نصر القفاص
قبل أن تتهمنى بالخروج عن الأخلاق.. وقلة الأدب!!
أدعوك للهدوء لأن هذه الأوصاف تم نشرها فى "روز اليوسف"
قبل نحو مائة عام.. وكان المقصود بها هو الزعيم "مصطفى النحاس"..
والكاتبة هى "روز اليوسف" التى دافعت – وطالبت – بأن يكون "النحاس
باشا" خليفة للزعيم "سعد زغلول".. ثم كان أن أصبح رئيسا للوزراء
وراح يصدر تصريحات وتعليقات لم تعجب قطاعات من الرأي العام.. هنا انقلبت "روز
اليوسف" من موقف التأييد إلى الانتقاد وبهذه الحدة, التى أصبحت فى زمننا
"قلة أدب"!!
خلال العام نفسه كان "محمد التابعى" الذى اشتهر بكونه
"أمير الصحافة" يكتب سلسلة مقالات فى "روز اليوسف" بدون
توقيع.. عنوانها كان لافتا: "ملوك وملكات أوروبا تحت جنح الظلام" وتناول
فيها أسرار الحياة الخاصة لملوك أوروبا.. ثار سفراء عدد من الدول الأوروبية..
إرتعد جلالته – الملك فؤاد – فأمر بالقبض على رئيس تحرير روز اليوسف" وكان
وقتها "إبراهيم خليل" وتم إيقاف المجلة عن الصدور.
سب رئيس الوزراء – مصطفى النحاس – حدث عام 1927
وحكايات ملوك وملكات أوروبا منشورة عام 1927
هناك تفاصيل أخرى.. فقد اعترف رئيس التحرير – إبراهيم خليل – بأن
"الجريمة" ارتكبها "محمد التابعى" وأقصد طبعا "المقالات
كتبها" فقد كان – ومازال – الرأى جريمة!! وأوضح أنه لا يوقع باسمه باعتباره
موظف فى البرلمان!! صدر قرار بالقبض على "محمد التابعى" ونشرت الصحف
الخبر مع صورة له وبجواره رئيس تحرير "روز اليوسف" وهما مكبلان بالحديد
"الكلبشات" لتقوم الدنيا وترفض أن تقعد.. غضب الرأى العام.. عبر
الصحفيين عن غضب عارم.. تصدرهم "عبد القادر حمزة" رئيس تحرير
"البلاغ" لسان حال حزب "الوفد" الذى قال أن هذه يد لم تحمل
غير القلم.. فكيف يتم وضعها فى الحديد؟! صدر قرار القضاء المصرى بالإفراج عنهما,
ليقرر "محمد التابعى" الاستقالة من الوظيفة والتفرغ للصحافة.. وأصبح
رئيسا لتحرير "روز اليوسف".. ثم أصدر بعدها "آخر ساعة" وتتلمذ
على يديه عديد من أساتذة الصحافة.. بينهم "محمد حسنين هيكل" وكثيرا ما
تحدث عنه بإجلال وتقدير شديدين!!
يلمع الأستاذ "محمد التابعى" ويمتد عمره لكى يعيش ويكتب
رسالة إلى "جمال عبد الناصر" يوم 10 مارس عام 1962.. قال فى سطورها أن
الدنيا ضاقت به, ولم يعد أمامه غير الرئيس لكى يحكى له أزمته.. نص الرسالة نشرها
"سامى شرف" فى مذكراته.. وكانت الرسالة تقطر ألما وضيقا وحزنا على ما
صار إليه من ضيق ذات اليد!! وأنهاها بقوله: "كنت أعتقد عام 1946 أن حياتى لن
تطول.. لكن قدر الله لى أن أعيش, وأن أتزوج وأن تتضاعف نفقات وتكاليف الأمراض التى
ابتليت بها أنا وأفراد أسرتى.. ومن هنا كانت ديونى التى كنت أؤجلها من عام إلى
عام.. ومن شهر إلى شهر, ومعظمها تستحق فى شهر مارس الحالى, وصدقنى يا سيدى الرئيس
إننى أخجل.. ولكن الدنيا ضاقت فى وجهى.. فلم أجد أمامى سواكم".
قرأ "جمال عبد الناصر" الرسالة وأمر "سامى
شرف" بالاتصال بالأستاذ "محمد التابعى" وإبلاغه أن كل ديونه
ستسددها رئاسة الجمهورية – كانت عشرات الآلاف – وأن يبلغه: "إنك خدمت مصر
بشرف, وحقك على بلدك أن توفى جزء من هذا الحق.. وأن يعتبر مكتب الرئيس فى خدمتك
دائما".. وقرر الرئيس أن تذيع "صوت العرب" مقالاته فى "آخر
ساعة" ويتقاضى عنها 25 جنيها فى كل مرة تذيع "صوت العرب" المقال!!
إنها مصر التى احترمت الكلمة وكاتبها على مر العصور.
مصر التى أخفت "عبد الله النديم" سنوات لتحميه من بطش
"الخديوى توفيق" والانجليز بعد أن احتلوها.. وقدمت من حملوا القلم
كزعماء وبينهم "سعد زغلول" الذى بدأ حياته كاتبا فى "الوقائع"
وقت أن ترأس تحريرها الشيخ "محمد عبده" كما قدمت صاحب
"اللواء" الزعيم "مصطفى كامل" الذى بدأ حياته كاتبا فى
"المؤيد" ثم "الأهرام" قبل أن يصدر صحفا ويؤسس "الحزب
الوطنى المصرى" وغيرهم كثيرين.
إنها مصر التى كانت تغضب من كاتب.. لكنها لا تضع فى يده
"الكلبشات"!!
وهى مصر التى دفع رموزها ثمن مواقفهم دفاعا عنها راضين.. بينهم
"أحمد عرابى" و"محمود سامى البارودى" المعروف كشاعر – رب
السيف والقلم – دون أن نتذكر أنه كان رئيسا للوزراء.. وهى مصر التى ترفض الصمت على
مر العصور, مهما كان حجم وعدد الذين يجيدون النفاق ويمارسون
"الانتهازية" كوظيفة بزهو لا يعرف حمرة الخجل!!
دعنا من رأيى.. فالتاريخ تفخر صفحاته بمواقف القضاء المصرى.. وبين
القضاة الشيخ "على عبد الرازق" مؤلف كتاب "الإسلام وأصول
الحكم" كما بينهم وكيل النيابة "محمد نور" الذى تولى التحقيق مع
"طه حسين" قبل أن ينتزع بعلمه لقب "عميد الأدب العربى".. وأمر
وكيل النيابة بحفظ الشكوى التى قدمها "أبو الفضل الجيزاوى" شيخ الأزهر..
بأنه كذب بالقرآن وأنكر القراءات السبع للقرآن, وطعن فى نسب النبى عليه الصلاة
والسلام فى كتابه "فى الشعر الجاهلى".. وهو الكتاب الذى قدم "أحمد
لطفى السيد" رئيس جامعة القاهرة استقالته بسببه.. حين طالبوه بفصل "طه حسين"
من الجامعة كعميد لكلية الآداب.. ليتخذ رئيس الوزراء "إسماعيل صدقى"
قرار الفصل بزهو المنافق!!
أعود إلى عام 1927.. مع كاتب صحفى.. ومؤرخ رائع.. هو "محمد
توفيق" مؤلف كتاب "الملك والكتابة" الصادر هذا العام عن دار
"ريشة" فى ثلاثة أجزاء.. وهنا وجبت تحية الناشر "حسين عثمان"
الذى تصدى لنشر هكذا عناوين مهمة.. وهو كتاب يجب على كل صحفى ودارس إعلام أن
يقرأه.. واستحق مطالبة أستاذنا "محمد العزبى" بأن يتم تدريسه فى كليات
الإعلام, وأن يستريح معه كل باحث عن متعة القراءة.
يحمل الكتاب قصة قذف وسب رئيس وزراء!
وقائعها تعود إلى عام 1927.. حين فتح الشيخ "عبد العزيز
البشرى" النار على "أحمد زيوار باشا" رئيس الوزراء.. على صفحات
جريدة "السياسة الأسبوعية" فكتب يقول: "لو أن زيوار باشا ركب
حمارا.. فلا أحد سيحدد من هو الراكب ومن هو المركوب"!! وقى مقال آخر كتب:
"إنه لص ومرتشى وتنبغى محاكمته, لولا أنه سمين للغاية.. لذلك سيحتار القضاة
فى محاكمة زيوار باشا.. لأنه من الظلم اعتباره كله مسئولا عما اقترفت يداه.. فهل
يداه هى المسئولة أم كرشه الذى يطل عدة أمتار للأمام.. أم صدره الذى يشبه بطيخة
صيفى أصابها التلف.. أم أنفه الذى يشبه الكوز.. أم رأسه الذى يشبه قربة
السقا".. وقال فى مقاله نفسه: "إنه – يقصد رئيس الوزراء – مؤلف من عدة
مخلوقات.. لا تدرى كيف اتصلت ولا كيف تعلق بعضها ببعض"!!
صدق.. ويجب أن تصدق.. أن جريدة مصرية نشرت كل هذا السب والقذف فى
حق رئيس وزراء يجلس على كرسى الحكم – ليس سابقا – بل أكثر من ذلك تحفظه ذاكرة
التاريخ.. ولك أن تصدق – لأنها الحقيقة – أن رئيس الوزراء ذهب إلى القضاء.. تم نظر
القضية والكاتب يواصل كتاباته.. ثم صدر حكم محكمة الجنايات ببراءة الكاتب, وذكر
القاضى فى حيثيات حكمه: "من حق الكاتب أن يسخر من رئيس الوزراء.. حيث أنه
شخصية عامة يجوز للمواطنين أن يسخروا منها".. وحين أمر الملك
"فؤاد" بالقبض على "محمود عزمى" بتهمة العيب فى الذات
الملكية.. صدر حكم ضده بالحبس ستة أشهر.. ذهب "محمود عزمى" إلى محكمة
النقض التى ألغت الحكم السابق.. واكتفت بغرامة 20 جنيها!!
حتى عام 1977.. أنصف القضاء "لطفى الخولى" رئيس تحرير
"الطليعة" ضد "يوسف السباعى" رئيس مجلس إدارة
"الأهرام" حين حاول أن يتدخل "كرقيب" فيما تنشره المجلة..
وأقال "لطفى الخولى" لرفضه ذلك بحسم.. فما كان منه إلا اللجوء للقضاء
الذى طعن أمامه "يوسف السباعى" فى الدعوى.. ليصدر حكم محكمة شمال القاهرة
يوم 14 يوليو عام 1977, برفض طعن "يوسف السباعى" – وكان وزيرا قبل أن
يتولى مسئولية الأهرام – بل قل كان يوسف السباعى الروائى الشهير والكاتب الكبير..
وجاء فى حيثيات الحكم: "إن معرفة القاضى للحق لا تجعل له مجالا لأن يعادى
فكرا أو شخصا.. فكل الأفكار والأشخاص أمامه سواء.. فهو حيادى فى مجلس القضاء مع
نفسه ومع الناس ومع الفكر.. حتى لو خالفت أفكارهم مبدأ شخصيا يراه الأصوب.. ذلك أن
كل فكر هو نتاج العقل البشرى, أعظم هبة منحها الله للإنسان.. وحرية الرأى كفلها
الدستور.. ودفع الفكر بالفكر المعارض هو أساس صلاح الحياة.. ومن ثم فلا يجوز أن
يحجب رأى عن الشعب".. وأضافت حيثيات الحكم ذاته: "الصحافة لازمة
للسياسة.. والسياسة هى فن قيادة العمل الوطنى لصالح المواطن.. فهى أسمى أنواع
العمل الإنسانى.. لذلك فإن لسانها الصادق يؤدى خدمة لا تقدر لجموع الأمة.. واختلاف
الرأى يوصل إلى طريق البناء الصحيح, ويمنع من تجاوز السلطات لحدودها.. ومن ثم لا
يحق حجب صاحب فكر عن إبدائه لو كان مخالفا لأغلب الفكر فى الأمة".
وإنصافا تفرضه الوقائع نذكر للرئيس الأسبق "حسنى
مبارك".. الذى عارضته كثيرا فى زمنه حيا.. أنه أصدر عفوا فى حكم ضد
"إبراهيم عيسى" لصالحه, وكان الحكم قد صدر ضد الكاتب بعد أن عجز عن
تقديم ما يثبت ادعائه من وقائع! وإن كانت أجهزة الأمن فى زمنه روعت "جمال
بدوى" لكنها عجزت عن سجن "عبد الحليم قنديل" الذى كتب عنه مقالا
عنوانه: "إنى أتقيئك"!!
ثم عشت لأرى أستاذ جامعة فى يده "الكلبشات" وتتم محاكمته
بهذه الصورة وعلى هذه الحالة وهو مسجون.. ويقف ضده أساتذة جامعة وصحفيون بلا خجل!!
يبررون إهانة العلم والكلمة لهذا الحد.. وأقف عاجزا عن مواجهة هذه "السحابة
السوداء" لذلك أعتذر عن عجزى للدكتور "أيمن منصور ندا" الذى كتبت
ما سبق له وليس عنه لأننى لم ألتقه مرة واحدة فى حياتى – ولى شرف اللقاء – وأعتذر
له عن أننى لا أملك غير صفحتى التى وفرها "زمن الفيسبوك" وهى أضعف
الإيمان.. وسبب بلاء أستاذ الجامعة.. ثم أشكر المبدع "محمد توفيق" مؤلف
كتاب "الملك والكتابة".. الذى حرضنى على الكتابة حين رحت معه قارئا –
دون معرفة أتمناها – وياخوفى لو اعتبر البعض أن هذا بلاغ ضده!!
0 تعليقات