آخر الأخبار

اسماعيل سليمان الذي لايغادر الذاكرة ..

 



 

حمدى عبد العزيز

8 أكتوبر 2021

 

 

تتدافع في ذاكرتي الآن صور لعيناه الضاحكتان طوال الوقت ، ووجهه الذي ترسمه ابتسامة رحيبة يحتفظ بها حتي في لحظات احتدام النقاشات والمعارك النضالية ، وفي عمق غيامات لحظات الجذر السياسي التي تسود فيها قبضات التوحش البوليسي وتمسك بالرفاق وتدفع بهم إلي عنابر السجون والمعتقلات ..

 

تقفز إلي مقدمة ذاكرتي الآن

 

مشاهد من عام 1983 عندما كان القائد النضالي والنائب البرلماني العتيد المرحوم أبو الحريري يخوض معركة انتخابات مجلس الشعب التكميلية الشهيرة عن دائرة محرم بك بالإسكندرية ، مرشحاً عن اليسار ، ثم عن كل القوي الوطنية المعارضة للسلطة السياسية الحاكمة في جولة الإعادة ، وأمام مرشح السلطة ..

 

وقد اتخذت هذه المعركة وضعاً مركزياً من حيث الأهمية السياسية في مصر من أقصاها إلي أدناها ، وحازت المتابعات القلقة في محيطنا الإقليمي والدولي لدرجة أضطر معها أن يخرج مسئولون إسرائيليون ليصرحوا بأن معركة محرم بك هي أول اختبار جدي لاتفاقات كامب ديفيد التي لم يكن مضي علي توقيعها إلا مايتجاوز الثلاث سنوات ..

 

هكذا كان طبيعياً أن تنشغل مصر كلها بمعركة دائرة محرم بك ، وان تكتظ مدينة الإسكندرية برموز السلطة الحاكمة وقياداتها ومسئوليها المحليين لدعم مرشح الحكومة ..

 

وكان أن تدافعنا نحن مناضلو اليسار المصري إلي الإسكندرية وإلي حيث منطقة محرم بك بميادينها وشوارعها دعماً لأبو العز الحريري ..

 

كان إسماعيل سليمان أحد علامات جيلنا أحد أهم قادة هذه المعركة سواء من حيث إدارتها جماهيرياً أو تنظيمياً داخل غرفة عملياتها ، وبالنسبة لنا كان قائداً ميدانياً عظيماً بما امتلك من قدرة وطاقات حركية هائلة ، وخبرات تنظيمية ووعي سياسي وحس ابن البلد الإسكندراني بالإضافة إلي إلمامه التام بكل رصيف وجدار وشارع وبيت ومدرسة ومصنع في الدائرة ..

 

تقترب من ذاكرتي صور ذلك المشهد المهيب .. حينما كنا نقف في شتاء 1983 في الميدان الذي يطل عليه مبني مجمع فرز الصناديق التي نام إسماعيل سليمان عليها هو ورفاقه صندوق بصندوق حتي حتي لايتم تزوير أصوات الدائرة كما جرت العادة وقتها عبر اللعب في أوراق الاقتراع باستبدال الأوراق والصناديق وظل إسماعيل سليمان يقود الزملاء والرفاق السكندريين الحاصلين علي توكيلات من أبو العز الحريري وينظم حراستهم علي الصناديق حتي تسلمتها لجنة الفرز في وجود أبو العز الحريري والوكلاء الذين ظلوا داخل لجنة الفرز حتي الإعلان الرسمي لنتيجة الأصوات ..

 

وظللنا نحن أبناء المحافظات المجاورة للإسكندرية وأبناء الإسكندرية وجماهير دائرة محرم بك وبعض الرفاق القاهريين الذين قرروا المبيت في الإسكندرية ساهرين أمام لجنة الفرز .. إلي أن انفجرت اللحظة الحاسمة التي لازالت ذاكرتي تمسك بها حتي الآن

فقد خرج إسماعيل سليمان إلي قلب الميدان المقابل للجنة الفرز في اللحظة التي انحبست فيها أنفاس الجميع ..

 

في مشهد مهيب أطاح صوت إسماعيل سليمان بسحابة الصمت التي ظللت الميدان فوق رؤوسنا ، وانطلق هاتفاً في جلال وحدة وجدة

لابد أنها كانا تطغي علي بركان الفرح المكتوم داخل إسماعيل

 

-         أبو العز الحريري نجح ..

 

مبروك علينا ..

 

لازلت في الذاكرة لقطات من انفجار بركان الفرح العظيم، أتذكر أنني وجدت نفسي فجأة أمام مشهد صامت يسوده ترقب مهيب علي حافة لحظة انفجار عواصف صوتية مهللة هيمنت علي الميدان بمجرد أن صاح إسماعيل صيحته التي أزاحت عالم واستبدلته بعالم عارم من البشر الذين ارتفعت حناجرهم بالصياح منطلقين من الميدان إلي شوارع الإسكندرية وإسماعيل سليمان تتبادله الأعناق وتتخاطفه الأيادي والأكتاف، إلي أن خرج العز الحريري بعد أن وقع علي محضر الفرز وضمن توقيع القاضي عليه ومن ثم ظهر ملوحاً للجماهير معلناً فوزه في واحدة من أهم المعارك السياسية في تاريخ الوطنية المصرية وفي تاريخ اليسار المصري

 

هكذا كان إسماعيل سليمان وقتها كعلامة من علامات جيلنا، وأحد أخلص وأمهر كوادر اليسار في الإسكندرية ، وقد ظل ، وسيظل أحد الرموز الوطنية الملهمة في الإسكندرية بصورته الخالدة الإسكندرية ووجهه البشوش وعيناه الضاحكتين اللامعتين بالإصرار والأمل ، وحديثه الرفاقي الدافئ مع الجميع ..

 

ألتقيته صدفة منذ عامين علي أحد مقاهي حي العجمي بالإسكندرية فوجدت إلي جواره عكاز طبي ، كان ذلك الوضع صعباً علي تخيلي أنا الذي كنت اعتبره رمزاً لحيوية ونشاط وحماية جيلنا ، شربت معه الشاي وتحدثنا عن أحوال البلد واليسار والذكريات الرفاقية، ولم أجرؤ علي سؤاله عن أحوال صحته وعندما انتهي اللقاء وذهبت إلي منزلي كلمت أحد رفاقنا المشتركين في الإسكندرية فأخبرني أن إسماعيل يعاني ظروفاً صحية صعبة

 

وظللت أسأل عنه ، مدركاً لصعوبة أن يودع معاناته مع المرض العضال

 

إلي أن اختار أن يودعنا هو في لحظة نفتقد فيها لاشتعال حيويته وتفجر طاقة مثل طاقته ..

 

من حقك أن تسترح يا إسماعيل

 

وليس لنا سوي أن نحترم لحظة المجد الروحي التي تذهب إليها الآن في سلام وسكينة ورحمة .

 

، وخلاص أبدي ..

من كل متاعب الروح والجسد .

________________

إرسال تعليق

0 تعليقات