آخر الأخبار

ما بعد الظلام / هاروكي موراكامي / أدب ياباني

 



 

علاء الدين شهاب

 

"الليل عباءة سوداء يرتديها المساء على أكتافه فيمسي العالم من تحته في ظلام دامس ، و تحت عباءته تتزاوج الحكايات و تتناسل!"

 

ولأنَّ بلورة الأسئلة ليست بالأمر الهين ، و لأنَّ الفكر والإبداع لا يستفيقان الا مساء، كما يقول بنعبد العالي، من أجل ذلك - ربما - جاء موراكامي ليسرد علينا حكايات الليل المبهمة و يدون أسئلته العميقة وهو يرتدي بدلته السوداء في ليل طوكيو المثقل بالمفاجآت !

 

فتاة تدعى ماري أساي ، طالبة جامعية تدرس اللغة الصينية بمثابرة و شغف هي بطلة الحكاية . تجلس وحيدة في مطعم دينيز في قلب عاصمة اليابان . تطالع كتاباً ضخماً لا يتناسب مع حجمها الرقيق ، و سميكاً جداً لا يتوائم مع عمرها الشبابي الهش . فتاة بلا ملامح جذابة ، اذ لا شيء فيها يثير الانتباه ، على عكس اختها إيري أساي ، الفتاة الجميلة الفاتنة و التي تعمل موديلاً لغلاف بعض المجلات و فتاة دعاية لبعض الشركات التجارية . فالأختان على نقيضٍ تامٍ شكلاً و تفكيراً .

 

ثمة عيون ترصد الفتاتين باهتمام كبير من مكان مجهول . عيون السارد ترقبُ التفاصيل بحيادية دقيقة و تنحاز أحيانا و بشكل طفيف جداً و عفوي للجميلة النائمة - و مَنْ يقوى الّا ينحاز للجمال - نوم وديع هادئ يرافق ايري ايساي على امتداد السرد ، لكنَّه نومٌ بلا أحلام على ما يرجحه السارد ، ثم لا نعلم ان كانت ستستيقظ بعد ان تطبع ماري قبلتها على جبينها و خدودها الناعسة الجميلة وجه الصباح في آخر الحكاية ، فالنهاية كما البداءة مفتوحة على عدة تأويلات و رؤى .

 

ماري تمثل عالم اليقظة ، عالم الأضواء والحياة ، عالم شباب طوكيو المتخم بالعلم و التكنولوجيا والإرادة الحديدية التي لا تعرف كسلاً و تهاوناً . باختصار .. هو عالم ما بعد الأحلام أو ما بعد الظلام .

 

على عكس ماري نجد أختها ايري ايساي تمثل عالم الشباب الهارب الذي يؤثر الانزواء على مواجهة الواقع ولعلَّ أفضل أساليب الانزواء هو النوم بلا أحلام . إنّه الجيل الذي يئس من الواقع المر فلجأ للنوم في محاولة لاحتضان الحلم الذي يتسرب من بين يديه ليهرب بعيداً من نوافذ الليل فيعانق الظلام . الأفراد الذين أثقلتهم الحياة بهمومها فلم يجدوا وسيلة أجدى لهم من النوم !

 

الحكاية هي عن حبس الجمال في شرنقة الظلام و اعتقال الأجنحة الزاهية التي فتحت ذراعيها للربيع ثمَّ وأد الفراشات علناً في عتمة الليل البهيم . ولك ان تتخيل حينها ما اقسي ربيع الحياة بلا ألوان زاهية ولا فراشات !!

 

الجمال منثور هنا وهناك على صفحات الكون . يشاهده الناس عن ترقب و كثب لا لكي يتمدد تحت لحاف الظلام ! فللجمال رسالة و موسيقى يبثها في ثنايا الوجود . وان نام الجمال ساعات طويلة فإنما نامَ لكي يصحو ويعاود العزف على قيثارة الحياة . من اجل ذلك كان إصرار ايري اساي على النوم ، يبدو شرخاً لمفهوم الجمال فهو يتقاطع مع فتنة الجسد ورهبة الظلام .

 

النوم صنو الموت و الأحلام هي التي تزين النوم وتعطيه رونقه و بريقه . بلا أحلام يمسي الليل شاحباً كأنه يعاني انتزاع روحه من جثته الهرمة !

 

ولعل الرجل المقنع الذي ترصده كاميرات السرد ويحدق إلى الفتاة النائمة من عمق الظلام إنما يمثل روحها المثقلة السابحة في ظلمة الليل العميق … إنها كائنات الأعماق كما يرددها الكاتب مرات عديدة في فصول الحكاية . أعماق المحيطات السابحة في عتمة دواخلنا ليكتشفها الليل ساعة مجيئه ، و ترصدها عقارب الظلام .

 

فالكل على مايبدو يخبأ نفسه في شرنقة الظلام ؛ايري أساي ، كورونوجي الفتاة الهاربة من الم الماضي ، و شيراكاوا السابح في مستنقع الرذيلة المظلم كما سيكتشف القارئ في ثنايا الحكاية .

 

ثمَّ يأتي تكنيك الكاتب في استنطاق الأشياء ومنحها صفة الإثارة والغرائبية من خلال انتقال الحياة والأحداث وانعكاسها داخل مرايا وشاشات التلفاز ! فالحياة أشبه بشاشة تلفاز عملاقة أو مرايا عاكسة نشاهد من خلالها أحداث الحياة و صورها .

 

يقول جيسي ماتز في كتابه المهم تطور الرواية الحديثة

 

"يوجد الفن بقصد استعادة الإحساس بالحياة . يوجد ليجعل المرء يشعر بالأشياء و يجعل الحجر اكثر صلادة . الغاية من الفن هي نقل إحساس بالأشياء كما تُحَسُّ لا كما تعرف . و ان تقنية الفن تقدِمُ على جعل الأشياء (غير عادية) الى جانب كسر النمطية اليسيرة والعادية في إدراك الأشكال" …

 

هذا بالضبط ما أراده موراكامي هنا . فكأنها - أي تلك الأشياء غير العاقلة - شخص من شخوص الرواية كما في شاشة التلفاز والمرايا التي يخيل إليك أنها عالم موازي لهذا العالم تتحرك فيها الصور و تتجسد فيها حياة الشخوص و أفعالهم كما حدث لايري ايساي و شيراكاوا و غيرهم !!

 

يُصرُّ موراكامي على الموسيقى واللحن في كل أعماله . هل الموسيقى هروب من واقع متجهم ام هي مسحة من جمال يحاول الكاتب ان يزين بها وجه الظلام ؟ الموسيقى في أدب موراكامي أشبه بفلسفة يبثها في صفحاته ليختصر الحكاية الطويلة او ليخبرنا ضمناً ما في الموسيقى من لغة قد تسمو - برأيه - على لغة الصورة و الخيال !

 

يخيل للقارئ وهو يقرا ادب موراكامي ان الموسيقى هي احدى شخوص العمل الرئيسة والتي لا يكتمل نسج الحكاية بدونها . فاركان العمل عنده قائمة على أربعة دعائم أساسية :

 

-الشخوص

 

-الزمان ،

 

-المكان

 

-الموسيقى

 

ليبني على تلك الدعائم هيكل رواياته و منزل أحلامه .

 

في أدب هيسة هناك مسحة تصوف تتجلى في أعماله . في أدب موراكامي هناك مسحة حداثة تغلف صفحاته . في الادبين هناك اوركسترا يتردد صداها ، يعلو تارة ثم ينخفض فهي حكاية متداخلة واسعة الأطراف و عابرة لحدود القارات .

 

ولكن ! لماذا يختار تاكاهاشي بطل الرواية دراسة القانون ويفضلها على عزف الة الترمبون . أو لماذا يزاوج بين اللحن والقانون ؟ أنها فلسفة موراكامي في الحياة .. المزاوجة بين دراسة اللحن لإنقاذ الجمال النائم و دراسة القانون لإنقاذ كائنات الأعماق الساردة في عتمة الحياة . تاكاهاشي يمثل موراكامي نفسه بفلسفته و نظرته للحياة . و هنا ظلَّ السؤال يورقني على امتداد السرد : ترى ما الذي يؤرق الرجل الياباني وهو يعيش حضارة متجانسة ، شبه متكاملة ؟ نظام فريد و تكنولوجيا متطورة و شعب يراهن على الوقت فيكسب الرهان و يراهن على العلم فتغدو التكنولوجيا المتطورة بين يديه ! ويأتي كلام تاكاهاشي عن الحضارة جواباً للسواحل المؤرق فيقول :

 

 في ظل الجدية اليابانية و ثقافة التكنولوجيا الفائقة ومبادئ السوق التي تتبعها مطاعم دينيز دائماً ، الا ينبغي ان احصل على بعض الخبز المحمص ؟ ما قيمة حضارة لا يمكنها ان تحمص قطعة من الخبز حسب الطلب ! ولعل العلة هي في الحضارة ذاتها . فغيوم التكنولوجيا و الاختراعات تحجب عنا اشراقة البساطة و عفوية الأشياء البسيطة .

 

وتظهر فلسفة موراكامي من جديد على لسان تاكاهاشي وهو يسرد لماري أسطورة الأشقاء الثلاثة الذين قذفهم الموج على شاطئ جزيرة غير مأهولة ثم تبدأ فلسفة الوقوف حول المكان و امكانية الرؤية التي تستتبع المكان . فهي أشبه بفلسفة صوفية مفادها التجرد . و خلاصتها : ان المرء ان كان يريد حقاً ان يعرف شيئاً ما فعليه ان يكون مستعداً لدفع الثمن و اعني به ثمن الاستكشاف و المعرفة .

 

يخيل الي وأنا اقرأ أدب موراكامي ان أسماء الأغاني و المقاطع الموسيقية التي يختارها في رواياته هي مفاتيح و رموز لفك شفرات فلسفته . في رواية جنوب الحدود غرب الشمس كانت معزوفة (عشاقُ نجمٍ عابر) ومعزوفة ( الزمن يمرُّ) هما مفتاحاً للحكاية وهنا تتجدد الألحان بتجدد الحكايات . ( خمس خطوات بعد الظلام)، ( الغيرة) ، ( لا يمكنني الذهاب الى ذلك الحد) وغيرها من أسماء الألحان التي يدجج بها موراكامي حكاياته ، تحمل في نوتاتها شفرات تفكيكية لفهم مواضيع الرواية الغرائبية الساحرة . ولعل رمزية فندق الفافيلا تحتاج الى دراسة تفكيكية اخرى سيكتشفها القارئ ولكن يحتاج فقط ان يقرأ الرواية بهدوء في عتمة الليل و في قلب الظلام !

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات