نصر القفاص
"أستطيع أن أعطيك قلبى.. فأصبح عاشقا.. أعطيك طعامى.. فأصبح
جائعا.. أعطيك ثروتى.. فأصبح فقيرا.. أعطيك عمرى.. فأصبح ذكرى.. لكن لا أستطيع أن
أعطيك حريتى.. إن حريتى هى دمى.. هى عقلى.. هى خبز حياتى؟؟ إننى لو أعطيتك إياها..
سأصبح شيئا له ماض.. لكن ليس أمامه مستقبل".. تلك كلمات "محمود
عوض" ابن "زمن الخمسينات والستينات" والتى دفع ثمنها فادحا فى
"زمن السبعينات" الذى يمتد حتى وقتنا الحاضر"!!
تحدثنا الوقائع عن تفاصيل "منهج السادات" القائم على
"الخداع الاستراتيجي للشعب" بعد شهور قليلة من توليه المسئولية.. فقد
طرح مبادرته الأولى للسلام مع إسرائيل, بعد أربع شهور. وفى الحقيقة سنجد أنه
استقبل "كمال أدهم" مستشار الملك "فيصل", والمشرف على جهاز
المخابرات السعودى.. وكان فى الوقت نفسه نسيب الملك ورجل الأمريكان فى المنطقة..
كان اللقاء بعد أيام قليلة من حلفه اليمين الدستورية.. مطلع نوفمبر عام 1970..
وكان الاجتماع سريا.. تسرب عنه أنه كان تقديم لزيارة قام بها "وليم
روجرز" وزير الخارجية الأمريكى, التى حدثت يوم 3 مايو بعد 48 ساعة من عزل
"على صبرى" نائب الرئيس.. وبين اللقائين كانت "مبادرة
السادات" الأولى للسلام فى فبراير 1971.. ثم حسم صراعه مع شركاء الحكم, والذى
يصفه "غالى شكرى" فى كتابه "الثورة المضادة فى مصر" بأنه كان
"صراع مماليك العصر الحديث".. بعد أيام من مغادرة "روجرز"!!
بسرعة لم يتخيلها أحد.. صدر فى شهر سبتمبر قانون "الاستثمارات
العربية والأجنبية" لتأسيس هيكل نظام اقتصادي يختلف جذريا عما كان قبل أن
يصبح رئيسا.. سمح القانون الجديد بدخول رؤوس الأموال العربية والأجنبية, بضمانات
ضد المصادرة والتأميم.. منح هذه الأموال تيسيرات جمركية وضريبية تصل إلى حد
الإعفاء.. أعطاها حق تملك الأراضى.. ثم صدرت قرارات تحرير الاستيراد والتصدير من
قيود التخطيط المركزى.. وأطلق السوق لقانون العرض والطلب.. فكان هذا القانون وما
ترتب عليه من قرارات أشبه بإطلاق المارد من القمقم!
عام واحد فقط على رحيل من أغلق أبواب "الأوف شور" حتى تم
فتحها على مصراعيها!
حدث ذلك وسط صخب وضباب كثيف بالحديث عن "مراكز القوى"
وخطورتها.. مداعبة الجماهير بالحديث عن "دولة المؤسسات" لتصبح
"دولة الرئيس فقط"!! والحديث عن "سيادة القانون" ليتحول
القانون إلى سلاح يتم تصنيعه فى "برلمان" يختلف تماما عن تجارب مصر
البرلمانية السابقة.. فقد تم وضع أسس إنتاج "برلمان" يسيطر عليه
"رجال الرئيس" ويقوم بهندسة تشكيله الأجهزة الأمنية.. بعيدا عن التنظيم
السياسى – الاتحاد الاشتراكى – الذى احتاج تفكيكه لسنوات طوال!! وقرر
"السادات" طرح ما أسماه "برنامج العمل الوطنى" خلال خطاب
ألقاه أمام مجلس الشعب يوم 10 يوليو 1971.. كانت الكلمات التى تحدث بها عن هذا
البرنامج شكلها اشتراكى.. أما المضمون فهو رأسمالى.. وطلب من القيادات أن يكونوا
قدوة للجماهير.. ووضح اعتماده لغة تستخدم الدين بالإشارة إلى قوله تعالى "وقل
اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون" وراح يتحدث عن أن العمل لا يعنى
الإنتاج.. بل أنه "إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا" وتأكيد ذلك فى آية
أخرى: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه" ثم طرح رؤيته للعدالة
الاجتماعية على أنها "وفى أموالكم حق للسائل والمحروم" إلى جانب إشارته
إلى "وائت ذى القربى حقه والمسكين وابن السبيل" ليصبح العمل الصالح هو
الصدقة والزكاة والإحسان!! وليس إنتاجا زراعيا وصناعيا.. وتلك المعانى وهذا
الأسلوب كان بداية لتقديره على أنه "الرئيس المؤمن" ورسالة مشفرة ومبكرة
لجماعة "الإخوان" والجماعات المفقوسة عنها!! وكان تقربا للسعودية التى
أخذت على عاتقها, إبعاده عن الاتحاد السوفيتى وتعبيد الطريق بين
"القاهرة" و"واشنطن"!! وتم شطب مصطلح "الطبقات
الاجتماعية" لتحل مكانها "القوى الاجتماعية" أو "المستويات
الاجتماعية" على اعتبار أن "الطبقات" تفوح منها رائحة الصراع
الطبقى, وهى إشارة إلى "الشيوعية" التى قيل أنها تمكنت من البلاد فى
الخمسينات والستينات!!
دارت "ماكينات الكذب والتزوير" بأسرع ما يكون.
الكلام عن "عبد الناصر" كله تقدير واحترام.. تشويه
إنجازاته ومنهجه السياسى والاقتصادى يمضى فى خط مواز.. الترويج لانتهاء زمن
الدكتاتور, بتولى الرئيس الديمقراطى.. وحين يعرب الاتحاد السوفيتى عن قلقه من
تسارع الأحداث فى اتجاه عكسى بمصر.. لا يمانع "السادات" من إصدار بيان
مشترك, يتم خلاله اتفاق الطرفين – القاهرة وموسكو – على إدانة موجة العداء
للشيوعية.. ثم وقع السادات "معاهدة الصداقة" مع الاتحاد
السوفيتى".. وكلما تعالت الأصوات احتجاجا أو رفضا لما يحدث.. يتحدث الرئيس..
لدرجة أنه قال فى خطاب يوم 13 يناير عام 1972: "هناك محاولات لتقويض علاقتنا
بالاتحاد السوفيتى, حتى نبقى وحدنا ليسهل عزلنا والقضاء علينا.. ربما تتعرض
علاقاتنا لخلاف فى وجهات النظر, ولكن حتى الأشقاء يقع بينهم الخلاف.. والاتحاد
السوفيتى لم يطلب منا أى شروط لمساعدتنا على إزالة آثار العدوان.. أمريكا هى التى
تحاول دائما أن تفرض علينا شروطها.. لكنى أقول فى وضوح أن أحدا لم يستطع أن يفرض
شروطه المسبقة على عبد الناصر, وأن أحدا لا يستطيع أن يفرض شروطه على.. لن يقدر
أحد على فرض شروطه على ثورة يوليو"!
كان هذا الكلام وقت أن ارتفعت درجة حرارة الرفض لملامح
"المنهج الجديد".. كانت محاولة لنزع فتيل انفجار أوشك أن يحدث فى
الجامعات المصرية والقلاع الصناعية بحلوان وشبرا الخيمة والإسكندرية.. ربما لأن
سرعته فى الذهاب إلى ما يريد كادت أن تحرق "المنهج" فاختار المناورة..
راح يتحدث عن "الاتحاد السوفيتى" بعكس ما كان يقوله رجال الحكم الجديد,
فأضاف: "سبق أن قلت أننى سوف أعطى تسهيلات للأسطول السوفيتى فى الموانىء
المصرية, وكان ذلك ردا ووفاء لموقفه منا عام 1967.. وقتها فقدنا 80% من سلاحنا
الجوى.. ما الذى فعله الاتحاد السوفيتى؟! لقد أقام جسرا جويا وبحريا لتعويضنا, وفى
خلال أربعة شهور فقط.. وقبل أن ندفع أو حتى نتكلم عن ثمن السلاح أو حتى نوقع
العقود.. خلال أربعة شهور كان قد اكتمل لدينا أول خط دفاعى.. بعدها تم توقيع
العقود, وقالوا لنا أنهم يشعرون بأن واجبهم كصديق أن يقفوا إلى جوار مصر
ويشاركونها أزمتها.. لقد أعطانا الاتحاد السوفيتى ما قيمته مائة مليون دولار أسلحة
كهدية بدون مقابل"!!
كان شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" يمثل ضمير
ووجدان أمة.. كانت القناعة راسخة لا تتزعزع بأن "ما أخذ بالقوة.. لا يسترد
بغير القوة".. وكانت عملية إعادة بناء القوات المسلحة قد أوشكت على الانتهاء,
كما قال "أنور السادات" نفسه فى خطابات علنية قبل الحرب.. لكن رجال
النظام الجديد.. رفعوا أصواتهم بأن "عبد الناصر" أضاع سيناء!! يتناسى
هؤلا حقيقة ثابتة فى التاريخ بأن سيناء كانت مدخل رئيسى لكل من حاول غزو مصر..
تجاهلوا حقيقة أن سيناء ضاعت فى حرب السويس 1956 وعادت بعدها بشهور.. وبشروط مصر
دون عقد صلح أو توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل.. لكن المستهدف كان هدم زمن بأكمله,
ومحاولة تشويه عنوانه بكل ما تستطيعه "ماكينات الكذب والتزوير" وتقدم
"خدم الملكية والاستعمار" إلى الواجهة.. لكن المعركة بينهم وبين الذين
دافعوا عن إنجاز أمة وجز من تاريخها, كانت شرسة وقاسية.
وضح أن مبدأ "التحالف مع الشيطان" قد فرض نفسهّ!
لا مانع من توقيع معاهدة صداقة مع "الاتحاد السوفيتى"
وقت صناعة حالة عداء ضد العلاقة معه وتشويهها من نافذة "العداء
للشيوعية".. استلزم ذلك رفع رايات الدين.. لدرجة أن "أحمد عبد
الآخر" الذى تم تنصيبه أمينا مساعدا للاتحاد الاشتراكي لشئون الوجه القبلى,
قال: "نفرط فى سيناء ولا نفرط فى عقيدتنا"! وتنشر الصحف اليومية هذا
الكلام, لإشعال حرب أخرى تم النفخ فى نيرانها.
أطلت "الفتنة الطائفية" برأسها ليتردد تعبير
"الوحدة الوطنية"!
ظهر الدور السعودى بجلاء.. زيارات سرية وعلنية.. رسائل تم تسريب
بعضها وبقى معظمها سرا.. أو قل أنه مات مع أصحابها.. يصل الأمير "سلطان بن
عبد العزيز" وزير الدفاع السعودى إلى القاهرة يوم 6 يوليو عام 1972.. يجتمع
مع "السادات" فى طريق عودته من زيارة إلى "واشنطن" فيدور
الحديث عن إبعاد السوفيت, باعتبار أن هذا هو مفتاح الذهاب للعلاقات مع الولايات
المتحدة الأمريكية!
يلتقى "أنور السادات" يوم 8 يوليو.. بعد ساعات من مغادرة
الأمير سلطان.. بالسفير السوفيتى فى القاهرة – فينو جرادوف – باستراحة
"القناطر الخيرية" وتحدث المفاجأة.. فالرئيس الذى وقع "معاهدة
الصداقة" قبل نحو عام يقول لسفير "الاتحاد السوفيتى": "إننى
أشكركم على كل ما قدمتموه من عون إلى مصر.. لكننى سأوقف خدمات الخبراء السوفيت اعتبارا
من 17 يوليو القادم"!!
ماذا يحدث فى مصر؟!.. الكلام اشتراكي.. الفعل رأسمالى.. الكلام عن
التخلص من مراكز القوى.. الفعل هو خلق مراكز قوى.. الكلام عن سيادة القانون
والديمقراطية.. لكنها "ديمقراطية لها أنياب" على حد تعبير السادات فى
خطاب علنى.. والحديث عن "المفرمة" كما يقول الرئيس مهددا كل من يرفع
صوته ضد توجهاته الغامضة فى ظروف عصيبة يمر بها الوطن.. الكلام عن ثورة 23 يوليو..
والفعل هو هدم أركانها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.. الكلام ضد أمريكا..
لكن التواصل أصبحت له قنوات سرية وخلفية عبر جهاز المخابرات.. يدرك "لطفى
الخولى" عضو اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي ومقرر لجنة الشئون العربية..
وكان رئيسا لتحرير مجلة "الطليعة" أنه مع أقرانه من رموز اليسار ورجال
"زمن عبد الناصر" وقعوا فى "الفخ" فيعلن استقالته من موقعه
السياسى!!
تصل إلى "السادات" تفاصيل رؤية أحد أهم قيادات الحزب
الشيوعى فى الاتحاد السوفيتى, الذى قال: "مصر أصبح يحكمها رجل يريد تحويلها
إلى دولة دينية ليتقرب من واشنطن"!! لكنه لا يملك أكثر مما فعل بطرد الخبراء
السوفيت.. فالجامعات تغلى.. المصانع لا تتوقف إضراباتها.. دخلت النقابات على الخط
– المحامون والصحفيون والمهندسون – بيانات تأييد للطلاب والعمال, وتعلن إصرارها
على الذهاب إلى الحرب وتحرير سيناء.. يقع الخلاف بين "السادات" والفريق
"محمد صادق" وزير الحربية الذى كان أحد أهم "رجال 15 مايو"
إلى جانب الرئيس من موقعه كرئيس لأركان الجيش وقتها.
يستعيد "السادات" ما سبق أن عبر عنه "إسماعيل
صدقى" رئيس الوزراء عام 1946, حين وقف أمام مجلس الشيوخ ليقول: "نحن
حكومة بيضا لشعب أحمر"!! فيعلن حربا ضروسا ضد كل خصومه على أنهم شيوعيون..
وظهر تعبير "القلة المندسة"!!..
يتبع
0 تعليقات