" ورعاية الجماعات المسلحة فى
الصعيد!!
شهدت فترة ما قبل حرب أكتوبر 1973, إقبالا حذرا من مستثمرين عرب
وأجانب.. اتجهوا إلى الفنادق والمطاعم والكازينوهات والعقارات, إلى جانب محاولات
اختراق قطاع البنوك.. دار فى فلك هؤلاء عدد من العاطلين عن العمل وصغار الموظفين
مع قطاع من شباب يعانى الإحباط.. بدأ رجال "زمن الملكية" يستطلعون
الأجواء ويحاولون قراءة الصورة الجديدة.. لاحظوا إعادة فتح "قصر عابدين"
ليصبح مقرا للحكم بعد أن كان قد تحول إلى متحف.. بدأوا يطالعون إعلانات فى الصحف –
الأهرام 11 نوفمبر 1971 – عن طلب شريك بالنصف لتوكيل شركة مصر للألبان والأغذية –
قطاع عام – ويحقق التوكيل ربحا صافيا يتجاوز 600 – ستمائة – جنيه شهريا.. من هنا
كانت إشارة الهجوم على القطاع العام, لتخريبه بجعله شريكا لما يسمى بالمستثمر
الصغير – سماسرة – وتغيير قياداته ليتولى المسئولية, أولئك الذين ترشحهم تقارير
الأجهزة الأمنية.. ظهرت كلمتى التصدير والاستيراد, ليقوم الذين أسسوا هذه الشركات
بتصدير عدد من المنتجات الزراعية.. أحدهم كان يقوم بتصدير طن الثوم إلى أوروبا
بثمانمائة – 800 – جنيه استرلينى.. وثمنه فى القاهرة مائة وسبعين – 170 – جنيه
مصرى.. فى الوقت الذى كان الرئيس "السادات" يخاطب الشعب يوم 23 يوليو
1971 قائلا: "إن جماهير الشعب لم تتأخر فى يوم من الأيام عن العمل وبذل
التضحية.. فهى التى حمت الثورة من كل محاولات التآمر عليها من الخارج وتخريبها من
الداخل.. كما كانت جماهير الشعب هى السند لكل عمليات القضاء على سيطرة تحالف
العملاء والإقطاع والرجعية وتسلط رأس المال"!!.. ويؤكد فى برنامج "العمل
الوطنى" على أن: "مصر قدرها المحتوم هو الاشتراكية.. والقطاع العام هو
سند التنمية الداخلية, والعلاقات الإستراتيجية مع المعسكر الاشتراكي"!!
أستشعر العمال فى قطاع الصناعة الخطر.
شهد شهر أغسطس 1971 حالة غضب داخل شركة "الحديد والصلب"
وهدد العمال بالإضراب.. ذهب "صلاح غريب" رئيس الاتحاد العام للنقابات
العمالية لمناقشتهم.. هتفوا ضده "أنت بتاع السلطة" وقرروا احتجازه داخل
المصنع.. أعلنوا الإضراب وانتخبوا لجنة لإدارته.. شارك 30 ألف عامل فى هذا الحدث
وشكلوا لجنة إدارة ذاتية للمصنع, وأعلنوا حرصهم على الإنتاج واستمراره.. المدهش أن
الإنتاج تضاعف خلال أيام الإضراب.. انتهت الأحداث بموافقة الحكومة على مطالب
العمال, التى تمثلت فى رفع الأجور وتخفيض ساعات العمل, وعدم تدخل الأجهزة الحكومية
والأمنية فى الانتخابات النقابية والسياسية بوحدات الاتحاد الاشتراكي فى المصنع..
وتم إحالة رئيس مجلس إدارة مؤسسة الصناعات المعدنية للتقاعد.. مع نقل نائب رئيس
مجلس الإدارة ومدير الإنتاج ومدير العلاقات الصناعية إلى شركات أخرى.. ثم حل
الوحدة الأساسية للاتحاد الاشتراكي وحل اللجنة النقابية.
خرج بعدها "أنور السادات" ليقول فى خطاب: "لو علمت
بما وقع.. وكيف عومل رئيس اتحاد العمال الذى انتخبه العمال أنفسهم.. لكان لى تصرف
آخر وإجراءات أخرى.. لكن وزير الصناعة ووزير الداخلية رأيا حل الموضوع قبل عرضه
على.. لذلك أقول أن أسلوب الاعتصام والإضراب ليس أسلوبا ديمقراطيا, ولا يمكن أن
يكون مقبولا من التنظيم السياسي ولا من سلطة الدولة"!!
جاء أول رد على تهديد الرئيس.. بإعلان سائقي التاكسي الإضراب يوم
11 نوفمبر, ونشرت الأهرام أنه تم القبض على 149 سائقا فى عددها الصادر يوم 12
نوفمبر.. وتكرر المشهد بعد ذلك فى 30 مارس عام 1972 بمظاهرة فى شبرا الخيمة..
بعدها أحرق طلاب معهد التعاون الزراعى سيارة عميد المعهد فى أول مايو من نفس
العام.. وكانت الصحف تنشر أعداد من يتم القبض عليهم.
إحتفالا بذكرى "ثورة 15 مايو" أصدر الرئيس قرارا
بالإفراج عن جميع المتهمين.
احترقت "الأوبرا" فى العام نفسه.. وانتهى التحقيق إلى
تقييد الجريمة "ضد مجهول"!
احترقت مصانع للسكك الحديد يوم 18 يوليو.. واحترق قصر تاريخى فى
القلعة!
أحترق سقف جمعية "دار الكتاب المقدس" فى المطرية.. لتطل
الفتنة الطائفية برأسها.
يتم الإعلان عن تشكيل لجنة لتقصى الحقائق برئاسة الدكتور
"جمال عطيفى" وكيل مجلس الشعب, لدراسة وفهم أسباب انتشار شائعات
ومنشورات سرية تطالب بتمثيل طائفى فى المواقع التنفيذية والبرلمانية.. كان أبرز
الشائعات أن ستة شباب مسلمين فى الإسكندرية اعتنقوا الديانة المسيحية, وأصبح مطلوب
إعدامهم رجما بالحجارة طبقا للشريعة الإسلامية.. وتقابل هذه الشائعة أخرى تقول أن
بعض النافذين فى المجلس الأعلى للشئون الإسلامية, قاموا بتزويج فتيات مسيحيات
فقيرات لشباب مسلم.. ثم شائعات عن رفض الرئيس لاستقبال البابا شنودة.. وأخرى تقول
أن البابا اعتذر عن تلبية دعوة للرئيس فى القصر الجمهورى!
كانت معالجة هذه التطورات الخطيرة تتم بطريقة شديدة السطحية
والسذاجة.
تحمل الصحف صورا لاستقبال الرئيس لشيخ الأزهر اليوم.. واليوم
التالى يتم نشر صورة استقباله للبابا وأعضاء المجمع المقدس.. وينشغل الرأي العام
بتلك الظواهر الجديدة والغريبة.. تتجاوز المسألة حدود مصر, ويتضح ذلك حين زار
"معمر القذافى" مصر فى فبراير عام 1973 وألقى خطابا فى قيادات الاتحاد الاشتراكي
قال فيه: "ليس من الإسلام فى شىء أن تثار فى مصر, خلال هذه المرحلة الحرجة أى
مشكلة دينية بين المسلمين والمسيحيين.. والإسلام برى من ذلك" وأضاف فى كلمته
التى نشرتها "الأخبار" يوم 9 فبراير 1973: "نحن فى ليبيا نؤمن بأن
الإسلام لا يضم أتباع سيدنا محمد فقط.. بل كل من آمن بالرسل وبالتالي لا فرق بين
أتباع رسالة عيسى ورسالة محمد" وذهب إلى القول: "إذا كان بيننا مجموعة
ملحدة فينبغى أن نحميها بدلا من اضطهادها"!
صدرت تعليمات بعدم تناول كلمة "القذافى" هذه بالتعليق..
سلبا أو إيجابا!
خطة "الخداع الاستراتيجي" يجرى تنفيذها وسط أزمات سابقة
التجهيز!
فى آخر ديسمبر من عام 1971 نظم طلاب كلية الهندسة بجامعة القاهرة
"الأسبوع الفلسطيني" وأشرفت عليه "جماعة أنصار الثورة
الفلسطينية" وطالبوا بالحرب لتحرير سيناء والأراضي العربية..
كانوا يحتجون على أن
الرئيس سبق أن قال عن عام 1971 أنه "عام الحسم" دون حسم.. يقرر
"السادات" الرد عبر خطاب رسمى يوم 13 يناير, وأعلن فيه تأجيل الحسم لأنه
كان "عام الضباب" بسبب الحرب الهندية – الباكستانية!! وبدلا من أن يؤدى
كلامه إلى تهدئة الطلاب.. حدث العكس.. قرر الطلاب أن يمتد "الأسبوع
الفلسطينى" إلى سبعة أسابيع.. ارتفعت أصواتهم رفضا لمبادرة السادات السلمية..
طالبوا بقطيعة مع مبادرة "روجرز" وعدم التعلق بمبادرات الأمم المتحدة..
قرروا تأسيس "اللجنة الوطنية" التى تتولى الإشراف على اعتصام مفتوح
بالجامعة.
يصدر رئيس الجمهورية قرارا برفع العزل السياسى عن 12 ألف سبق
حرمانهم من حقوقهم السياسية بعد إعلان قرارات يوليو الاشتراكية.
تعلن الحكومة قرارات اقتصادية تعتمد "التقشف" ومنها منع
استيراد الأثاث الفاخر, والسيارات الفارهة والسلع الكمالية التى كانت تغزو الأسواق
فى صمت.. وأعلنت الحكومة عن استعدادها لتدريب الطلاب على أعمال الدفاع المدنى.. استعدادا
للحرب.. يرد الطلاب بإرسال وفد إلى القصر الجمهورى يطلب من الرئيس الحضور إلى
الجامعة للرد على أسئلتهم.. يعلن مندوبى عدد من الجامعات الأخرى الانضمام إلى
مطالب جامعة القاهرة.. يتم تزوير بيان باسم طلاب جامعة الإسكندرية يعلنون فيه
تأييد الحكومة, ثم تنشر الصحف صباح اليوم التالي خبر إغلاق جامعة الإسكندرية!!
ينضم العمال إلى الطلبة.. يتصاعد الغضب.. تتطور الأحداث.. يرتبك
النظام والحكومة.. تظهر الطلائع الأولى لجماعات الإسلام السياسي لتشتبك مع الطلاب
بالأسلحة البيضاء.. يعتصم الطلاب قبل أن يقرروا الذهاب إلى ميدان التحرير يوم 25
يناير عام 1972..
يتبع
0 تعليقات