أبانوب نصحي
يمتلك الكاتب اللبناني الدكتور محمد طعان قدرة مذهلة عن الكتابة
بقوة عن عدد من البلدان وكأنه احد أبنائها ..ففي روايته " سيد بغداد "
تدور الأحداث في العراق حيث ينجذب جندي أمريكي إلي الاحتفالات الشيعية ويجد سلامه
المفقود من اثر الحرب فيها .
وفي روايته لاجئو بيشاور يوثق طعان جرائم وصراعات القاعدة وطالبان
في أفغانستان .
وعن الحرب الأهلية في
موطنة يكتب نيوفيلا "الخواجة " بمهارة واختلاف عن كل ماكتب عن هذه الحرب
من خلال تتبع سردي مدهش لاسرة مارونية .ليصل قلمه هذه المرة الي مصر فيكتب روايته
الجديدة تحت عنوان " إنها غلطة فلوبايير " الصادرة مؤخرا عن دار الثقافة
الجديدة . ولان العنوان هو عتبة النص ومدخله .فلابد من توضيح الغموض الذى قد
لايجذب القاريء لهذه الرواية الممتعة فالعنوان يقصد الروائي الفرنسي جوستاف فلوبير
(12 ديسمبر 1821 - 8 مايو 1880)، الذى درس الحقوق، ولكنه عكف على التأليف الأدبي.
وقد أصيب بمرض عصبي جعله يمكث طويلاً في كرواسيه. كان أول مؤلف مشهور له: هو «
التربية العاطفية » 1845)، ثم « مدام بوفاري » 1857 التي تمتاز بواقعيتها وروعة أسلوبها،
والتي أثارت قضية الأدب المكشوف. ثم تابع تأليف رواياته المشهورة، منها: « سالامبو
» 1862، و« تجربة القديس أنطونيوس » 1874، وقد كانت علاقته بكاوتشوك هانم دعته إلى
السفر إلى مصر ومنها إلى إسنا وقد التقاها بالقرب من خان الشناقره أو وكالة شنقير
ومعبد اسنا. وبعيدا عن شهرة ومشاكل روايته مدام بوفاري التى ذهبت به الي المحكمة
يقدمه طعان في روايته كشخص مثلي .يزور مصر وقت حكم عباس حلمي الثاني ويقول طعان ان
علاقة كاوتشوك هانم بالكاتب فلوبايير هي التى قادته للكتابة "لم أكن أتوقع
وأنا أقرأ سيرة حياة كوتشوك هانم (العالمة المصرية في زمن عباس حلمي الأول) أنني
سأكتشف مشروع رواية.
فهذه الراقصة يفترض أنها من أجدادي (تخلى والد جدي عن كُنْيَة
كوتشوك واستبدلها بطعّان).
قراءة سيرتها فتحت أمامي ملف لم أكن انتظره.. سـيرة عباس حلمي
الأول حفيد مؤسس مصر الحديثة محمد علي باشا والذي بسبب اكتشافه لأطماع الفرنسيين
والغربيين عامة في مصر (خاصة شق قناة السويس) عمد إلى عزلهم عن المحروسة في مطلع
حكمه الذي لم يدم أكثر من أربع سنوات.
ولقد اكتشفت كم أن عباس الأول (باني مقاميْ سيدنا الحسين والسيدة
زينب) كان صاحب تعلق بأهل بيت الرسول ﷺ من جهة وبإصلاح مصر من جهة
ثانية.
ولكن الفرنسيين ناصبوه العداء وسودوا صورته حتى غفل كُتاب التاريخ
عنه.
ثم من يكتب التاريخ سوى القوي المسيطر يعني في هذه الحالة
الفرنسيون.
آمل أن تكون هذه الرواية رد اعتبار لهذا الإنسان المظلوم. فالرواية
تبحث من خلال شخصية عباس عن مثالية الحكم باحثا عن العدل وتحقيق صورة الحاكم
العادل منذ توليه حكم الغربية ورفضه لأعمال السخرة التي كان ينتهجها جده مؤسس مصر
الحديثة محمد على الكبير ورغبته في إلغائها وهذا ما هاجمه جده بشدة متعللا بما
يقدمه لتركيا وما تطلبه الحروب وأهمها الحرب علي الوهابية ببلاد الحجاز ويتطرق
الكاتب نظرنا إليه هو علاقة عباس بقبائل البدو وهو ما كان يتوجس منه محمد على حين
يقول له «أرى أنك لاتزال تحتفظ بصلات بقبائل البدو هناك آمل أنك لم تخضع للوهابيين
منهم»، ورغبة عباس في أن يكون واليا صالحا جعلته يبحث عن نموذج ومثال اعلي يقتدي به
وهو في الرواية نموذج الخليفة الراشد علي بن أبي طالب ولذلك يبحث عن نظام حكمه
الرشيد في وثيقته لمالك الاشتر التى قدم خلالها قواعد وأصول هذا الحكم .وعلي هذه
الزيارات الي التاريخ تسير الرواية في خطوط متوازية بين حياة فلوبير وحياة عباس
حلمي الأول .
وهنا يختفي السارد محمد طعان ليظهر كاتب يعشق تاريخ مصر .ويقدم
محاولات لإنصاف عباس الباحث عن العدل والمعمر الذى يبني مقامات ال البيت السيدة
والحسين .في رواية مثيرة للاهتمام خاصة ان هذه المنطقة من تاريخ مصر الحديث لم
تطرق لها الروايات الأمر الذى يسلط الضوء بشكل غير مباشر عن ثراء ما تملكه مصر من
خيوط عديدة وأحداث غامضة تصلح لبناء العديد من الروايات في هذه الأجواء الغريبة
والشيقة .وأيضا غير المتداولة علي نطاق واسع .وبذلك تحقق رواية " غلطة
فلوبايير " من خلال سرد يمتد علي 263 صفحة نموذج لما يعرف بالرواية التاريخية
والتى تدمج بين وقائع تاريخية من ناحية وخيال حي .ومحاولة لتقديم زاوية جديدة
لحاكم مصري تم تجاهله واغفال دوره التاريخي في محاولة روائية لرد الظلم عنه .وان
كان عنوان الرواية قد يقف عائق امام رواجها .فكان الأفضل ان تحمل عنوان يخص
الخديوي عباس ذاته .فكما ان الغلاف جمع صورة فلوبير والخديوي كان من الممكن ان
يجمعهما عنوان جذاب واقل غموضا .
0 تعليقات