آخر الأخبار

فضاء النقد: هؤلاء الرواد الثلاثة، لماذا اختفوا؟

 

 


 

مصطفى نصر

 

 

هذا العنوان ليس من عندي، وإنما هو عنوان مقال كتبه أستاذي – وابن مدينتي الإسكندرية – محمد جبريل، قرأته أول مرة في عدد من أعداد مجلة البيان الكويتية، وأعجبت به كثيرا، فمحمد جبريل ليس مجرد روائي أو قصاص، يكتفي بكتابة القصة والرواية، وإنما هو مؤسسة ثقافية متنقلة، كلما زرته في بيته بمصر الجديدة، وجدته منغمسا في كم هائل من الكتب، يقرأها ويحلل ما فيها.

 

شدني مقاله " هؤلاء الرواد الثلاثة، لماذا اختفوا؟"، وقررت أن أكتب عنه، لكن – كعادتي – تاهت مني المجلة، وكلما تذكرتها، أعدت البحث عنها، فاتصلت بمحمد جبريل وسألته عن هذا المقال المدهش، فدلني على الكتاب المذكور فيه المقال وهو " قراءة في شخصيات مصرية " الصادر عن كتاب الثقافة الجديدة في أكتوبر 1995، ويتناول مجموعة من كبار كتابنا: أحمد بهاء الدين وتوفيق الحكيم وجمال حمدان وحسين فوزي وزكي نجيب محمود وسيد عويس وعبد المحسن صالح ويحيي حقي ويعقوب صنوع ويوسف أدريس ويوسف الشاروني، ويتناول حياة ثلاثة من الرواد، ( مصطفى ممتاز وأحمد زكي مخلوف وعادل كامل ) فقد توقع الكثير لهم الاستمرار والتميز، فإذ بأشياء تبعدهم عن الصدارة والقمة، وترميهم في زاوية النسيان، ما شدني لهذه المقالة العجيبة أنني قابلت الكثير ممن توقعت أن يسودوا ويلمعوا، ويصبحوا نجوما، فإذ بهم لا يحققوا شيئا يذكر، فما هي الأسباب؟

 

هل السبب ما قاله بلزاك: " في مجال الإبداع الفني، إما أن تكون ملكا متوجا، أو تكون صعلوكا ذليلا، فلا يوجد بين بين؟! "

 

فطبقا لمقولة بلزاك، في كل جيل يلمع كاتب أو فنان، والباقي يقومون بدور الوصيفات للملكة. فقد لمع وليم شكسبير وكان في عصره كتاب كبار أمثال: توماس كيد وكريستوفر مارلو وجون جونسون وغيرهم، نبوغ وليم شكسبير خبا ضوءهم، فلم ينل الحظوة والمكانة سوى شكسبير.

 

وعندما اكتشفت أبو فراس الحمداني، ذهلت من براعة أشعاره وعذوبتها وإتقان صناعتها، لكن حظه السيئ أوجده في عصر عملاق اسمه أبو الطيب المتنبي، فحصل وحده على كل الضوء، وترك أبو فراس الحمداني في زاوية النسيان.

 

وأنا شديد الإعجاب بمحمود حسن إسماعيل، وأفضل شعره على شعر حافظ إبراهيم وعلي محمود طه، لكن حظه العاثر جعله يصدر كتابا في مدح الملك فاروق، وتقوم ثورة يوليو 52، وهذا الكتاب معروض لدى الباعة، فيه صورة ومدح لفاروق- العدو الأول للثورة الفتية القوية - فيؤثر هذا على محمود حسن إسماعيل، فتزداد أزمته ويزداد إبعاده عن مشهد الصدارة.

 

00

 

كان مصطفى ممتاز أستاذا لتوفق الحكيم في المسرح. فقد اشترك معه في ترجمة مسرحية " غادة ناربو " عن الفرنسية وقدمتها فرقة عكاشة باسم " خاتم سليمان " في 21 نوفمر 1924، وكان اسم مصطفى ممتاز، قبل اسم توفيق الحكيم. فقد كان وقتها هو الأهم والأشهر.

 

لكن الحكيم سافر إلى فرنسا، وتطورت أفكاره، وتغيرت أحلامه، وظل مصطفى ممتاز على حاله، بل رفض التطورات التي أحدثها الحكيم للمسرح، ومازال يعجب بكتابات الحكيم القديمة. وهذا الوضع يذكرني بأبطال البرنامج الإذاعي الشهير " ساعة لقلبك " فقد قدم نجوما للضحك، بعضهم كان وقت إذاعة البرنامج هم الأفضل والأشهر: مثل: رشاد وبيجو وأبو لمعة ودكتور شديد، وعندما بدأت مسارح التلفزيون، واستعان بهؤلاء النجوم، لمع بعض من كانوا الأقل وقت إذاعة البرنامج، مثل المهندس ومدبولي وأمين الهنيدي ومحمد يوسف وعبد المنعم إبراهيم، وتوقف البعض، فقد عجزوا على الاستمرار على خشبة المسرح.

 

وكتب أحمد زكي مخلوف روايته " نفوس مضطربة " التي أصدرها عبد الحميد جودة السحار في مشروع لجنة النشر للجامعيين، وكانت تمثل تفوقا بالقياس إلى الروايات التي صدرت في فترة، أوائل الأربعينات.

 

وكان مخلوف صديقا لنجيب محفوظ، وأحد أفراد شلة الحرافيش، وعمل أستاذا للغة الإنجليزية في إحدى الجامعات السعودية، وكتب رواية ثانية، لكن المشرفين على النشر، اعتذروا عن نشرها لوجود عبارات جنسية فيها، فاكتفى بهذه الرواية التي لم تطبع، وكف عن الكتابة.

 

وقد عاصرت في بداية حياتي الأدبية أديبين أثرا فينا تأثيرا بالغا هما: محمد إبراهيم مبروك ومحمد حافظ رجب، وطلبنا من مديرة الثقافة في هذا الوقت استضافة محمد إبراهيم مبروك في ندوة بقصر ثقافة الحرية لمناقشة مجموعته القصصية التي أحدثت ثورة وقت نشرها " نزف صوت صمت نصف طائر " وجاء إلى الندوة، والتففنا حوله، ومازلت أذكر مقولته عن أمه التي كانت تربي كتاكيت على السطح مع الكثير من سيدات البيت، فتختلط كل الكتاكيت، وعند المغرب تصعد كل امرأة لحبس كتاكيتها، فتحدث بفمها نغمة معينة، فتأتي الكتاكيت ناحية الصوت المميز. وطالبنا بأن نفعل كما تفعل أمه، أن يكون لنا صوتا مميزا، لا يتشابه مع أحد، ولا نكرر ما كتبه الأسبقين.

 

وجاء مبروك إلى الإسكندرية، عمل موظفا في هيئة الكتاب بشارع سعد زغلول، وابتعد تدريجيا عن القصة القصيرة، واتقن اللغة الأسبانية، واستطاع أن يترجم بها روايات كتاب أمريكا الجنوبية المرموقين.

 

وعاد محمد حافظ رجب من القاهرة، بعد رحلة لم يستطع فيها أن يتأقلم مع المجتمع الثقافي القاهري القوي والعنيف، وعمل موظفا في المتحف اليوناني الروماني، وتبادلنا كتبه: الكرة ورأس الرجل ومخلوقات براد الشاي المغلي وغرباء. وحلم كل منا بأن يكون محمد حافظ رجب في المستقبل، وكانت مديرة الثقافة تعرض عليه قصصنا، ليختار الناضج والصالح منها، فقد كان مستشارها في مجال القصة. وابتعد محمد حافظ رجب تدريجيا، أرسلتني مديرة الثقافة يوما، لكي أبلغه بأن مؤتمر أدباء الأقاليم سيكرمه في الإسماعيلية، فقال لي: لا يمكن أن اترك الإسكندرية.

 

وقال مرة أخرى إن كتابة القصة لا تساوي عنده قيمة كوب الشاي الذي يشربه وقت كتابتها. وفي مؤتمر القصة القصيرة الذي أقامه المجلس الأعلى للثقافة، تمنيت أن يكرموا محمد حافظ رجب، فقد كان هو الأحق، لكن شهرة زكريا تامر، جعلت الكثير يدافع عنه، فحصل عليها، ومازلت أؤكد أن محمد حافظ رجب كان هو الأحق بالجائزة.

 

ولنعد لمقالة محمد جبريل هؤلاء الرواد الثلاثة، لماذا اختفوا؟ فيذكر أن ثالث الثلاثة هو عادل كامل، صاحب مليم الأكبر، وروايته البديعة ملك من شعاع عن إخناتون، فهو أيضا صديقا لنجيب محفوظ ومن أفراد شلة الحرافيش، وكان يعمل بالمحاماة، ومشكلة عادل كامل مشكلة أعرف أن كثيرين قد عانوا منها، هي أن يجدوا مهنة تغنيهم عن معاناة الأديب المالية في مصر، فيقول عادل كامل عن مهنته المحاماة بأنها مصدر رزق، أما الإبداع فقد يحتاج لأن ينفق عليه صاحبه، وكثيرون استطاعوا أن يضحوا بمواهبهم وحبهم للكتابة ويتفرغوا لأعمالهم البعيدة عن الفن.

 

أقرأ أحيانا مقالات تدعي أن معاناة الأديب تفيده في كتاباته، طبعا كُتاب هذه المقالات يعيشون في وهم سخيف، فالكاتب الكولمبي الأشهر جابريل جارسيا ماركيز؛ كان يضبط جهاز التكييف في الحجرة التي يكتب فيها إلى درجة تريحه في الكتابة، بينما أعرف مواهب كثيرة ضاعت بسبب معاناة الحياة، فقد قابلت كاتباً مسرحيا سكندريا موهوبا، فرضت عليه زوجته وحاجته إلى المال أن يعمل عملا أضافيا يعود منه بعد منتصف الليل، فينام دون أن يقرأ أو يكتب كلمة، وابتعد عن الحركة الثقافية وانتهى، وآخر كان مبشرا في كتابة القصة القصيرة، لكنه عمل في شركة استثمارية يعمل فيها منذ الصباح وإلى الليل، فمن أين يجد الجهد والوقت ليقرأ أو يكتب؟!

وقد كنا في لاتيليه الإسكندرية في لقاء مع الكاتب محمد المخزنجي، ووقف زميلنا علي كرار، وقال إن دولة الكويت استقطبت محمد المنسي قنديل ومحمد المخزنجي ومحمد مستجاب، لكي تحرم مصر من مواهبهم الواضحة والنادرة، فقال له المخزنجي:

 

- طيب قول إن ظروف مصر الاقتصادية أدت إلى أن نلجأ للعمل في الكويت.

 

وعندما قرأت مذكرات سكرتير أحمد شوقي- أمير الشعراء- تمنيت أن أكون في ثراء شوقي، فقد أعانته حالته المالية المزدهرة على أن يكتب ما يريد، فكتب في مجالات متعددة.

 

وكذلك فعل محمد ومحمود تيمور ووالدهما أحمد تيمور وعمتهما عائشة التيمورية؛ فقد ساعدتهم حالة الرخاء والغني التي يعيشون فيها على أن يكتبوا ويبدعوا في مجالات كثيرة.

 

بينما الشاعر حافظ إبراهيم في حاجة إلى وظيفته لينفق على أسرته، فلم يعط لشعره العناية الكافية، ولم يهتم بجمعه ونشره. ويحكي الدكتور محمد الدسوقي – سكرتير طه حسين في كتابه: " طه حسين يتحدث عن أعلام عصره ":

 

وقد أنشدنا حافظ إبراهيم في جمع من الأدباء والساسة قصيدة مطلعها:

 

قد مر عام يا أميم وعام وابن الكنانة في حماه يضام

 

وكانت القصيدة نقدا لاذعا للحياة السياسية في البلاد، فقلت لحافظ:

لماذا لا تنشر هذه القصيدة؟

 

فقال: أخاف أن أحال على المعاش.

 

ويقول طه حسين في هذا الكتاب: لقد قاسى حافظ كثيرا في حياته وكان الأمام محمد عبده يعطف عليه ويعطيه كل شهر مبلغا من المال، كما كان يعطف عليه كذلك سعد زغلول.

 

رجل يعيش في هذه الظروف الصعبة؛ فكيف سيفكر في الشعر وفي جمعه ونشره، وأولاده في انتظار المال الذي سيشترون به طعامهم وكساءهم؟! فعباس محمود العقاد مثلا، لو كان غنيا لأعطى للمكتبة العربية أكثر مما أعطى.

 

هذا الموضوع مازال معلقا، فهناك أشياء كثيرة تعيق مسيرة الكاتب أو الفنان، وقد كان نجيب محفوظ صادقا للغاية عندما أرجع سبب نبوغه وحصوله على نوبل لطول السنوات التي عاشها، بالنسبة للكثير من أقرانه، فطول العمر وقصره له دخل في النجاح والنبوغ، فلو عاش سيد درويش سنوات أكثر لحقق نجاحا أعظم وأقوى، وربما أحد زملاء نجيب محفوظ لو أطال الله في عمره لحقق ما لم يحقق نجيب محفوظ من شهرة ونبوغ.

 

إرسال تعليق

0 تعليقات