محمود جابر
قليلون هم رهبان الوطن، وقليلون هم الذين يحبون أن يتوارون على الصورة وقلب
المشهد، رغم أنهم المشهد نفسه، والصورة ذاته، ورغم أنهم قطب الرحى، وصانعو الأحداث،
المتجردون عن المطامع والمصالح فهم حقا رهبان فى محراب الوطن الحقيقيين.
هذه الكلمات تنطبق انطباقا كليا على الراحل العظيم محمد حسين طنطاوى،
الضابط المصري العظيم، والذي – من سوء الحظ- لم ألتقيه يوما وجها لوجه، ومع هذا
كنت اعرف أخبار من داخل مكتبه من خلال شخص قريب منه وعلى صلة وثيقة به .
من تلك المواقف التى عرفتها عنه، وقوفه لدكتور نظيف فى اجتماع مجلس الوزراء
وقت أن كان وزيرا للاتصالات، وكان يقوم بتحديث بنية الاتصالات وتبديلها من تقنيات وأجهزة
فرنسية إلى أمريكية، واقترح على وزير الدفاع تغير أجهزة الاتصال فى وزارة الدفاع
إلى أجهزة " انتل" الأمريكية، فما كان من طنطاوى إلا أن خرج عن برتوكول
الاجتماع وطرق بيده على مائدة الاجتماع فى حضور الرئيس مبارك وقال له : الجيش خط
احمر ولا تدخل نفسك فيما لا يعنيك وأنا بحذرك !!
كما أدرك منذ اللحظة الأولى لاجتماع المجلس العسكرى حين اجتمع بهم الراحل
واقسموا على كتاب الله تعالى ان ما يدور داخل هذا يبقى فى إطار السرية ولا يتم الإعلان
إلا عما اتفقوا على إعلانه وتبقى باقى الحقائق للتاريخ حرصا على هذا الوطن .
فطنطاوى بطل المزرعة الصينية فى حرب أكتوبر والذى خاض معركة مع جيش العدو
الاسرائيلى، تلك المعركة التى بدأت فى منتصف اكتوبر حينما سلط العدو طائراته
ومدفعيته الثقيلة على الكتيبة 16 التى كان قائدها وقتئذ ولكن طنطاوى نفذ تكتيكا
عسكريا مكنه من الانتصار على العدو بتكتيك عسكرى غير مسبوق مما جعل علمية الفرقة
16 وقائدها محل درائة فى كل الأكاديميات العسكرية والإستراتيجية ووفق لوصف
المتخصصين فان تلك الكتيبة تحملت عبء اكبر معركة فى تاريخ حرب أكتوبر واستطاع
طنطاوى من خلالها ان يسجل اسمه فى سجل عظماء العسكرية فى العالم رغم انه كان يحمل
رتبة مقدما ولكن لقن العدو درسا لا ينسى .
هذا القائد العسكرى الفذ والذى ترقى داخل مؤسسة القوات المسلحة المصرية حتى
أصبح قائدا لها، أدرك ان جهاز الحكم يتعرض لمخاطر عديدة ليس أعظمها شهوة توريث
الحكم ولكن الاختراقات والصراع على السلطة داخل القصر والذى ظل حبيس الجدران ولكن
له صدى، هذا الصدى تعاظم من خلال خروج الناس فى 25 يناير 2011، ورغم ان الشوارع
والميادين لم تكن بالحجم الذى يسمح بسقوط سلطة مبارك، او تنحيه، وكان مبارك
وحكومته يتكأ كليا على جهاز شرطة قوى وقادر على الفتك بالمعارضين والثوار فى
الميادين والشوارع وهو ما حدث فعلا فى يوم 25، ولكن القوات المسلحة التى كانت تدرك
ان الفصائل المندفعة فى الشوارع غير قادرة على إزاحة السلطة، فأكثرهم يفتقد لتنظيم
سياسى وجماهير، وقدرة على استدامة الحراك او الثورة او التظاهر، الا من تنظيم واحد
ووحيد وان تركه فيه مخاطرة على الوطن، ولكن بقاء النظام بحالة ووضعه هو الاكثر
خطورة فما كان منه ومع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ان أرسل يوم 28 يناير رسائل
على هواتف المصريين بان المجلس الاعلى فى حالة انعقاد دائما ويطمئن المصريين على
امن البلاد ..
المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو الذى أعطى لجموع الشباب غير المنظم فى
كيان او كيانات سياسية زخما لحركتهم السياسية حينما نزلت الآليات العسكرية فى
شوارع المدن والميادين وقد كتب عليها شعار ( الجيش والشعب أيد وحده)، وعبارة أخرى
( يسقط مبارك )، فالجيش لم يكن يوما محايدا لمشروع التوريث الذى كان يجرى على قدم
وساق، وبما انه مؤسسة عريقة فما كان منه ان يتدخل فى المشهد السياسى دون انتظار
اللحظة المناسبة لازاحة كل هؤلاء عن المشهد السياسى، وتعامله بدعم والمساندة لا
يستطيع عاقل ان ينكره.
وبعد رحيل مبارك، بساعات كان بعض
من قادة المجلس العسكرى يحدثون المشير طنطاوى مبتدئين حديثهم بكل (( يا ريس) بدلا
عن كلمة ( يا فندم) فى دلالة على ان الجميع يدفعون طنطاوى لتسلم منصب رئيس البلاد
المؤقت او الدائم من خلال انتخابات بدلا من منصب وزير الدفاع ورئيس المجلس
العسكرى، فنبههم طنطاوى ونهرهم وقال بشكل قاطع إنا لست رئيسا لمصر ولن أكون، وبذلك حسم طنطاوى خياره بان انحيازه فى
البقاء على الدولة المصرى وان يبقى الجيش على مسافة بينية – ليست مسافة بعيدة- من
السلطة وانه ليس له اى رغبة فى السلطة.. أى انه رفض ان يكون رئيسا لمصر لا بشكل
مؤقت ولا بشكل دائم..
الظروف وطبيعة الثورة وعدم وجود
كيانات منظمة والمخاطر التى كانت تحيط بمصر حتمت ان يؤول السلطة الى جماعة الإخوان،
ولم يكن فى الأمر ثمة صفقة أو اتفاق ولكن طبيعة الأمور آلت الى ما آلت اليه، ولكن
فى اللحظة الحاسمة التى فرضت انحياز المؤسسة العسكرية التى تعاملت مع الرئيس
الجديد – مندوب مكتب الإرشاد- بكل إخلاص وصدق ومراعاة المهنية والدستورية، هذه
اللحظة هى ما فرضت على المؤسسة العسكرية أيضا ان تنحاز الى الشارع المصرى ضد جماعة
الإخوان ومندوبها، ولم يكن الامر بعيد عن فكر وروح وطريقة طنطاوى فى التعامل مع
الحدث على الرغم من ان الرحل كان قد خرج من الخدمة بقرار من محمد مرسى ولكن تلميذه
عبد الفتاح السيسى وزير الدفاع الجديد تعامل بانحياز بالغ مع الشارع المصرى، حتى
تم انجاز ثورة 30 من يونيه، هذا جزء من شهادة حق فى حق الرحل العظيم المشير محمد
حسين طنطاوى وان كان الحديث فى هذا الموضوع يحتاج لكلام كثير ربما تمنحنا الأقدار
وقتا لانجازه حفظا للذاكرة المصرية من عبث العابثين .
0 تعليقات