آخر الأخبار

مـشـروع تـحـويـل الفلسفة إلـى تـداوليـة ترنسندنتالية عند الفيلسوف الألماني المعاصر " كـارل أوتـو آبـل " !!

 



 

أبو أحمد المهندس

 

هذا المشروع من أهم المشاريع الفلسفية المعاصرة، وهو مشروع يندرج في إطار التحولات العميقة التي عرفتها الفلسفة في القرن العشرين، وقد سعى " آبل" في برنامجه هذا إلى العمل على إحياء وبعث الفلسفة الكانطية وتقديم قراءة جديدة لها وتحويلها إلى تداولية ترنسندنتالية ، معتمدا في ذلك على الإفرازات التي خلفها المنعطف اللغوي لكل من "بيرس " و "فنتجشتين "و" هيدغر"…

 

يعتبر "آبل" أن اللغة هي الكم المتعالي الأول، بمعنى أنها تشكل شرطاً قبلياً لكل صحة فهم. وركز أبحاثه أيضاً على إقامة روابط وثيقة بين التقاليد الأنكلوساكسونية في الفلسفة التحليلية وبين تقاليد أوروبا القارية في الفينومينولوجيا والوجودية ونظرية التفسير. وكان قريباً في تفكيره من "يورغن هابرماس" الا ان الطابع العام لفلسفة هابرماس سياسيا، بينما كان الطابع العام لفلسفة آبل أخلاقيا. والمرجعية الفلسفية لهابرماس هي الفينومينولوجيا والديالكتيك الهيغيليين وتداولية أوستين وسيرل، بينما كانت المرجعية الأساسية لآبل هي الترنسندتالية الكانطية وسميوطيقا بيرس .

 

ويمكن القول أن "آبل" تناول في مختلف أعماله موضوعين أساسيين هما الإتيقا والتواصل، ومبدئيا يبدو أنه لا توجد علاقة بين هذا وذاك، فالمفهوم الأول مشتق من الفلسفة الأخلاقية، والثاني مشتق من فلسفة اللغة، اللتين ظلتا منفصلتين عبر تاريخ الفكر الفلسفي، ولكن بالنسبة لآبل وغيره من فلاسفة التواصل، فإن هذين الموضوعين ليسا مستقلين عن بعضهما البعض بل هما في الحقيقة لو تعمقنا في الأمر جيدا موضوعان مترابطان ببعضهما البعض، ومن الصعب أن نفصل منطقيا بين ما هو إتيقي وما هو تواصلي.

 

وفي هذا السياق عمل " آبل " في مشروعه الفلسفي على تحليل طبيعة العلاقة التي تربط بين الفلسفة الأخلاقية وفلسفة اللغة المعاصرة، وبين الفلسفة الترنسندنتالية الكانطية والفلسفة التحليلية الأنجلوساكسونية (لدفينغ فنتجشتين ) ليؤسس "النظرية التداولية الترنسندنتالية للتواصل". باعتبارها قراءة جديدة من طرف " آبل " للفلسفة الكانطية اعتمادا على براكمتزم وسميوطيقا بيرس ، ضمن مفاهيم اسس عليها هذا المشروع هي (اللغة - الحجاج - النقاش - البينذاتية (انا انت) - المسؤولية).

 

حيث عمل " آبل "على إعادة صياغة نظرية زميله "يورغن هابرماس " مايسمى "التداولية الشاملة" وإعطاءها طابعا ترنسندنتاليا لتصبح "تداولية ترنسندنتالية"، وعلى إثر ذلك شهدت الساحة الفلسفية الألمانية في الربع الأخير من القرن العشرين حوارا فلسفيا ساخنا بين " آبل " و" هابرماس"…

 

وقبل ان نتعرف على فلسفة "آيل" ، علينا اولا ان نعرف ماهي الفلسفة الترنسندنتاليه ، وبعد ذلك نتعرف على البرنامج الفلسفي الجديد لـ "آبل" :-

 

الفلسفة الترنسندنتاليه او المتعاليه ، هي كل فلسفة تقول بأن اكتشاف الحقيقة يتم بدراسة عمليات الفكر القبلية " a priori " لا من طريق الخبرة أو التجربة!!!

 

وقد نادى أول مرة بالفلسفة التعالوية الترنسندنتاليه " إيمانويل كانط " واستعمل المصطلح في عمله الشهير " نقد العقل المحض، ويقصد بها أن معرفة الحقيقة لا تستمد من الخبرة أو التجربة ، بل من مصادر حدسية أو روحية "تتجاوز" حدود التجربة الموضوعية و"تعلو" عليها . وتقول بأن للإنسان أفكاراً لا تنبع من الحواس الخمس أو من القوى العقلية بل تنشأ عن إلهام إلهي مباشر ، وبأن للإنسان إلى جانب جسده المادي " جسداً روحياً " ذا حواس تدرك ما هو حق وخير وجميل …

 

أثرت الفلسفة المتعالية الترنسندنتالية على الحركة المتنامية للـ «العلوم العقلية» في منتصف القرن التاسع عشر، والتي باتت تعرف لاحقًا باسم حركة الفكر الجديد التي تعتبر " إمرسون " مؤسسها الفكري.

 

جوهر اعتقاد الفلسفة المتعالية " الترنسندنتالية " هو الخير المتأصل في البشر والطبيعة. يعتقد أتباعها أن المجتمع ومؤسساته يفسدون نقاء الفرد، ولديهم إيمان بأن أفضل حالات البشر تتحقق عندما يكونون «معتمدين على ذواتهم» ومستقلين.

 

تركز الفلسفة المتعالية "ترنسندنتالية" على الحدس الذاتي أكثر من التجريبية الموضوعية. يعتقد أتباعها أن الأفراد قادرون على تشكيل رؤى أصيلة كليًا مع القليل من الاهتمام والمراعاة للحكماء القدماء.

 

وهي مرتبطة بشدة بالتوحيدية، الحركة الدينية المهيمنة في بوستون في بدايات القرن التاسع عشر . ولم تكن الفلسفة المتعالية رفضًا للتوحيدية؛ وإنما، طُورت كعاقبة أساسية لتشديد التوحيدية على الإرادة الحرة وقيمة المنطق الفكراني. لم يكتف الفلاسفة المتعالون بإتزان، واعتدال، وهدوء عقلانية التوحيدية. وإنما تاقوا إلى تجربة روحية أكثر شدة. وبالتالي، لم تنشأ الفلسفة المتعالية "ترنسندنتالية " لمجابهة الحركة التوحيدية، وإنما كحركة موازية للأفكار التي اقترحت من قبل التوحيدين.

 

"الواحد" و "الحق" و "الخير"، وهي ألفاظ ترنسندنتالية أو متعالية لكونها تعبر عن خاصية مشتركة بين جميع ما يوجد، إضافة إلى كونها متكافئة لأن مضامينها واحدة، ويمكن أن يحل بعضها محل بعض.إذ يمكن القول إن الواحد هو الحق ، وإن الحق هو الخير..

يؤمن الفلاسفة المتعالون الترنسندنتاليون بشدة بقوى الفرد. وهي متعلقة بشكل رئيسي بالحرية الشخصية. ترتبط اعتقاداتهم بأولئك الرومانتيكيين ، لكنها تختلف من جهة محاولة التشييد أو على الأقل، عدم الاعتراض على التجريبية في العلم.

 

يعتقد الفلاسفة المتعالون الترنسندنتاليون أيضًا أن جميع الأفراد هم منافذ مرتبطة «بالروح العليا». لأن الروح العليا هي واحدة، وتجمع كافة الأفراد وكأنهم كيان واحد.

 

يشير "إمرسون " إلى هذا المفهوم قائلا «ليس هنالك سوى رجل واحد، -حاضر بالنسبة لكافة الرجال لكن بشكل جزئي، أو من خلال فرع واحد؛ ويجب عليك أخذ المجتمع بأكمله من أجل أن تجد الرجل الكامل». وهذا المعنى منسجم تمامًا مع الفردانية المتعالية، إذ أن كل شخص يحمل في داخله أو في داخلها قطعة من الروح العليا الإلهية.

ولهذا المصطلح أهمية كبرى في فلسفة كانط الذي أقر بعجز المعرفة الإنسانية عن النفاذ إلى العالم المتعالي أو عالم الأشياء في ذاتها. والترنسندنتالي عند كانط هو الشرط القبلي الذي يجعل المعرفة ممكنة.

 

أما التحليل العقلي الترنسندنتالي، فهو دراسة الصور الأولية للإدراك الذهني، و تقوم هذه الدراسة على تحليل المعرفة للكشف عن المعاني والمبادئ الأولية التي تجعل المعرفة ممكنة.

 

وما يسمى بـ( التمشّي الترنسندنتالي ) عند هوسرل هو التمشّي المميز للذات التي تقوم بعملية الرد الفينومينولوجي، ثم الترنسندنتالي بتعليق الحكم على العالم التجريبي، سعيا إلى بلوغ الأنا الترنسندنتالي الذي هو أساس كل معرفة.

 

والآن ، نـعـود الـى مـشـروع " ابـل " في الاتيقا التداولية " إتيقا النقاش والمسؤولية " التي تمثل العمود الفقري للمشروع الفلسفي التواصلي لآبل .

 

فالإتيقا عند آبل تتكون من جانبين: الجانب الأول ويتعلق بتأسيس المعايير الأخلاقية، والجانب الثاني يتعلق بمدى تطبيق هذه المعايير في الحياة الاجتماعية عبر التاريخ، والكلمة المفتاحية في ذلك هي المسؤولية !! .

 

والتي تعتبر من أهم النظريات الفلسفية المعاصرة، فإذا كان هابرماس قدم إتيقا التواصل كفلسفة اجتماعية وسياسية، فإن "أوتو آبل " قدم إتيقا التواصل كفلسفة أخلاقية واشتهر باعتراضاته الكثيرة على نظرية هابرماس تضمنها خاصة كتابه "التفكير مع هابرماس ضد هابرماس"، فهو وإن كان يتفق معه في الدعوة إلى تأسيس عقلانية تواصلية فإنه يختلف معه حول الكيفية التي يتم بها تحقيق هذا الهدف، ويمكن تحديد مفهوم التواصل عند " أوتو آبل" مبدئيا كالآتي: « النشاط التواصلي هو ماهية أساسية ذاتية وبينذواتية(انا انت) في الوقت ذاته، وهو ينطبق حصرا على أنواع النشاط التي كان قد حددها هابرماس كالنشاط المتعلق باستجلاء المعنى، أو ذلك الخاص بالبحث عن الحقيقة، أو عن الصدق، وهذه المتطلبات الأساسية لابد أن تكون ترنسندتالية وإلا ستختزل إلى مجرد شروط سوسيو- ثقافية ذات وجود نسبوي لا يمكن الاطمئنان إليها بقصد بعث تأسيس فلسفي نهائي »، وعلى العموم هناك نقاط اتفاق كثيرة بين آبل وهابرماس كما توجد بينهما نقاط اختلاف كثيرة يكشف عنها الحوار الساخن الذي جرى بينهما !!

 

وهي تدعي(اي نظرية "آبل")، اننا نتوصل إلى صيغة ضعيفة للتأسيس التداولي- الترنسندنتالي للمبادئ الأساسية للأخلاق بمجرد إمساكنا بالشروط الضرورية لكل تواصل في العالم المَعيش، ومن ثمةَ الإمساك بالشروط الضرورية للأخلاقية. وإن تأسيسا نهائيا لمبادئ الأخلاق يتجاوز الصيغة الأولى، ويعمل على التشبث فكريًّا بافتراضات القول الحجاجي بوصفه نمطا تفكيريا للتواصل في العالم المَعيش، صار مستحيلًا وغير مُجدٍ في نهاية المطاف وهي لا تنتمي إلى الأخلاقية المَعيشة في كل حالة خاصة، إنما تنتمي إلى مبادئ أخلاقيّة بمعنى كانط، أو لنقُل بمعنى التحول الكانطي، لأخلاقية النقاش- لتمثيل المعايير الشكلية، هذه المعايير هي المعايير الشاملة الوحيدة للواجب التي تفترض، بالضرورة، كل التقديرات الخاصة بالحياة الخيرة، والتي ستُضاف -بموازاة ذلك- إلى أشكال الحياة الملموسة، بالإضافة إلى مشكلة مكملة تأتي كمحصلة للأولى، وهي التحقق الفردي للحياة الخيرة ضمن الشروط القسرية للأخلاق.

 

وإن التأسيس النهائي للأخلاق (وهو على كلا مستحيل بالنسبة لهابرماس) ينبغي أن يُستبدَل باللجوء إلى الأخلاقية التي كانت دائما مُنغرسة في بنية النشاط التواصلي التي بدونها سيُختزل الفرد إلى مجرد تدمير ذاتي.

 

وهكذا، فإن مايسمى بإتيقا المناقشة عند "هابرماس" تقوم على الحوار العقلاني، وهو أمر مرفوق عنده بعدم دعوى امتلاك الحقيقة من دون الآخرين؛ وذلك لاستحالة إدراك الذات للحقيقة كما اعتقد كثير من الفلاسفة والمفكرين في الماضي عندما كانت الذات -في زعمهم- تمثل مصدر الحقائق المتعلقة بالطبيعة والحياة والإنسان، إلخ.

 

واللغة في نظره تهدف إلى تأسيس التفاهم وبلوغ التوافق، «فحسب إتيقا المناقشة لا يمكن ادعاء صلاحي معيار ما إلا إذا اتفق كل الأشخاص المعنيين باعتبارهم مشاركين في نقاش عملي حول صلاحية معيار ما »؛

 

لأن هذه الإتيقا تهدف إلى معرفة الإطار الإجرائي الذي تجري فيه تلك المناقشات العملية ذات الطابع المعياري والإجراءات المتبعة عند الشروع في تبرير صلاحية معيارها، وقد تُتخذ هذه الإجراءات الخاصة بالمحاججة الإتيقية بعيدا عن المضامين الميتافيزيقية أو الدينية؛ لأن إتيقا المناقشة (أو الإتيقا التواصلية) عنده لا تتمثل في الأوامر والنواهي بل هي مجرد معايير تنظم العملية التواصلية في المجتمع وتُبلور أشكال التفاهم الذي يتم بين الأفراد في إطار العقلَنة اللغوية وسيادة المعقولية النقدية الكانطيه !!!…..

 

وخلاصة القول:-

 

ان " كارل أوتو آبل " شيد مشروعا فلسفيا جديدا جمع فيه بين الإتيقا والتواصل بعنوان ″إتيقا أو أخلاقيات التواصل″. وأن مشروعه الفلسفي الإتيقي التواصلي ، ساهم في ظهوره وتطوره مجموعة من العوامل الفكرية والفلسفية، وأن المنعرج الألسني الهرمنيوطيقي/ التداولي والبراكماتزم وسميوطيقا بيرس وترنسندنتالية كانط، إضافة إلى التأثير الكبير الذي خلفته الكتابات الفلسفية والاجتماعية والسياسية النقدية لمفكري الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت أمثال هوركهايمر وأدرنو وماركيوز وزملاءه من الجيل الثاني خاصة صديقه وخصمه هابرماس ، تمثل مرجعيات فكرية وفلسفية أساسية بالنسبة لكارل أوتو آبل في سعيه لصياغة وبلورة مشروع فلسفي متميز وخاص به اسماه "التداولية الترنسندنتالية" في مقابل مشروع زميله وخصمه هابرماس "التداولية الشاملة أو الشكلية" .

 

ونستخلص كذلك أنه على الرغم من تعدد المرجعيات الفلسفية لـ"كارل ابل" (الترنسندنتالية، التداولية، الهرمنيوطيقا) فإنه استطاع استيعابها والتأليف بينها بشكل منطقي محكم، حيث استطاع الجمع بين نموذجين فلسفيين: نموذج الفلسفة الترنسندنتالية ونموذج فلسفة اللغة بوجهيها التداولي والهرمنيوطيقي، ليستنتج نظرة جديدة للفلسفة من حيث هي: "تداولية لسانية ترنسندنتالية"…..

 

والى هنا يبرز السؤال البحثي الاهم :-

 

كيف استطاعت فلسفة "كارل أوتو آبل " القيام بعملية تركيب معقدة جدا بين هذه المفاهيم لإنتاج فلسفة تواصلية تربط بين الإتيقا واللغة وتحدث منعرجا حقيقيا وتحقق أنموذجا (براديغم) جديدا في الفلسفة الغربية ، يعتبر تجاوزا لكل الفلسفات السابقة ؟؟!!

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات