محمود جابر
أزمة البحث حينما يبنى على رمال متحركة أو تتدخل جهة ما لتثبيته،
قد يثير فى الأذهان ريبة... وفى الصدور وجل..
فبعدما صرح يوسف زيدان بان المسجد الأقصى ليس فى فلسطين، قال
ليبرمان: “سعيد للغاية بتصريحات المؤرخين المصريين التي تنتزع القدسية عن أسطورة
المسجد الأقصى المصطنعة، إنها تدفع باتجاه إيجابي بكون القدس عاصمة أبدية لدولة
إسرائيل”.
ولا اعرف بماذا سوف يصرح ليبرلمان إذا ما سمع بعد شيوخ الشيعة
يعيدون نفس معزوفة يوسف زيدان ؟!!
من الناحية الثقافية، فإنه من الضروري إعادة قراءة التاريخ كلما
توفرت وسائل أكثر حداثةً تمكننا من التدقيق فيما كتبه المؤرخون القدامى، ولكن في
العقدين الأخيرين، خرج علينا البعض ليستغلوا هذه الضرورة ويعملوا من التاريخ “طبخة
مقلوبة، وكأننا خسرنا فلسطين في جلسة نقاش، ولم نخسرها بقوة سلاح الأعداء وطرده
لآبائنا من قراهم ومدنهم.
المشككون من أمثال يوسف زيدان، وغيره يقولون أن المسجد الأقصى فى
الجعرانة وهى منطقة تابعة للطائف، وكان فيها مسجدين واحدا هو الأدنى والثاني هو الأقصى،
وأول سؤال يفد على الذهن هو:
هل كان هناك حقا مسجد،
فضلا عن مسجدين، فى الطائف؟ فمن كان يسجد فيهما؟ ولا نقول: فمن بناهما؟ لقد كان
المسلمون يصلون خفية فى مكة، ولم يكن هناك مسجد فى مكة غير البيت الحرام، فكيف
يكون هناك مسجدان اثنان بالطائف، تلك المدينة التى أغلقت أبوابها وقلوبها فى وجه
النبى حين زارها أملا فى أن يؤمن به أهلها، وطارده غلمانها وسفهاؤها بالحجارة فى
الشوارع حتى ألجأوه إلى بستان ابنى ربيعة؟ هل بنتهما ثقيف مثلا؟ فلماذا لم تؤمن بمحمد
الراكع الساجد ما دامت تبنى المساجد أو تسجد فيها؟ بل إنها حين غزاها الرسول
والمسلمون بعد ذلك بسنوات عندما انتهوا من فتح مكة لم تفتح لهم أبوابها إلا بعد
عشرات الليالى، من شدة تمسكها بوثنيتها وأصنامها وتأبيها على دين التوحيد.
الواقع أن أول مسجد عرفته
الطائف قد تم بناؤه بعد فتحها إثر فتح مكة، وأمر الرسول أن يحتل نفس الموضع الذى
كانت منصوبة فيه أصنامهم.
ففى الحديث عن عثمان بن أبى العاص “أنّ النبى صلى الله عليه وسلم
أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كان طواغيتهم”.
ثم أين المعجزة فى الأمر
بحيث يمتن الله سبحانه على عبده محمد بأنه أُسْرِىَ به إلى هناك؟ أى معجزة فى
الذهاب إلى الطائف أو الجعرانة ؟
وأين البَرَكة حول أى موضع
بالطائف فى ذلك الوقت حسبما أخبر المولى بأنه بارك حول المسجد الأقصى؟
ومن الواضح أن المسجد الأقصى هو مسجد إيلياء، أى بيت المقدس.
ومما له دلالته القوية ومغزاه الذى لا يصح إغفاله أن الآيات التى
تلى آية الإسراء من سورة “الإسراء” تتحدث عن بنى إسرائيل وتحذرهم وتهددهم بأن
عاقبة إفسادهم فى الأرض عاقبة وبيلة، وأن الله سوف يرسل عليهم فى الإفساد الثانى
عبادا له يدخلون “المسجد” كما دخلوه فى المرة الأولى. فانظر كيف ربطت الآيات بين
الإسراء وبنى إسرائيل، وكيف ربطت ثانيا بين المسجد الأقصى والمسجد الذى سوف يدخله
عباد الله المرسلون لتأديب بنى إسرائيل ومعاقبتهم على عصيانهم وتمردهم وفسادهم.
تقول الآيات المذكورة من أول سورة “الإسراء”: “سُبْحَانَ الَّذِى
أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الأقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى
لِبَنِى إِسْرَائِيلَ أَلا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِى وَكِيلا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ
كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إسْرائِيلَ فِى الْكِتَابِ
لَتُفْسِدُنَّ فِى الأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِى
بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا (5) ثُمَّ
رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ
وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ
لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الأخِرَةِ
لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ
يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ
حَصِيرًا (8)”.
ولعل البعض يحسب أن السجود لم يكن معروفا فى الأديان السماوية
السابقة. وهذا خطأ صراح، ففى مادة “سجد- سجود” من “دائرة المعارف الكتابية” نقرأ
ما هو آت: “سجد يسجد سجودا: خضع وتطامن، أو انحنى وجثا، أو خر وركع، واضعا جبهته
على الأرض (انظر مز95: 6) تعبيرا عن الاحترام والمهابة والتوقير أو الاستعطاف
للملوك والأمراء والحكام وغيرهم . فقيل عن إبراهيم إنه “سجد لشعب الأرض، لبني حث”
(تك 23: 7)، كما سجد يعقوب ونساؤه وأولاده لأخيه عيسو لاسترضائه (تك33: 3-6). وسجد
إخوة يوسف له (تك37: 10 ، 42: 6 ، 43: 26)، وسجد موسى احتراما لحميه يثرون (خر18:
7). وسجد يوآب ثم أبشالوم أمام الملك داود ( 2صم 14 : 22 و 33 )، وكذلك سجد أمامه
أخيمعص (2صم18: 28) وبثشبع (1مل1: 16)، وأرونة اليبوسي (2صم24: 20). وسجد أدونيا
أمام سليمان ليعفو عنه (1مل1: 53). كما سجد سليمان أمام أمه بثشبع توقيرا واحتراما
(1مل2: 19).
وعندما طلب الشيطان من الرب يسوع أن يخر ويسجد له انتهره الرب
قائلا: “اذهب يا شيطان. لأنه مكتوب: للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد” (مت4: 10،
انظر تث6: 13).
وفى القرآن تقابلنا هذه النصوص: ففى سورة “البقرة” يخاطب سبحانه
وتعالى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بشأن بناء البيت الحرام: “وَإِذْ جَعَلْنَا
الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ
مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)”. وفى سورة “آل
عمران”: “يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ
الرَّاكِعِينَ (43)”. وعن الأنبياء الذين ذكرهم القرآن فى سورة “مريم”: “أُولَئِكَ
الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ
وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ
وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ
خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)”. وعن سحرة فرعون حين انتصر عليهم موسى عليه السلام
وتبين لهم الحق يقول المولى فى سورة “طه”: “فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا
قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)”.
ثم إن هناك قبل ذلك كله أحاديث الإسراء والمعراج، وكلها تتكلم عن
بيت المقدس لا عن الطائف، تلك المدينة التى لم تذكرها الأحاديث بشىء يدل على أنها
مكان مبارك أبدا ولا كانت إليه رحلة الإسراء مطلقا. ثم لو لم يكن لبيت المقدس
ومسجدها مكان ومكانة فى الإسلام منذ وقت جد مبكر فلم كان الرسول والمسلمون يتجهون
إليه فى صلاتهم حتى نزلت آيات تحويل القبلة فى المدينة من بيت المقدس إلى الكعبة؟
وهل كان أهل الطائف ليسكتوا فلا يقيموا الدنيا ويقعدوها بعد
إسلامهم متفاخرين رغم تأخر دخولهم فيه بأن الإسراء كان إلى مدينتهم، وأن المعراج
قد انطلق من المسجد الذى كان قائما فيها؟
وهل كانوا ليفوتهم أن يطلقوا على ذلك المسجد:”مسجد الإسراء
والمعراج” مثلا؟
بل هل كان النبى ليفوته، ساعة غزوته التى حاصر فيها الطائف
وافتتحها، أن يقول مثلا إنه قد جاء ليخلصها من أيدى المشركين ويطهرها من رجس
الوثنية ويصيّرها مُسْلِمَةً بوصفها مَسْرَاه ومَعْرَجَه، أو أن يسترجع على الأقل
ذكرياته هناك ويشير إلى هذا الموضع أو ذاك قائلا: هنا وقف البراق ونزلتُ عن ظهره،
وهنا صليتُ، وهنا عُرِجَ بى إلى السماوات العلا مثلا؟
بل ما كان الصحابة ليتركوه حتى يتذكر أحداث تلك الليلة من تلقاء
نفسه بل كانوا يسارعون فيسألونه عن تفاصيل تلك الأحداث من تلقاء أنفسهم على عادتهم
فى سؤاله عن كل صغيرة وكبيرة مما يتصل بالوحى والآيات الخارجة على سنن الكون. ثم
لو كان الأمر كذلك لألفيناه صلى الله عليه وسلم، حين كان يصلى فى مكة، يتجه إلى
الطائف جاعلا الكعبة بينه وبينها بدلا من بيت المقدس.
كذلك ماذا نفعل بخبر تحويل القبلة، بعد وصوله إلى المدينة بزمن غير
بعيد، من بيت المقدس وحدها إلى الكعبة وحدها (بعدما كان يصلى إليهما معا فى مكة)
واعتراض اليهود على تحويلها من بيت المقدس، الذى يقدسونه إلى الكعبة، تلك
البَنِيّة التى لا تمثل لهم شيئا؟
وهذا الاعتراض موجود فى سورة “البقرة” فى قوله تعالى: “سيقول
السفهاء من الناس: ما وَلّاهم عن قِبْلَتهم التى كانوا عليها؟…”. فماذا نفعل فى
هذا كله؟
إن ما يدعيه هؤلاء الذين يقولون بوجود المسجد فى الطائف أو فى
غيرها، أو حتى فى السماء إنما هو كلام سخيف لا رأس له ولا ذيل. وقد أطلقه فى
الهواء دون مبالاة بعلم أو تاريخ أو جغرافية أو منطق أو عقل أو تحليل نفسى أو اجتماعي.
وإن مسارعة إسرائيل إلى الترحيب والاحتفاء بهذا الكلام يمثل مغزى
ودلالة كبيرة سواء صدر من زيدان او من شيعة لندن ..
فالمسجد الأقصى كان قبلة للمسلمين، فهل كانت قبلتهم إلى السماء ؟؟
ثم هل كان المسلمون ليسكتوا على الفريق الذى جعل الإسراء والمعراج مِنْ
بيت المقدس (على الترتيب) بدلا من الطائف؟
يقينا ويمينا لقد كان هذا من شأنه أن يخلق لنا فريقين بين العلماء
والمتعالمين: فريق الطائف، وفريق بيت المقدس، ولقد كان حريا أن ينشب بينهم خلاف
وخصام حول هذا الموضوع، شأنه شأن أى موضوع آخر فيه رأيان أو أكثر، ولصُنِّفَت
الكتب وعُقِدَت المناظرات وهاج البشر بل ربما تقاتلوا جراء هذا الخلاف. ثم كيف سكت
يهود بيت المقدس وأنصارها على الأقل فلم يفضحوا هذا الزيف والتزوير التاريخى
الأبلق الذى يتصور زيدان أنه ابن بجدتها: كاشف خباياه وهاتك عوراته؟ أما ما
يُفْهَم من كلام زيدان الساذج الذى لا يدخل عقل قطة فهو يخالف المعهود من سنن
المجتمعات فى مثل تلك الحالة. إنه تبسيط مخل، ويدل على أن مخترع تلك الفرية رجل
غشيم أيا كان هذا المخترع، سواء كان هو أو غيره.
وإذا كان الأمر أمر مزاعم والسلام من جانب المسلمين فلماذا لم
يقولوا إن الإسراء والمعراج وقعا فى البيت الحرام، مستغلين تقديس العرب والمسلمين
للكعبة المشرفة والبيت الكريم؟ لقد كان بيت المقدس قد فُتِح وانتقل إلى سلطان
المسلمين، ولم يكونوا بحاجة إلى تسويغ فتحه ووضع اليد عليه.
ولمن يعرف أو لا يعرف فإن فى المدينة مسجدا يقال له: مسجد القبلتين
جراء كونه المسجد الذى تصادف أن نزلت آيات تحويل القبلة إلى الكعبة والمسلمون
يصلون الظهر وراء الرسول عليه السلام فيه من شهر رجب فى السنة الثانية للهجرة، فما
كان منهم سوى الاستدارة أثناء تأديتهم الفريضة إلى الجنوب ميممين شطر الكعبة، فكان
شطر صلاتهم ناحية الشمال، والشطر الآخر ناحية الجنوب، فالجنوب موضع مكة والشمال
موضع بيت المقدس ولو كان صلاة النبى الى الطائف لكانت الى الجنوب أيضا، وهذا مالا
يلتف جماعة لندن او تل أبيب...
0 تعليقات