آخر الأخبار

المقهى حين يكون برلماناً لحوارات المثقفين في انتظار كتاب " مقهى ريش... عين على مصر"!!

 






 

رأفت السويركي

 

 

حين طالعت إشارة صحافية بموعد صدور كتاب جديد للمبدعة والشاعرة والتشكيلية "ميسون صقر القاسمي" ابنة الإمارات وعربية الروح ومصرية الوجدان بعنوان " مقهى ريش... عين على مصر" غمرتني سعادة بالغة؛ ولهفة لتلقف هذا العمل الذي أتوقع أن يكون مؤلفاً متميزاً؛ جامعاً بين مهارة كاتبة متميزة؛ ورؤى مبدعة قادرة على التمييز بعين فنانة تشكيل بين العادي والجميل والغرابة والإدهاش؛ وباحثة تدقق في المرجعيات بتاريخها؛ ومنتجها الفكراني وثقافتها وعلمها الذي تتكئ إليه.

 

*****

 

"ميسون صقر القاسمي" ابنة بيت الحكم وعائلة الثقافة لا يمكن أن تفصلها عن سيرة أمارة الوعي؛ "الشارقة عاصمة الثقافة" في دولة الإمارات العربية بمعرضها الشهير للكتاب؛ ومنتدياتها الثقافوية وملتقياتها المتخصصة في شتى فنون المعرفة؛ ولا يمكنك إلا أن تربط بين اهتمامات ميسون صقر الإبداعوية المتعددة وبين تلك البيئة التي نشأت في مناخها؛ مع رحابة القاهرة التي وفرت لها المزيد من التألق المتعدد الأنواع.

 

لذلك حين التقطت خبر كتابها الجديد عن "مقهى ريش... عين على مصر" انسرب إلى ذهني إدراك ثراء هذا الموضوع الذي ستتعامل معه؛ وظللت استدعي من الذاكرة العميقة ذكرياتي الشخصانية حول هذا المقهي؛ ومشاهداتي له من الداخل عندما كنت أمارس الاستجمام السريع والتأمل البانورامي الخاطف لعوالم المثقفين من الداخل؛ وكذلك متابعاتي له من الخارج وأنا أمضي في طريقي لإنجاز مهمة خاصة لا تتيح لي إمكانية الجلوس.

 

*****

 

"المقاهي" أرى إليها باعتبارها اختزالاً يجسد أي مجتمع على كافة الأصعدة الثقافوية والاقتصادوية والسياسوية؛ وهي تعد شريحة بيئة واقعية لإدراك المؤشرات الحقيقية لدى دراسة أي مجتمع؛ ورصد أنماط مسلكيات النخب بشرائحها المتعددة؛ العليا والوسطى والشعبوية. كما تعد المقاهي منتجاً شعبوياً ممثلاً للبرلمانات غير الرسموية؛ إذ توفر بيئة الجدال والمحاججة لحاملي النظريات وأصحاب الإيديولوجيات وجمهور القناعات الوجدانوية من دون تصنيف.

 

"المقاهي" بصفة عامة بيئة غير محكومة بأية قوانين حاجبة للكلام المنسرب بسهولة وزخم مع الرشفات من أكواب الشاي وفناجين القهوة وأراجيل "الْمِعَسِّل"؛ فهناك المتكلم وهناك المستمع؛ وهناك المشاكس المتعصب لقناعاته والمستمع اللين؛ الذي يهز رأسه لتمرير القضايا كي لا يحتد من يناقشه.

 

والمقاهي "مَخْبَز" في ظروف مفصلية محددة لصياغة "أرغفة" خطاب سياسوي "متثورن" أو رافض لأوضاع معينة (ما تسمى أحداث الربيع أنموذجا)؛ لأن النخب داخلها تتحلق أو تتجمع لتتبادل الرأي والمعلومات؛ وتعمم تصوراتها تجاه المتغيرات أو الأحداث؛ بل وأحيانا صياغة الشعارات التي تمثل خطاب الحدث.

 

*****

 

لذلك تمثل "المقاهي" عنواناً مهماً في ثقافة الآخر الأوروبية والأميركية؛ وقد جرت الكتابة عنها هناك؛ ولكنها شحيحة الحضور في الثقافة العربية؛ على الرغم من أهميتها كمنافذ مهمة لدراسة الواقع وخطاباته؛ وقياس أوزان النخب الفاعلة بها. لذلك قلَّما يعثر القارئ أو المراقب على عناوين تعالج موضوعتها؛ ولكن تستحضر الذاكرة كتاب "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" الذي نقل خلاله رفاعة رافع الطهطاوي مشاهداته حول المقاهي والمثقفين في باريس.

 

وما هو قائم في أوروبا وأميركا كان متواجداً في المقاهي الشهيرة بالقاهرة خلال القرن الماضي؛ ويتربع "مقهى ريش" في قلب هذه الأماكن المهمة؛ التي جمعت عقل وضمير ولسان مصر والمصريين؛ منهم شيخ الرواية العربية نجيب محفوظ وشاعر النيل حافظ ابراهيم؛ وكامل الشناوي وصلاح جاهين ومحمود السعدني؛ و...و... إلخ من قمم الخطاب الثقافوي المصري. كما لا يمكن التغافل عن اعتبار هذا المقهى مكاناً رحباً لأصحاب العقل العربي مثل الشاعر عبد الوهاب البياتي ومعين بسيسو؛ ومحمد الفيتوري والعديد من أصحاب الإبداع العربي ضيوف مصر.

 

*****

 

في انتظار أن أسعد بمطالعة كتاب المبدعة "ميسون صقر القاسمي" المعنوان: " مقهى ريش... عين على مصر" الذي سيصدر قريباً؛ ليكون وفق منهجها الموثوق به كتاباً شاملاً لتاريخ العقل الثقافوي لمصر؛ وكاشفاً لفعاليات هذا "المقهى/ القاعة/ الساحة/ المنتدى" لعقول مثقفي مصر؛ وأن تكشف صفحاته عن الوثائق التي تنبي عليها تاريخية هذا المقهى ودوره. خاصة وقد ذكرت في تصريح صحافي أنها حصلت "على نسخة من وثائق مقهى ريش من مالكها مجدى عبد الملاك، وجاءت الفكرة عبر قراءتي لتلك الوثائق، وبدأت العمل منذ 2011 عبر مشروع كتابة إعلامية".

 

والجديد في معالجتها لتاريخانية "مقهى ريش" أنها وفق ما يبدو بمهارتها في الفن التشكيلي ستعالج التصورات الخاصة بمعمار القاهرة الخديوية؛ في ضوء أن ذلك المقهى تأسس في العام 1908 م على أنقاض "قصر محمد على" مجاوراً لميدان طلعت حرب بالقاهرة. وستكون رؤيتها تشمل تَعًانُق المكان والزمان بكل زخمهما السياسو/ثقافوي؛ والأحداث التي شهدهما مثل "ثورة "1919 م وما شابه.

 

والملفت للاهتمام أن غلاف الكتاب الذي قامت الشاعرة الفنانة ميسون القاسمي بنفسها بتصميمه يعطي الإيحاء الذكي لموضوعه: عبر "الصورة الفوتوغرافية" ذات الزمان القديم؛ حيث بعض رواده يجلسون على المقاعد. وقد منح اللون الأصفر الداكن البعد التاريخاوي العميق للغلاف؛ بعيداً عن استخدام فرشاة الرسم أو التلوين وممهوراً ببعض التوقيعات لرواد المقهى من المشاهير... وبحق يعتبر غلافا موفقاً.

 

*****

 

كتاب "مقهي ريش... عين على مصر" أتوقع أن يكون سفراً ثقافوياً بزخمه الثري؛ يتألق فيه عقل ووجدان الكاتبة المبدعة "ميسون صقر القاسمي" وهي تكتب عن قطعة من مصر بعيون عربية ووجدان إماراتي نعتز بها ونسعد.

 

 

 

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات