آخر الأخبار

في الرؤى والمنامات

 




 

علاء الدين شهاب

 

علاقتي بالرؤى والمنامات علاقة عجيبة ! ولو شئتُ ان أحدثكم عن غرائبها لقلتم رجل مجنون يهذي بما لا يدري أو يهرف بما لايعرف . وقد مات الرجل الذي كنت أتلذذ بسرد مناماتي عليه - رحمه الله - و لكي اكون صادقاً معكم ، فإنّي لم احدثه يومئذٍ بكل ما رائيت ولا بكل ما مرَّ بي من رؤى غريبة قد لا تخطر ببال أحدكم حتى و ان عاش قرناً بعد قرن !

 

رجعت اليوم من دروسي مجهداً متعباً . وكعادتي بعد الاستحمام امضي لشأني الذي خُلقتُ له - على مايبدو - القراءة والاستغراق في كتب ومجلدات لها اول وليس لها آخر والانزواء في غرفة المطالعة و الدرس ، فقد تركت الخروج الا لماماً وقد نبذ الناس بعضهم بعضاً بعد تداعيات كورونا وصاروا يتحججون بالأعذار الصادقة و غير الصادقة كي يتجنبوا الخروج و اللقاء ، و رُبَّ ضارة نافعة ايها الأحباب . ومن شدة إجهادي وتعبي نعست و تركت الكتاب الذي بين يدي وذهبت للنوم بعد ان صليت المغرب . صحوت بعد ساعة وكنت قد نسيت الحلم الذي مرَّ عليَّ في منامي .. ونسيان الأحلام حالة تمر بي منذ سنوات و احسبها لشيء يتعلق بقساوة القلب والتعلق بالماديات الجارفة و كل ماله علاقة بتسوق و تبضع أو الركض المسعور وراء لقمة العيش . على كل حال لندع ذلك جانباً ونعود الى موضوع المنامات والأحلام . فقد قفزت إلى بالي احلام و رؤى قديمة بعضها في غاية الغرابة و منها هذه الرؤيا الغريبة وهي ليست الأغرب قطعاً ولكن لها تأثير عجيب ما يزال يرافقني منذ ذلك الحين ، فهناك رؤى لاتصلح للكلام أو البوح !

 

إذ رأيت فيما يرى النائم ، شيخاً كبيراً تبدو عليه آثار الصلاح و التقوى ، ثيابه بيضاء نقية على أشد ما تكون النقاوة ، و لحيته بيضاء مسترسلة كأنها حكاية عمره الحافل بالمناقب السخية و أياديه البيضاء التي اجمع عليها كل من عرفه و لقيه . ولو شئتُ أن أُسميَ الرجل لسميته ولكن من وعى أسرار المنامات يعرف متى ينطق بالشيء ومتى يلتزم الصمت ! و الرجل لم التق به يوماً على أرض الواقع ، وكيف التقي رجلاً قد مات قبل ان أولد بسنة على ما قد قيل ! رأيته نائماً على سرير عالٍ مرتفع، شراشفه بيضاء وعصاه بقربه توحي ببساطة آسرة ، ونبلاً في الطبع و رجولة في المواقف . ثم صحا الشيخ من رقدته و أشار اليَّ أن ادنو منه و أقترب فاقتربت ، و أذا به يطبع قبلةً ندية مباركة على رأسي . على يمين الرأس تحديداً ، من جهة الخلف . قبلة شعرت انها منحتني حياةٌ كانت تفارقه . بقيت أتامل سكينته وهو يتمتم بكلمات قبل ان يغمض عينيه اغماضته الأخيرة . كنت مأسوراً بهيبته وكان يفرض على المكان سطوته حتى وهو يواجه الموت ! كأنه قد ألف الموت كما ألف أحدنا الحياة فصارا صديقين . لكم يغدو الحلم احيانا انبل من الحياة وأقوى من الموت نفسه ! قد يقول قائل مالغرابة في رؤيا شيخ عجوز يطبع قبلة عابرة على راس فتى توسم به خيراً في وقت كانت تعصف بالفتى أعاصير الأهواء والشبهات والهموم ! كهل اراد ان يختصر الوصية بقبلة . هل جربتم ان تستحضروا الوصايا فتتيه في افواهكم الكلمات .. وحدهم الحكماء من ينتصر على العجز و ضياع الكلمات . يهجمون على الكلمات هجوماً شرساً وهي تفر من بين ايديهم فيصطادون مايرغبون باصطياده و يذرون بمشيئتهم - ان جاز القول - باقي قطيع الكلمات يفر مذعوراً ليعاودوا الصيد متى ما أرادوا و شاؤوا !

 

 

القُبْلةُ يا سادتي أحيانا أجدى من ألف كلمة و أنبل من ألف وصية .

 

تخونني الكلمات هنا وانا الذي أدمن المطالعة و جرب مئات الكتب والمجلدات . تخونني الكلمة و تنقذني قبلات الآباء و الأجداد . فالقبلة اشد وفاء من كل العبارات و أنبل من آلاف العبارات ، فكأنها أثر من روح الشيخ وحياته لا يكاد يفارقك . أقر و اعترف اليوم بعد أكثر من عشرين سنة أن خدراً و اثراً ظلا يلازمان رأسي لايام مديدة . انهض من سريري صباحاً و الأثر لايزول . اذهب لشأني و اكلم صحبي و اهلي واثر قبلته مطبوع على ذلك الموضع لايام وليالي طويلة . حدثت الرجل الصالح الذي اخبرتكم عنه بتلك الرؤيا فظل ساهماً منبسطاً ومسروراً لا يجد مايفسر لي به رؤياي . فبعض الرؤى لا تعلل ولا تؤول . تبقى مفتوحة على تأويلات شتى ، كلها تمنحك طمأنينة عجيبة و سر آمن . تأسرني الاحلام حتى في الروايات والقصص . أظل مشدوهاً لها وأقرأها بانبهار فكأنها تخصني انا أو كأنني ابن سيرين عصري أحاول جهدي ان احظى بتأويل لذلك الحلم المسرد في ثنايا الحكايات . و أسال نفسي كثيراً : هل الأحلام التي يسردها الروائي و القاص في حكايته هي أحلام حقيقية رآها الكاتب يوماً فجاء يلقيها على الملأ بغية تفسير من قارئ ذكي او تأويل من ناقد متضلع ، ام هي مجرد خيوط سرد متداخلة ينسج بها حكايته ؟ وهل كتَبَ النقاد كتاباً شاملاً استوعبوه دراسة و نقداً حول أحلام السرد و تأثيره السيكولوجي و النفسي ؟

 

قد أتشجع يوماً وامضي لهذا المنجز فهي أمنية استعصت على البعض كما استعصت بعض المنامات على التأويل و الشرح !!

 

إرسال تعليق

0 تعليقات