صبحى شحاتة
لم يخب ظني في أن الكاتب الذي يحظي بأقبال الجماهير، ليس فردا خاصا
وإنما مزق ونثار في شكل إنسان، ولابد أن يكون صادقا، الصدق العام، في ما يكتبه،
ومؤمنا الإيمان العام بنفسه كاتبا حقيقيا، بل عبقريا، لا يخالجه شك إنساني فردي في
ذلك، وتدفعه روح قوية إلي الكتابة عن الجماهير وحياتها وواقعها، معتبرا نفسه وهم
شيئا واحدا، كيان واحدا، لا فرق بينهما أبدا، اللهم إلا الفرق الشكلي، بين الجاهل،
ومن يفك الخط، أي المتعلم البرجوازي الذي يحظي بالموهبة، بوصفها هبة ورزق وحظ هبط
عليه وحدة هو النبي حامل رسالة الجماهير العريضة غير الوهوبة ولا القادرة علي
التعبير عن نفسها.
إن أحمد خالد توفيق هو هذا التصور النبوي الشعبي للكاتب بالضبط
وبحزافيره، مؤمنا بموهبته الرسولية أيمان المجنون بعالمة الوهمي، بل بكونه الكاتب
الحقيقي الوحيد في عصره وزمنه، والذي يقدم نفسه شهيدا وفداءً للحقيقية، التي هي
حقيقة الإنسان العادي، والجمهور العادي، يقدمها في رواياته كما هي عليه، لينبه
الناس ويوقظهم ويصلح من حالهم، لما يروها هكذا رديئة، في ظنه الرسولي.
إن روايات خالد توفيق مرآة، وصورة طبق الأصل للمفهوم الكلاسيكي
النخبوي المتهالك المهترأ والقار والمستقر والسلطوي عن الإنسان العام، والمجتمع
العام، بوصف المجتمع ليس مكونا من أفراد مميزة غامضة، لها خصوصيتها الإنسانية كما
علمنا علم النفس والاجتماع والفلسفة، وإنما أنماط، يعبرون عن أيديولوجيا المجتمع،
في حالاتها الخام، البيلوجية غير الواعية، ذلك أن الإنسان لدي توفيق، إنسان بيلوجي
بامتياز، يحركه الجزء الأسفل منه، الطعام المزاج الجنس، لا أفكار، لا رؤي، لا
وجهات نظر خاصة، لا تفلسف، لا علم، لا بناء ثقافي خاص، لدي الفرد الخاص، وإنما
الفرد نمط، خاضع لمنظومة من السلوك المتكرر، متحد معها، وفق موقعه القدري من
المجتمع، لا يخرج عنها أبدا، لذا نجد أن آلام شخصياته، ليست هي الألام الخاصة،
وإنما الألم العام، فشخصياته، بمثابة عينات من الكل، نري من خلالها حياة الجماهير
المشابهة لها، إن كانت بنتا فقيرة، أو غنية أو شابا فقيرا، أو غنيا، أو حتي مكانا
وزمان.
لا يعرف توفيق الداخل الفردي المميز لشخصياته، بما ينطوي عليه من
غموض، وطعم ولون ورائحة، وخيال وعالم كامل أوسع من الواقع، كما علمنا الأدب
الحقيقي خصوصا روايات تيار الوعي. وإنما يعمد إلي وصف السلوك الخارجي، بوصفه مركز
الشخص وهويته، حيث نري السلوك في المكان والزمان هو، هو الشخص، الذي يتكلم وفق
منطقته وحتته وناسه، وكأنه معزول في منطقته بل هو جنس بشري وحده، منقطع الصلة بما
يجاوره من شخوص في الزمان، فهو يفكر مثل وبما يتفق مع موقعه، فلا يعدو صورة عن أصل
خارجه، ونموذج يسترشد به علي غيره، لا خصوصية له ولا تميز ولا فرادة من أي نوع، إذ
يمكنك إن تستبدل أسماء الشخوص، بل الشخوص أنفسهم، دون أن يحدث هذا مشكلة في بناء
الواقع الروائي لديه، فالكل متشابهون، منظور إليهم بعين التبخيث، بوصفهم أنماط
وليسوا أفراد مخصوصة، كائنات بيلوجية تستجيب لواقعها تماما..
ومن ثم يكون توفيق رائي الحقيقة الشعبية الجارية بصدق عام، وحب
عام، وتألم عام، فهو هم، وهم هو؛ فتوفيق هو ذاته الإنسان العادي يكتب، الإنسان
النمط، الإنسان البيلوجي، يمسك القلم ويكتب عن نفسه الغائبه عنه في الخارج، هناك
في الشارع العام والأفكار العامة، لذا لا مسافة بين المكتوب وما يعبر عنه، ولا فرق
بين الكاتب وما يكتب عنهم..
يمتح توفيق الكاتب الوكيل عن الناس إذن مما هو عادي شائع، ويعيد
تدويره في رواياته بلا وجهة نظر خاصة، ولا نقد، لأنه يعتبر ما يكتبه هو الحقيقة
المطلقة ذاتها، كأنما الحقيقة كامنة في النظر إلي الإنسان بعين التبخيث والاحتقار
والعمومية والتنميط، وليس النظر إليه بوصفه فردا مخصوصا، له وجهة نظر بحاجة إلي
التعرف عليها وإظهارها بعيدا عن الشائع العام، كما علمنا الأدب الحقيقي..
يظن توفيق ضمنا أن الفرد وحدة لا قيمة له، إلا بموقعه ومكانه
وزمانه، فهو وحده لا يشكل عالما صغيرا، انطوي فيه العالم الكبير، وإنما هو واحد
فرد بلا قيمة، وهكذا تصير روايات توفيق التجلي الزاعق لاحتقار الإنسان، وازدهار
الشفقة عليه، وبالأخير تسييد النظرة البيلوجية النمطية له..
إن مسمي الجماهير ماهو إلا مجموعة من التصورات المتجاوزة للفرد، لا
تعرفه، وإنما تصمه بالتنميط والعموم، كأنه مثله مثل غيره، ينطبق عليه ما ينطبق علي
غيره، الفرد إذن مطمور في الجمهور، في الأفكار العامة السهلة، التي يمكن للناس
جميعا تصورها لسهولتها وغموضها أيضا.
ومن ثم يمكن للكاتب توفيق، اللي بيعرف يكتب قصص وروايات ويملك
الوقت لذلك أن يستخدم تلك الافكار العامة، وكتابتها قصصا وروايات بوصفها هي
الإنسان الفرد نفسه!! لذا، ولذا فقط، يقدم توفيق معرفة زائفة عن الفرد في رواياته،
فلا يري الفرد فيها نفسه الخاصة الفريدة، وإنما نمط سلوكي قهري مفروض عليه من علٍ،
مثله مثل الآخرين.
إن توفيق يكتب الشائع المستقر الخرافي في الفرد، بوصفه الفرد نفسه،
وليس جزءا منه، فكأنما الفرد إناء يأخذ لون السائل الموجود فيه، ثمة الجميع فحسب،
ولا فرد واحد، سوي الكاتب توفيق، الذي صار بدوره لا فرد، لا أحد وإنما صوت وبوق
للكل، للشائع الأسطوري السحري الكامل، للحقيقة المتوهمة لدي الكل عن نفسه وأفراده.
هكذا ولأكثر من أربع مائة كتاب ألفها توفيق لا تعدو كونها نفايات
اعيد تدويرها، هي روايات تقليدية فجة خشنة بعبلها، فتوفيق يكتب كما يتكلم، فهو
شفاهي الطابع، لكنه مع ذلك ليس حكاء ماهرا، كأي راوٍ شعبي، وإنما هو يكرر الكلام،
والجمل، والمقاطع، ويستظرف حينا، ويتساخف آخري، ويتثاقف مرات، ذاكرا شيئا من
الفلسفة والتاريخ بلا داع ولا ضرورة سردية، ولا يعرف التأنق السردي ولا الجمال
الخاص ولا الفن الحقيقي الذي يتكشف فيه الفنان نفسه، وذلك لظنه أنه رسول الحقيقة
إلي الجماهير العريضة المحرومة المتلهفة عليها، هكذا ببساطة وسذاجة لا يحسد عليها
أبدا.
0 تعليقات