ناجى عباس
قبل سنوات، لبيت دعوة كريمة لحضور حفل زفاف نجل أحد الأصدقاء الأعزاء،
والذي كان حينها يشغل موقعاً مهماً بجوار الرئيس الأسبق حسني مبارك.
في تلك الليلة - ولأسباب تتعلق بالحرام والحلال، والفرق بين
المخدرات والخمور، دار جدل كوميدي للغاية على الطاولة التي نجلس عليها حول الفروق
الجوهرية للأحكام الأخلاقية والدينية على الخمور والمخدرات وخاصة الحشيش، أي الفرق
بين السُكر والونونة وحكم الشرع فيهما.. ولم أنس تلك الليلة ولا تلك المناقشة
الكوميدية حينها حتى اليوم.
منذ ذلك اليوم وحتى الآن وبحثي مستمر عن تاريخ تسرب الحشيش الى
مصر، وتعرف المصريين عليه كمخدر، وكيف ولماذا ومتى بدأ المصريون يغشون الحشيش
ويخلطونه بشمع غشيم وزبل معيز ويبيعونه للغشم ؟ ولم يكن بحثي بسبب أهمية المعلومة
التاريخية، بل لتفسير ما استعصى على فهمي من تصرفات وظواهر اجتماعية.. يتشارك فيها
الثري والمعدم، والمتعلم والجاهل، والمثقف والمتثاقف، والأمير والمأمور، والقارئ
والأمّي، والخلوق والمنحط.
وبالرغم من ولعي منذ أكثر من ثلاثين عاماً بقراءة كل ما يقع تحت
يدي من مؤلفات علم الاجتماع، قديمها وحديثها، من العرب والعجم، إلا أني لم أجد إجابات
على اسئلتي ولا تفسيراً للظواهر الاجتماعية الغريبة في مجتمعنا، وعلى استفساراتي
بشأن ما استعصى على فهمي، فأرجعت كل شيء في نهاية الأمر الى الحشيش وخاصة المضروب
منه، باعتباره المخدر الذي يفعل نفس فعل المسكرات من حيث ذهاب العقل، وفي نفس
الوقت يحلله عدد هائل من الشيوخ والاساقفة، بل ويتعاطونه بأنفسهم سراً أو علناً.
من تلك التساؤلات التي لم أجد إجابات عليها ولا تفسير لها ما اعتاد
المصريون بأغلبهم على ترديده بمبالغات شديدة تصل الى حد " ألوظة الذات"
وتصديق تلك المبالغات مهما كانت نتائجها الكارثية، فعلى سبيل المثال ما أن يدخل
الابن كلية ما كالحقوق فهو من فوره سيادة المستشار، وان دخل الطب فهو من لحظته
" الدكتور" وان كان في الهندسة فهو الباشمهندس، وان دخل الخارجية فهو من
ساعته معالي السفير، وان كانت الداخلية فهو سيادة اللواء… وهكذا ، بقناعة كاملة،
تدفعهم لاستعذاب الألوظة الى حد اللجوء لهؤلاء " الخبراء" من يومهم لحل
مشاكلهم القانونية والصحية والهندسية وغيرها، باعتبارهم مستشارين ودكاترة ومهندسين
!
" ألوظة النفس" في مجتمعنا لم يعد لها حد، ولا مستوى،
وبات يتساوى فيها الأغلبية من الكبار والصغار ، الأثرياء والفقراء، المتعلمين
والأميين على السواء ، وهذا أمر ليس مستجداً، بل قديم..وفي هذا تحضرني محاورة في
ساعة صفا مع الوزير الراحل - الصديق ممدوح البلتاجي رحمة الله عليه حول ذلك النوع
من الألوظة الذاتية بقرار شخصي، والتي فسرتها له حينها ببساطة بأن " الرئيس
حسني مبارك نفسه ألوظ نفسه مختاراً وبرضا كامل، وصدق نفسه، وبهت عليكم كلكم يا
سيادة الوزير، فحين تكونون إمامه فأنتم تلاميذ سكتم بكتم، وحين تكونون بين موظفيكم
فأنتم رؤساء وعمالقة وكل منكم ليث غضنفر ، تتحدثون كما يتحدث الرئيس وتأكلون كما
يأكل وتضحكون كما يضحك الرئيس وتغضبون بنفس طريقته ومصطلحاته وحركاته .. الرئيس
باهت عليكم.. وانتم ألوظتم أنفسكم وعاملين فيها مصدقين يادكتور، اقنعتم أنفسكم
بأنه أفضل منكم، وأنكم أفضل من كل من هم أدنى منكم، وهذه قمة الألوظة الذاتية..
لكن الحق مش عليكم.. الحق على اللي دخل الحشيش لمصر. ووافقني الوزير البلتاجي -
رحمة الله عليه - في ذلك وأكثر منه فيما يتعلق بحالة البهتان والألوظة الذاتية تلك
يقول عالم الاجتماع العراقي العملاق الدكتور على الوردي رحمة الله
عليه في كتابه القيم " مهزلة العقل البشري" كلّما ازداد الإنسان غباوة
.. ازداد يقيناً بأنه أفضل من غيره في كل شيء ".
سأظل أبحث عن التاريخ الحقيقي لتسرب الحشيش الى مصر حتى اعلم من
المسؤول عن حالة الونونة والدروشة والألوظة العامة التي بتنا ننام ونستيقظ فيها
تلك، والى حد التسليم الكامل بأن عصابة اراجوزات حزب الممبار باتت من يومها
"مستقبل وطن"، تماما كإكذوبة " العيال" الذين حولناهم في لحظة
الى مستشارين ودكاترة ومهندسين .
كفاية ألوظة عشان إحنا لبسنا في الحيط
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
0 تعليقات