محمود جابر
المسجد الأقصى هو ثانى مسجد بنى على وجه الأرض بعد الكعبة المشرفة، ويقع فى
أرض فلسطين التى عرفت بأرض الأنبياء والمرسلين منذ عهد إبراهيم، وقد ثبت ذلك فى
رواية للنبي قال فيها إن أول مسجد وضع فى الأرض كان المسجد الحرام ثم المسجد الأقصى
وبينهما أربعون سنة .
والمسجد الأقصى كان القبلة الأولى للمسلمين باتفاق العلماء، وبقى المسلمون
يتوجهون إليه قرابة عشرون عاما ونيف حتى حادث تحويل القبلة.
وتاريخيا تأتى مدينة القدس على رأس أقدم المدن العالمية ذات التاريخ
العريق، وذات مركز دينى وروحى تليد، لا يقل بأى حال من الأحوال عن ستة آلاف عام او
يزيد .
والمسجد الأقصى ومدينة القدس تجمع من التقدير والاحترام والتقديس لدى علماء
الإسلام، وأن تاريخ بناء المدينة وفقا للأثر المروى عن على بن أبى طالب بأن تاريخ
بناء المدينة يعود لآدم عليه السلام وللأنبياء بعده حتى جاء إبراهيم فزاد فيه ما
زاد، وظل المسجد محل رعاية من كل الأنبياء حتى جاء الإسلام وعهد الفتوحات وظل محط
اهتمام ورعاية من كل دول الإسلام وحكامها .
ومما سبق نستطيع أن نؤكد ان مدينة القدس حظيت، وما تزال، بمكانة عظيمة في التاريخ
الإنساني، وتميزت بخصوصية الزمان والمكان. فهي في الزمان ضاربة جذورها منذ الحضارة
العربية الكنعانية، أما بالنسبة لخصوصيتها المكانية، فقد شملت الموقع والموضع،
فكانت ملتقى الاتصال والتواصل بين قارات العالم القديم، تعاقبت عليها الحضارات،
وأَمّتها الجماعات البشرية المختلفة، مخلفة وراءها آثارها ومخطوطاتها الأثرية،
التي جسدت الملاحم والحضارة والتاريخ، دلالة على عظم وقدسية المكان.
ولابد أن يكون لمثل هذه الظاهرة الحضارية الفذة أسباب ومبررات، هي سر خلودها
واستمرارها آلاف السنين، رغم كل ما حل بها من نكبات وحروب أدت إلى هدم المدينة،
وإعادة بنائها ثماني عشرة مرة عبر التاريخ، وفي كل مرة كانت تخرج أعظم وأصلب وأكثر
رسوخا من سابقتها، دليلا على إصرار المدينة المقدسة على البقاء، فمنذ أن قامت
(القدس الأولى) الكنعانية قبل نحو 6000 سنة، وهي محط أنظار البشرية، منذ نشأت
الحضارات الأولى في (فلسطين ووادي النيل والرافدين)، مروراً بالحضارة العربية الإسلامية،
وحتى يومنا هذا.
يقدر علماء الآثار أن تاريخ مدينة القدس يرجع إلى حوالي ستة آلاف سنة، كما أكدت
الحفريات التي قامت عليها المدرستان: الفرنسية، والبريطانية، برئاسة الأب
"ديفو" وبانضمام "رويال أنتوريا" برئاسة الدكتور
"توستينج هام"، ومشاركة جامعة "تورنتو" في كندا عام 1962، حيث
اعتبرت هذه البعثة، أن ما تم التوصل إليه خلال موسم الحفريات من نتائج عن تاريخ
مدينة القدس، لا تعدو كونها معلومات مزيفة، تعيد صياغة تاريخ القدس وفقاً لما ورد
في التوراة، التي تقصر تاريخ المدينة المقدسة على ثلاثة آلاف عام.
العموريون والكنعانيون:
وفقا للتقديرات التاريخية، فان الهجرة العمورية- الكنعانية من
الجزيرة العربية، قد حدثت خلال الألف السابع قبل الميلاد، وتم التوصل إلى ذلك من
خلال تتبع الآثار في مدنهم القديمة، ولعل أقدمها مدينة أريحا الباقية حتى اليوم،
والتي تعتبر أقدم مدينة في العالم، وإن تأرجحت تقديرات البداية الزمنية لوجود
الكنعانيين. فإنه لا جدال على أنهم كانوا أول من سكن المنطقة من الشعوب المعروفة
تاريخيا، وأول من بنى على أرض فلسطين .
حيث ورد في الكتابات العبرية، أن الكنعانيين هم سكان البلاد
الأصليين، كما ذكر في التوراة أنه الشعب الأموري. والكنعانيون هم أنفسهم
العموريون، أو ينحدرون منهم، وكذلك الفينيقيون، فقد كان الكنعانيون والفينيقيون في
الأساس شعباً واحداً، تجمعهما روابط الدين واللغة والحضارة، ولكن لم تكن تجمعهما
روابط سياسية، إلا في حالات درء الخطر الخارجي القادم من الشمال أو الجنوب.
ووفقاً للتوراة، فإن أرض كنعان كانت تمتد من أوغاريت (رأس شمرا)
حتى غزة، وقد تم العثور على قطعة نقود أثرية كتب عليها "اللاذقية في
كنعان"، وفي تلك الفترة توصل الكنعانيون إلى بناء الصهاريج فوق السطوح، وحفر
الأنفاق الطولية تحت الأرض؛ لإيصال المياه إلى القلاع، ومن أهم هذه الأنفاق نفق
مدينة "جازر" التي كانت تقع على بعد 35كم من القدس.
وكذلك نفق يبوس (القدس)، حفره اليبوسيون، وجاءوا بالمياه إلى حصن
يبوس من نبع "جيحون".
اليبوسيون وبناء القدس:
اليبوسيون هم بطن من بطون العرب الأوائل، نشأوا في قلب الجزيرة العربية. ثم نزحوا
عنها مع من نزح من القبائل الكنعانية التي ينتمون إليها، وهم أول من سكن القدس،
وأول من بنى فيها لبنة.
رحل الكنعانيون عن الجزيرة العربية، جماعات منفصلة، حطت في أماكن
مختلفة من فلسطين،فسميت(أرض كنعان)، سكن بعضهم الجبال، بينما سكن البعض الأخر
السهول والأودية ، وقد عاشوا في بداية الأمر متفرقين في أنحاء مختلفة، حتى المدن
التي أنشأوها ومنها: (يبوس، وشكيم، وبيت شان، ومجدو، وبيت إيل، وجيزر، وأشقلون، وتعنك،
وغزة)، وغيرها من المدن التي لا تزال حتى يومنا هذا، بقيت كل مدينة من هذه المدن
تعيش مستقلة عن الأخرى، هكذا كان الكنعانيون في بداية الأمر، ولكن ما لبثوا أن
اتحدوا بحكم الطبيعة وغريزة الدفاع عن النفس، فكونوا قوة كبيرة، واستطاعوا بعدئذ
أن يغزوا البلاد المجاورة لهم، فأسّسوا كياناً عظيماً بقي فترة طويلة.
كانت يبوس في ذلك العهد حصينة آهلة بالسكان، تشتهر بزراعة العنب والزيتون. تعرف
أنواعاً عديدة من المعادن منها النحاس والبرونز، وعرفوا أنواعاً عديدة من الخضار
والحيوانات الداجنة، كما عرفوا استخدامات الخشب عن طريق الفينيقيين، فاستخدموه في
صناعات السفن والقوارب، كما اشتهروا بصناعة الأسلحة والثياب والزجاج.
لقد أسس الكنعانيون واليبوسيون حضارة كنعانية ذات طابع خاص، ورد ذكــرها في ألواح
(تل العمارنة).
وقد ظهر بينهم ملوك عظماء، بنوا القلاع وأنشأوا الحصون، وأنشأوا
حولها أسواراً من طين، ومن ملوكهم الذين حفظ التاريخ أسماءهم، (ملكي صادق)، ويعتبر
هو أول من بنى يبوس وأسسها، وكانت له سلطة على من جاوره من الملوك، وأطلق بنو قومه
عليه لقب (كاهن الرب الأعظم).
كان ليبوس في ذلك العهد أهمية تجارية عظيمة؛ لوقوعها على طرق
التجارة، كما كان لها أهمية حربية كبيرة؛ لأنها مبنية على أربع تلال، ومحاطة
بسورين.
وحفر اليبوسيون تحت الأرض نفقاً يمكنهم من الوصول إلى "عين روجل" والتي
سميت الآن "عين أم الدرج".
كذلك كان فيها واد يعرف بواد الترويين، يفصل بين تل أوفل وتل مدريا- عندما خرج بنو
إسرائيل من مصر، ونظروا أرض كنعان، ورأوا فيها ما رأوا من خيرات، راحوا يغيرون
عليها بقصد امتلاكها… قائلين: "أنها هي الأرض التي وعدهم الله بها"،
وبذلك أيقن الكنعانيون الخطر القادم، فطلبوا العون من مصر، ذلك لأن بني إسرائيل
كانوا كلما احتلوا مدينة خربوها وأعملوا السيف فيها، أما المصريون فقد كانوا
يكتفون بالجزية، فلا يتعرضون لسكان البلاد وعاداتهم ومعتقداتهم، ولم يتوان
المصريون في مد يد العون إلى الكنعانيين، فراحوا يدفعوا الأذى مع الكنعانيين،
ونجحوا في صد غارات العبرانيين.
وهناك بين ألواح تل العمارنة، لوح يستدل منه
على أن (عبد حيبا)، أحد رجال السلطة المحلية في أورسالم، أرسل سنة (1550 ق.م) إلى
فرعون مصر تحتمس الأول رسالة، طلب إليه أن يحميه من شر قوم دعاهم في رسالته
بـ(الخبيري) أو (الحبيري).
بنو إسرائيل:
في عهد الفرعون المصري (رعمسيس الثاني) وولده "مرن
بتاح"، خرج بنو إسرائيل من مصر، وكان ذلك عام (1350 ق.م). لقد اجتازوا بقيادة
زعيمهم "موسى" صحراء سيناء، وحاولوا في بادئ الأمر دخول فلسطين من
ناحيتها الجنوبية، فوجدوا فيها قوما جبارين فرجعوا إلى موسى وقالوا له "اذهب
أنت وربك فقاتلا، إنا هاهنا قاعدون" وبعدها حكم عليهم الرب بالتيه في صحراء
سيناء أربعين عاماً.
وبعدها توفي موسى، ودفن في واد قريب من بيت فغور، ولم يعرف إنسان
قبره إلى الآن. ولقد تولى "يوشع بن نون" قيادة بني إسرائيل بعد موسى
(وهو أحد الذين أرسلهم موسى لعبور فلسطين)، فعبر بهم نهر الأردن (1189 ق.م)، على
رأس أربعة أسباط هي: راشيل أفرايم، منسه، بنيامين. واحتل أريحا بعد حصار دام ستة
أيام، ارتكبوا أبشع المذابح، ولم ينج لا رجل ولا امرأة ولا شيخ ولا طفل ولا حتى
البهائم …ثم أحرقوا المدينة بالنار مع كل ما فيها، بعد أن نهبوا البلاد، وبعدها
تمكنوا من احتلال بعض المدن الكنعانية الأخرى، حيث لقيت هذه المدن أيضاً ما لقيته
سابقتها.
و بعد أن سمع الكنعانيون نبأ خروج بني إسرائيل من مصر. هبوا لإعداد العدة، وعقد
ملك أورسالم (ملكي صادق) حلفاً مع الملوك المجاورين له، وكان عددهم واحداً
وثلاثين، مكونين جيشاً مجهزاً قوياً، ولذلك لم يتمكن يوشع من إخضاع الكنعانيين،
ومات دون أن يتمكن من احتلال (أورسالم)، لأنها كانت محصنة تحصيناً تاماً، وكانت
تحيط بها أسوار منيعة.
ولقد مات يوشع بعد أن حكم سبعاً وعشرين سنة، بعد موت موسى، وبعده تولى قيادة بني
إسرائيل (يهودا) وأخوه (شمعون). وغزا بنو إسرائيل في عهدهما الكنعانيين مرة أخرى،
وحاولوا إخضاعهم. ورغم أن الكنعانيين خسروا ما يقارب عشرة آلاف رجل في هذه المعركة
إلا أن بني إسرائيل أرغموا على مغادرة المدينة.
عهد القضاة:
عاش بنو إسرائيل على الفوضى والضلال طيلة حكم القضاة، وعددهم أربعة
عشر، وكان تاريخهم عبارة عن مشاغبات وانقسامات، حيث ارتد الكثير من الإسرائيليين
عن دينهم، وتحولوا إلى ديانات الكنعانيين، وعبادة أوثانهم "كبعل"
و"عشتروت".
هذا بالإضافة إلى الانقسامات والانقلابات الداخلية التي دبت في صفوفهم. فكانوا
يلتفون حول القائد الذي يتولى قيادة أمورهم سنة، ثم ينقلبون عليه ويعصون أوامره
سنين.
وخلال هذه الفترة، ونتيجة هذه الفوضى؛ لم يذوقوا طعم الحرية والاستقلال أبداً، إذ
حاربهم الكنعانيون وقضوا مضاجعهم أجيالاً طويلة، ومن ثم حاربهم المؤابيون، وألحقوا
بهم الذل والهوان، ثم حاربهم المديانيون والعمونيون والفلسطينيون.
وكانت حروبهم مع الفلسطينيين الأشد ضراوة والأبعد أثراً، إذ أدت
إلى انتحار "شاؤول" ملك العبرانيين سنة (1095 ق.م).
ويذكر لنا التاريخ أن المدن (الكنعانية- الفلسطينية) التي عجز العبرانيون عن
فتحها، كانت ذات حضارة قديمة، وكانت المنازل مشيدة بإتقان، فيها الكثير من أسباب
الراحة والرفاهية وكانت مدنهم، تشتهر بحركة تجارية وصناعية نشطة.
وكانت هذه المدن على علم ومعرفة بالكتابة، ولها ديانة كما لها حكومة سياسية أيضاً،
لقد اقتبس أولئك العبرانيون السذج من مواطني المدن الكنعانية حضارة، لأنهم لم
يستطيعوا أن يعيشوا بمعزل عن أهل هذه المدن التي عجزوا عن فتحها.
وقد أحدث هذا الامتزاج تغيرات جوهرية في حياة العبرانيين، فترك بعضهم سكنى الخيام،
وشرعوا يبنون بيوتاً كبيوت الكنعانيين، وخلعوا عنهم الجلود التي كانوا يلبسونها
وهم في البادية، ولبسوا عوضاً عنها الثياب الكنعانية. هذا حال العبرانيين الذين
أقاموا في الشمال الخصيب، أما أولئك الذين أقاموا في الجنوب من فلسطين، فقد حافظوا
على أسلوب معيشتهم البدوية القديمة.
وذكر تاريخ بني إسرائيل في تلك الحقبة، أن منازعات داخلية كبيرة نشبت بين شاؤول
وداود وبين أسرتيهما، أما داود فقد حالف الفلسطينيين وعقد معهم حلفاً، والآخر أراد
أن يحصل على استقلاله بالقوة، الأمر الذي صعب عليه ومات مقهوراً.
ويدعي بعض اليهود أن المسجد الأقصى، قد أقيم على أنقاض الهيكل الذي بناه سليمان
بعدما أصبح ملكاً علي بني إسرائيل بعد موت أبيه داوود. غير أن هذا ليس صحيحاً،
فحتى هذه اللحظة لم يكتشف أي أثر يدل على بناء الهيكل في هذا المكان، أو في منطقة
القدس، وحتى هذه اللحظة لم يستطع أحد أن يحدد مكان مدينة داود. فكيف لليهود أن
يتحدثوا عن الهيكل؟.
ونذكر هنا أن مدينة القدس تعرضت لغزوات عديدة، كان أولها من قبل الكلدانيين، وقام
"نبوخد نصر" بسبي بعض اليهود المقيمين في أطراف المدن الكنعانية لرفضهم
دفع الجزية، فيما عرف بالسبي البابلي الأول. وتلاه غزو آخر عرف بالسبي البابلي
الثاني، بسبب انضمام بعض اليهود الرعاع إلى جملة المدن الثائرة على بابل، عام 586
ق.م، واقتاد عدداً منهم أسرى إلى بابل. وتلا ذلك الغزو الفارسي للمدينة سنة
539-538ق.م.
ومن ثم تعرضت المدينة للغزو اليوناني، عندما دخل الإسكندر المقدوني الكبير فلسطين
سنة 332 ق.م. وبعد ذلك دخلت الجيوش الرومانية القدس سنة 63 ق.م على يد "بوبي
بومبيوس" الذي عمل على تدميرها بعد أن تم دمج الأطراف الشرقية للبحر الأبيض
المتوسط في الإمبراطورية الرومانية. وفي هذه الأثناء عهد "بومبي" سورية
إلى أحد الموظفين الرومان البارزين وهو "غابينيوس" (57- 55 ق.م)، الذي
عمل على فرض ضرائب باهظة على السكان وتقسيم الدولة إلى خمسة أقاليم، يحكم كل منهما
مجلس، وأعاد "بوبي بومبيوس" بناء عدد من المدن اليونانية- السورية التي كان
المكابيون قد هدموها، مثل: السامرة، وبيسان، وغزة.
في تلك الفترة، شهدت روما حروباً أهلية، ودب الاضطراب في الدولة الرومانية كلها،
مما أدّى إلى انتقال هذه الاضطرابات إلى سورية، وأثناء تقسيم العالم الروماني من
قبل الحكومة الثلاثية، وأصبحت سورية ومصر والشرق تحت سلطة "أنطونيو"
المعروف بعلاقاته مع "كليوباترا" ملكة مصر.
وفي هذه الأثناء أهمل "أنطونيو"الأسرة الكابية، ووضع مكانها الأسرة
الهيرودية، وقد برز من هذه الأسرة "هيرودوس الكبير" عام 37 ق.م، الذي
أخذ "أورشليم" ووطد سلطته عليها، وبقى على الحكم ما يقارب الثلاثة
وثلاثين عاماً بدعم من روما. وكان "لهيرودس الكبير" فضل إعادة تعمير
مدينة القدس، وبناء بعض المرافق العامة. وتوفي هيرودس في عام 4 ق.م.
0 تعليقات