عز الدين البغدادي
التقيت قبل سنوات ضمن وفد عراقي زار جامعة المذاهب والأديان في قم
برئيس الجامعة د. أبو الحسن النبوي، حيث تحدث فيه عن الجامعة وكلياتها وأقسامها،
وأيضا عن الخبرة أتي تراكمت لديها.
الرجل كان لطيفا جدا، ومجاملا وضحكته مميزة، قال وهو يتحدث: لدينا
خبرة جيدة في هذا المجال، فكل الفرق المغالية والبدع خرجت منا، قالها وأطلق ضحكة
وقهقهة عالية. ثم أعاد نفس التعبير في الجلسة مرتين، قاطعته مرة وقلت له: حتى
البدع التي ظهرت عندنا كالشيخية أصلها منكم، فضحك وقال: نعم صحيح.
هناك أمم دخلت الإسلام، لكنّها لم تستطع أن تقطع علائقها مع
اعتقاداتها القديمة مما جعل الغلو يحدث فيها أو تكون فيها أرض رخوة تقبل أفكار
الغلاة. كما أنّ هناك من ينتشر عنه الغلو بسبب بعده عن حواضر الدين والعلم مما
يجعل أيّ فكرة يمكن أن تلقى رواجاً وقبولا بينهم.
لقد كان لتأثير تلك الأمم التي احتكّ بها العرب والتي دخلت في
الإسلام تأثيراً في دفع الغلو، لاسيّما إذا كان لديها ميل نحو تقديس البشر. وأكثر
الأمم تأثيراً في ذلك الفرس الّذين كانت تشيع عندهم مذاهب الثنويّة وغيرها من
المذاهب التي اخذ الغلاة منها وتأثروا بها.
وقد أشار ابن حزم لهذا المعنى فقال في كتابه الشهير " الفِصِل
في الملل والنحل: ": والأصل في أكثر خروج هذه الطوائف عن ديانة الإسلام أنّ
الفرس كانوا من سَعَة الملك وعلوِّ اليد على جميع الأمم وجلالة الخطر في أنفسهم؛
حتى أنهم كانوا يسمّون أنفسهم الأحرارَ والأبناء، وكانوا يعدّون سائر الناس عبيداً
لهم. فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب، وكانت العرب أقلّ الأمم عند
الفرس خطرا؛ تعاظمهم الأمر وتضاعفت لديهم المُصيبة وراموا كيد الإسلام بالمحاربة
في أوقات شتّى.
لكن، فيما قال نظر:
فإنّ الفرس وإن كان لهم بطبعهم ميل إلى الغلو وتعظيم أكابرهم
والمبالغة في ذلك بلا ريب، إلا أنّ الغلو الموجود لا يرجع فقط الى العقلية
الفارسية، بل الى مشكلة المنهج التي تجدها في المذهب الشيعي بنسخته الرائجة.
وإلا فإن هذا لا تجده واضحا عند السنة الفرس، حيث لا تجد مذهبا أو
فرقة من فرق الإسلام ومدرسة من مدارسها إلا ولهم فيها أثر وفعل.
اعتقد ان الترك أكثر ميلا الى الخرافة من الفرس، ربما بسبب بيئتهم
الجبلية، وهذا واضح في الدولة الصفوية التي حكمت إيران، والصفويون أتراك وليسوا
فرسا. كما تجد ذلك في ان معظم الطقوس المبتدعة التي دخلت على الشيعة كان أصلها من
الترك. هذا فضلا عن الطريقة البكتشية التي ظهرت وانتشرت في بلاد الترك.
أضف إلى ذلك، فإن إطلاق القول بأن العرب ليس لها ميل إلى الغلو كما
كنت اعتقد وهو ما يعتقده كثيرون فيه نظر، فقد لاحظت أنَّ القرامطة وهم غلاة كان
معظمهم من الأعراب. حتى أن الأزهري اللغوي المعروف أرجع معرفته باللغة والتبحّر
فيها بأنّه وقع في أسر القرامطة فأخذ العربية منهم حيث قال في مقدمة كتابه
"تهذيب اللغة": وكنت امتُحنت بالإسار سنةَ عارضتِ القرامطة الحاجَّ
بالهبير، وَكان القومُ الَّذين وقعتُ فِي سهمهم عربا عامتهم من هوَازن، واختَلَطَ
بهم أصرامٌ من تَمِيم وَأسد بالهبير نشؤوا فِي البَاديَة يتتبعون مساقط الغَيْث
أيامَ النُّجَع، ويرجعون إِلى أعداد المِيَاه، ويرعون النَّعمَ ويعيشون بألبانها،
ويتكلمون بطباعهم البدوية وقرائحهم الَّتِي اعتادوها، ولا يكَاد يَقع في منطقهم
لحنٌ أَو خطأ فَاحش. فَبَقيت في إسارهم دهراً طَويلا..... واستفدت من مخاطباتهم
ومحاورة بَعضهم بَعضًا ألفاظاً جمّة ونوادر كثيرة، أوقعتُ أَكثَرها فِي مواقعها من
الكتاب.
وهذا ما يبيّن لك أن ربط الغلو بالفرس قد يكون مبالغاً فيه.
0 تعليقات