رأفت السويركي
كلما جاء الثامن والعشرون من سبتمبر/ أيلول تهتز القلوب حزناً
واعتزازاً؛ ففي هذا اليوم الحزين رحل جمال عبد الناصر الرمز والأيقونة التي ستبقى
في الذاكرة والوجدان للمصريين والعرب؛ خاصة من عرفوا من هو ناصر "حبيب
الملايين" كما راج واشتهر من الخليج إلى المحيط.
وفي هذا اليوم يذكرني فريق "فيسبوك" بما كتبته ولا أزال
أكتبه كلما هلت هذه المناسبة؛ والتي تتفاوت المشاعر حولها. من الحب الدافق القوي
لأبناء ثورة 23 يوليو 1952م؛ الذين كانوا نتاج مشروعها الهائل في مجانية التعليم؛
وخطابها الراقي في السياسة المقاتلة لنمط الاستعمار التقليدي؛ والاقتصاد
الجماهيروي في الاستصناع والاستزراع والعلم المتواكب مع تطوراته والثقافة الملتزمة
والفن الهادف والرياضة التربوية.
وكذلك من البغض الحقود لفئات من مغيبي العقول والوجدان الذين
تعلموا وكبروا واستفادوا بكل مشروع ناصر العملاق ولكنهم يعلنون كراهيتهم المريضة
لناصر؛ خاصة ممن ينتمون إلى جماعة حسن الساعاتي البناء الصهيوماسونية؛ والذين
تعرفهم الآن من "فساد القول" ؛ أو حسب التعبير القرآنوي الكريم ( ولتعرفنهم
في لحن القول)... لماذا؟ لأن ناصر تصدى لمشروعهم الفاسد إدراكاً منه لحقيقة هذا
التنظيم العامل في أروقة الاستخبارات البريطانية منذ التأسيس؛ ثم الاستخبارات
الأميركية إحدى أدوات الهدم للدولة الوطنية/ القومية؛ وجعلوا منه "طرزان
الربيع العبروي المتصهين".
*****
وفي هذا العام الذي تحل فيه الذكرى الحادية والخمسون لغياب ناصر
الجسد ويبقى الرمز؛ تجتهد الدولة المصرية/ (الجمهورية الجديدة) لإحياء الدور
المفقود؛ بعد أن فقدت مصر وزنها في المراحل السابقة التي تميزت بتآكل "دولة
العمال والفلاحين" بكل مدلولاتها السياسوية والاقتصادوية والثقافوية؛ ونشوء
"دولة الطفيلوية" في السياسة والاقتصاد والثقافة؛ ما جعل "مصر/
الكنانة" تابعاً في محيطها؛ بعد أن كانت قائدا؛ وأطيح بها إلى هوامش منطقتها
بعد أن كانت فاعلها المركزي.
إن ما فعله ناصر سابقاً، ومحاولة الدولة الراهنة إنهاض ذاتها وفق منهج
زمانها الذي يهيمن عليه" نهج العولموية" مرتبط بظاهرة "متلازمة
القيادة الحقيقية الوطنية"؛ وليست "القيادة المصطنعة" التي لا تدرك
"معنى مصر" كنانة الله في أرضه؛ فلا تكون بمستوى تحديات وجود "مصر
المركز والدور والقلب"؛ بعد أن تحولت بغياب الرمز والقيادة إلى مصر / مجتمع
العشوائيات والطفيليات، والتوحش الممتص لجهد أهلها؛ وتهيمن عليه ثقافة الماضوية
الكهوفية السياسوية في العقيدة؛ وتواكلية المسلك في تسيير الأمور، وسيادة قيم
الارتشاء؛ وفساد بيع الذمم تلبية لدافعية الاختلاس والاغتصاب.
*****
لذلك يأتي الثامن والعشرون من سبتمبر / أيلول من كل عام ليذكرنا
بالغائب/ الحاضر الكامن في عمق الذاكرة والضمير الوطني الأصيل؛ يذكرنا بيوم
"غياب ناصر" الجسد وحضور الرمز؛ والذي نال ما ناله من حملات التشويه
وهدم حضوره مع تعرضه لجهود خارقة لطمس رمزيته الراسخة في الوجدان الوطني؛ لذلك
ترتفع صوره بأيدي أجيال لم تعش أيامه وتعرضت لحملات مخيفة من الجماعات السياسوية
الفاسدة حزبويا وعقدويا؛ والفعاليات الموتورة ابنة ضمير إقطاعيات الريف وخُدَّام
القصور .
جاء الثامن والعشرون من سبتمبر / أيلول ليذكرني فريق
"فيسبوك" بقصيدتي في "رثاء جمال عبد الناصر" التي ألقيتها
وأنا الشاب "ابن العشرين عاماً" في ذكرى الأربعين بـ "دار
الأدباء" بالقاهرة في يوم 8/9/1970 م ضمن احتفالات تأبين ناصر؛ واقفاً على
المنبر مع كبار شعراء الأمة العربية، الذين شعروا مع كل جماهير العروبة بالفجيعة
لغياب ناصر عز الأمة وروحها وعنوان كرامتها، ناصر الذي كانت الأمة العربية تنتظر
بلهفة كلماته وخطاباته، وخطفه الموت بغتة من فضائه العميق من الخليج إلى المحيط.
*****
وقفت شاباً لأكون صوتاً يمثل شباب "ثورة يوليو" العظيمة،
في مهرجان احتضن أصوات شعراء الأمة الكبار الذين شاركوا في مهرجان تأبين ناصر على
مدى يومين، ومنهم صلاح عبد الصبور من مصر وهارون هاشم رشيد من فلسطين وأحمد رامي
من مصر وَعَبَد المنعم الرفاعي من الاْردن وصالح جودت من مصر وإبراهيم عمر الأمين
من السودان وسلامة عبيد من سورية وَعَبَد الرحمن صدقي من مصر وسليمان ابراهيم
المشيني من الاْردن وعلي الجندي من مصر ومحمد احمد المشاري من الكويت ومحمود حسن
اسماعيل من مصر ومحمد حبيب صادق من لبنان وأمل دنقل من مصر وَعَبَد اللطيف حسين من
ليبيا ومحمود غنيم من مصر وإبراهيم الحوراني من اليمن ومحمد مصطفى الماحي من مصر
والدكتورة الشاعرة طلعت الرفاعي ومحمد أبو دومة وأحمد سويلم ومحمد الجيار وخليل
جرجس خليل وروحية القليني وفؤاد بدوي وكامل أمين وخليل الليثي ومحمد حجازي والعديد
العديد من شعراء مصر، كل منهم يرثي ناصر بشعره، فكانت قصيدتي بعنوان:
" صـلاة أمـام قبــره"
قُمْ بِمِصًر وَكذِّب الْأَقْوَالا
وتحدَّ الفَنَاءَ وَالْأَهْوَالا
يا رَسُوْلَ السَّلام كَيْف افْتَرَقْنا
يَا حَبيْب الجُمُوْع انْهض تعال
واحتضن شعبك الحزين بحب
الأب واخلق مصانعاً ورجالا
قم بواديك يازعيمي خطيباً
يا حبيباً مضى يشد الرِّحالا
دمِّر القبر وانتفض من عِقالٍ
حَرَمَ الشعب روحَه والجَلالا
وتجرَّدْ من كلِ موتٍ حقودٍ
دسَّ في مِحْجَريْك لَيْلاً تَوَالى
وتحرَّكْ فإن شعبــاً وفيـــــاً
دمعُهُ الآنَ لمْ َيَزلْ هَطَّالا
قُلْ لهم: لم أمتْ أَنَا لَمْ أَزَلْ حَيَّاً
لكمْ فاثبتوا إذا الليلُ طَالَ
أيها السادرون في الحُزْنِ مَهْلاً
إنَّني مِثْلَما الضِّيَا يتوالى
فدَعوا الأدَمْع الثَّواكل وامْضوا
للأعـالي فيالقاً... أجْيَالا
كُنتَ صُبْحَاً مًبَارَكاً بَعْثُه لَمْ
يَشْهَدِ الشَّرْقُ مثْله فعَّالا
عَرِفَتْك الشُّعُوْبُ فَجْراً تَجَلّى
وجَسُوْرَاً ومُبْدِعَاً صَوَّالا
فَحَمَدْنَا الإلهَ خَيْرَ ثَنَاءٍ
وَشَكَرْنَاهُ أنْ حَبَانا جَمَالا
واتَّبعْنَاكَ قائِداً خَالِدَاً لا
يَنْثَنِي للصِّعَابِ فذَّاً مِثَالا
وافْتَقَدْنَاكَ مُهْجَة وفُؤادَاً
وَسِرَاجَاً ومِشْعَلاً وهِلَالَا
وَمَشَيْنْا شِعَارنَا: بالدِّمَا والرّوْحِ
لا بُدَّ أنْ نَسِيْرَ عِجَالا
وَحَلِفْنَا نُحَقِّقَ النَّصْرَ حَتْمَاً
وَحَلِفْنَا نُحَطِّمَ الْأغْلالا
لَنْ تَطِيْبَ الْحَيَاة إلَّا بِنَصْرٍ
وَاثِق الْخَطْوِ يَدْحَر الْإحْتِلالا
كَذَبُوْا حِيْنَمَا ادَّعَوا كلَّ زُوْرٍ
حَسِبُوْكَ انْتَهَيْتَ لَا... ألْف لَا... لَا
أنْتَ حَيٌّ مُخَلَّدٌ وَكِفَاحٌ
كُلَّمَا أَنْكَرُوْه... زَادَ جَلَاَلا
أنْتَ مِصْرٌ، وَمِصْرُ قَاهِرَةُ الْأَزْمَانِ
فَانْهَضْ وَكَذِّبِ الْأَقْوَالَا
----------------------------- شعر: "رأفت السويركي"
القاهرة ــ 28/9/1970م
0 تعليقات