صبحي شحاتة
لقد أنزل الحكاية المقدسة عن الكون من السماء إلي الأرض، وجعلها
تدرج علي التراب كما يدرج الناس، وتسير بينهم في شوارعهم وأسواقهم وحواريهم
وبيوتهم بوصفها حكايتهم هم حكاية الإنسان عن نفسه حكاية إنسانية عادية وليست إلهية
نموذجية، لقد أعاد للفكر أصله الأرضي التاريخي الذي نشأ منه أصلا، وجعله دراما
يقوم بها البشر أنفسهم في حياتهم العادية اليومية، فصارت الحكاية المقدسة-
المرفوعة فوق الأرض لا تتغير مهما تغيرت الأرض- صارت أرضية وضمن المجري العادي
المتغير للحياة اليومية، ليست فوق التاريخ وإنما منه وفيه، ليست فوق الإنسان وإنما
منه وفيه وبه، فصرنا نري أنفسنا ونحن نصنع حياتنا بأنفسنا ونرفعها فوق رؤوسنا
ونعرف قيمة التاريخ والواقع المتغيرين ونتعلم أنه طالما استطعنا صنع حكاية
ورفعناها فوقنا يمكننا أيضا أن ننزلها لنرفع أخري غيرها، فيكون ثمة جدل بين السماء
والأرض يرفدان بعضهما لصالح الإنسان أولا وأخيرا وذلك لا يتأتي إلا بجعل المنظور
العقلاني العلمي والفلسفي للإنسان والمجتمع والكون يسود نظرنا لنستيقظ من سباتنا
الحلمي الأسطوري المحلق فوق رؤوسنا كحلم يقظة طويل لا نهائي.
لقد نزع نجيب محفوظ المؤلف الحكاية من بين قبضة رجال الدين حراس الحكاية
وسدنة معبدها والمتحدثون بها للناس يسودون بها ويتسيدون، سحبها منهم نجيب النجيب
وألقاها للناس يرونها بينهم ابنة الواقع والتاريخ والإنسان، لقد وقف رجال الدين
بالحكاية عندهم بوصفهم المنتهي وورثة النبي والله معا فمدها نجيب جعل للحكاية
نهاية آخري جديدة لا مكان فيها لرجال الدين وإنما رجال العقل العلمي والفلسفي، فجن
جنونهم وأمرو بقتله لكنه لم يمت ولن يموت أبدا.
استبدل محفوظ إذن المؤلف الإنساني بالمؤلف الالهي، المؤلف الأرضي
بالسماوي، المؤلف الجزئي النسبي العقلاني بالمؤلف اليقيني كلي المعرفة، المؤلف
الظاهر يسير بين الناس ويجلس علي المقهي ويذهب إلي وظيفة بالمؤلف الباطن الخفي
السحري الغامض الذي لا يطوله أحد ولا يمسه عقل بنقد.
قلب محفوظ إذن الطاولة علي رجال الدين وأخرجهم منها عرايا، فبدوا
بشرا مثلنا يأكلون ويشربون ويتناسلون ويصيبون ويخطؤون؟، وإنهم من ثم ليسوا فوقنا
ولا يمتازون عنا بشيء فوقي بالحكاية التي صارت رواية إنسانية، تباع بثمن قليل،
وتنشر في الجرائد والمجلات للكل، يتعرفون فيها علي الحكاية/ الحقيقة.. في نسبيتها
وجزئيتها وتطورها الدائم صوب الحرية بعدما صارت إنسانية، منهم جاءت وإليهم تعود،
وهم شركاء في الأول والآخر، وعليهم منذ الآن صنع حكاياتهم بأنفسهم، دون وساطة من
أحد أبدا.
0 تعليقات