آخر الأخبار

تعميم رسائل القبح وسهولة القتل واستصناع "مجتمع الغابة"... لماذا!!

 




 

رأفت السويركي

 

 

حين كان إعلاميو "الصحافة الورقية" يبرزون الحرفية سابقاً في صياغة رسائلهم المطبوعة بصحفهم؛ فذلك كان لضرورات الترويج، وما يرتبط بها من استهداف الحصول على حصص مميزة من "كيكة الإعلانات" وسيلة لمواجهة أعباء الطباعة من تكلفة الورق والأحبار والأجور.

 

وعلى الرغم من هذه الضرورة الاقتصادوية الضاغطة؛ فإن الحفاظ على منظومة القيم الراقية كان قيِّماً على رُقيِّ الرسالة الإعلاموية؛ ومراقباً عليها من الانحراف والسقوط في مستنقع الغوغائوية؛ وترويج الخروج على نسق التربية المجتمعية المنضبطة.

 

والظاهرة الملفتة لمن يدرس نمط "الخطاب الإعلاموي الراهن" ومنظومات القيم المضمرة في متونه؛ سيلحظ حالة التضخم إلى حد السرطنة؛ التي تجعل هذا الخطاب متصفاً بالشعبوية الهابطة أخلاقوياً وتعبيرياً. و"اصطلاح الشعبوية" هنا دال على تراجع القيم النخبوية المفترضة من متعلمين ومثقفين وصناع رأي عام.

 

*****

 

حين تتحول المواقع المرتبطة بالمؤسسات الإعلاموية المتنوعة ـ من دون أن تدري ـ إلى مواقع لترويج الجريمة فذلك يحدث مع تركيزها المفرط في مواقعها الإليكترونية على بث أخبار "قطع الرؤوس" و"خنق الرقاب"؛ و"التمثيل بالجثث" و"الاغتصاب" و"شق الصدور" و"قطع الطرق. وهذه الحالة تمثل التعبير الجلي عما وصلت إليه حالة التردي الإعلاموي المتنوعة؛ في الوقت الذي يساندها في ذلك الإثم استمرار تركيز "القنوات التلفازوية" المتخصصة بالدراما على بث مسلسلات "الخيانة"؛ و"ترويج المخدرات" و"بيع الأجساد" و"عبارات التفاهة"؛ وتعظيم قيمة "جمع الملايين" للانتقال والمعيشة في بيئة الإقامة والسكنى بالقرى السياحية و"الكومباوندات". لذلك فهذه الأنماط خير دليل على حقيقة تحول نوعية نمذجة النخبة؛ وارتباطها بحالة الرأسمالية الطفيلوية المسيطرة على المجتمعات العربية؛ وشعبوية عقلها وخطابها.

 

*****

 

عندما يقوم فرد من الجمهور بتصوير واقعة جريمة معينة عبر "كاميرات الهواتف المحمولة"؛ ونشر الفيلم في فضاءات التواصل الاجتماعوي: "فيسبوك"، "تويتر"، "انستغرام"، "يوتيوب" فتلك مسلكية مُتغاضى عن ضبطها العاجل وفق قواعد هذه الوسائط حين الإرسال والبث؛ وعندما تتيقن الفرق الضابطة لهذه الوسائط من خطورة ما يجري بثه تقوم بحجبه؛ أو تعطيل ميزة مشاهدته لمن هو غير مالك الحساب نفسه؛ ولكن ذلك يحدث بعد أن تكون الملايين قد شاهدت كل تلك الكوارث واحتفظت بنسخ منها على هواتفها!!

 

والمؤسف في الأمر أن تتنافس المواقع الإعلاموية ذات الثقل في المهنة بالتقاط هذه الأخبار الخارجة والمساهمة في تعميمها؛ وهي بذلك ترتكب من الموبقات المهنوية الكثير؛ إذ تتناسى وظيفتها الاجتماعوية التربوية والتثقيفوية والسياسوية المفترضة؛ مدفوعة بالحصول على أرقام كبيرة من المشاهدة؛ ظناً أنها تساندها في الانتشار وتوسيع قواعد تلقي خطاباتها.

 

والعنصر الأخطر في هذه الظاهرة هو تمكن "الحالة المرضية" المرتبطة بقاعدة "الغاية تبرر الوسيلة" من المسلك المهنوي لهذه المواقع؛ إذ ستكون مُطَالَبَة ولاهثة دوماً للحصول على أخبار من هذه النوعيات الدالة على بعض الأمراض النفسانوية والاجتماعوية المنتشرة في شرائح شعبوية محددة. ولن يكون بالضرورة أمام هذه المواقع من كابح يَحُدُّ من لهاثها للحصول على أخبار القتل والسحل والإدمان والعنف الكريه الممارس بفردانية في الواقع لزوم تحقيق المقرؤية الواسعة وتضخم عدد المتابعين.

 

*****

 

إن قيام شخص شاهد في الطريق واقعة جرم معينة؛ ونشرها باعتبارها تمثل خروجاً على القانون والقواعد والأخلاق؛ فذلك لا يحقق لمن أشهره التعميم والانتشار المفرط إلاَّ بقدر عدد متابعيه ومتابعي متابعيه إذا قاموا بـ "الشيير" أو "الريتويت"... إلخ. لكن أن تقوم مواقع إعلاموية تتمتع بصك اعتمادها مصدراً للأخبار بإعادة نشر الحدث الخارج نفسه ـ وقلما يكون مرفقاً بما يوصف في المهنة بـ "المتابعة" ـ فتلك كارثة إعلاموية وسياسوية؛ تؤكد أنها تضحي بقواعد الالتزام بمعايير المجتمع لكي تكسب الهوية الشعبوية الفجة؛ فـــ :

** حين قام شاب مدمن لمخدر "الشابو" في مشهد مرعب ومقزز بذبح شخص آخر في الطريق بمدينة الإسماعيلية؛ ومشي ممسكاً برأس الضحية مفصولاً عن الجسد... هل يجوز إشهاره أكثر؟ وأليس ذلك يمثل حالة فردانية لا ينبغي جعلها بالتعميم نموذجاً للاقتداء بها بدافعية الانتقام لدى مغيبي الإدراك؟!

 

** وحين ارتكب مدمن مخدارات في "جرجا" بمحافظة سوهاج جريمة قتل ثلاثة شبان بالسلاح الناري... فهل يستحق ذلك الجرم الترويج الإخباري الكثيف حوله فقط كواقعة كما حدث؛ وهل لا يتوافر الوعي بالخشية من تعميم قيمة الانتقام لمن استطاع كمسلك فرداني يتحقق بتوافر الأسلحة غير المرخصة في سراديب المجتمع؟!

 

** وحين يجري إشهار جريمة مدمن لمخدر "الشابو" بمحافظة الفيوم قام بقتل عمته ونجلتها وزوجته وأبنائه الـ 6؛ ألا يحولها ذلك إلى حدث غير مدعم بالتحليل؛ ما يُقلل من الروادع المفترضة بمتابعة إعلاموية مسؤولة؛ ينبغي أن تهتم مع الإشهار للحدث بتفسير الوقائع وبناء موقف عام مضاد لها.

 

** وحين يجري إشهار واقعة مقتل طفلة عمرها 8 سنوات في "جرجا" من مجرم مدمن لمخدر "الشابو" ليسرق قرطها الذهبي وجرى القبض عليه؛ فهل ما نشر يمثل رادعاً لأمثاله ومن يمكن أن يسلك نهجه من مماثليه. إن إهمال ذلك الجانب يجعل من تنفيذ الجريمة حدثاً عادياً نتيجة تكرار الحالة (مدمن يقتل) والمدمن الذي يمثل بجثث ضحاياه !!

 

وهناك الكثير من مثل هذه الوقائع الخارجة التي تجد المواقع الإعلاموية متخمة بأخبارها؛ تتناقلها أحداثاً متتابعة من دون التوقف أمامها وتحليلها كعلامات لظواهر مستجدة غير مدروسة حين إشهارها بكثافة مريبة واقعة تلو واقعة؛ ولا تقوم أجهزة الإعلام بتوليد واستصناع رأي عام مضاد لها. وهي تستجيب للنمط المستحدث بنقل الجريمة من مربع "نمط الاستتار من فعلها" إلى مربع "نمط الاشهار والافتخار بتنفيذها"!!

 

بل هناك من تلك المواقع الإعلاموية من يسقط في فخ الترويج غير المقصود عبر "العنونة" المثيرة للأحداث الجرمية؛ باختيار عبارات قد تكون ضارة أكثر من فعاليات التحذير المستهدف حين تُسند لمتخصص؛ وعلى سبيل المثال القول ـ كما نُشر ـ أن "مخدر الشابو يمنح من يتعاطاه قوة عشرة رجال!" أليس ذلك يحقق ترويجاً لمخدر الشابو القاتل لدى من يسقطون من الشباب في فخ التجريب؛ وصاروا ضحية للإدمان وبالتالي جريمة القتل؟!

 

*****

 

إن التركيز على أنماط "الجريمة الفردانية" وإن تكررت قد يستصنع تصورات اجتماعوية بتعميم تلك الأحداث؛ على الرغم من انحسارها في مؤشرات محدودة لا تتناسب والعدد الإجمالي للسكان (أكثرمن مئة مليون نسمة)؛ وهي وإن كانت تمثل نوعيات مستجدة من الجرائم فإنها مماثلة في نمطويتها لما يحدث في العالم الآخر المشهور بالغرب؛ والذي تُشير إليه أجهزة الإعلام هناك إذا كان كارثياً في عدد الضحايا مثل واقعة (رجل يطلق الرصاص على الجمهور في مركز تسوق أنموذجاً)... إلخ!!

 

وبالتالي فإن أجهزة الإعلام المعتمدة ذات الوزن ينبغي وهي تتعامل مع أخبار الجرائم؛ أن توظف العقل الناقد بوعي لتفكيك الظواهر السلبية أكثر من تركيزها على الحدث؛ ونشر أخباره ليتجاوز نطاق وقوعه المحدود إلى الترويج المطلق عبر الفضاء الافتراضوي؛ وتخوصص اهتمامها حين الإعلام بتلك الظواهر عبر الاختصاصين؛ ممن يحيطون بكل ظاهرة وفق مناظير الرؤية الشاملة إليها نفسانوياً واجتماعوياً وثقافوياً وسياسوياً.

 

*****

 

ومن الضروري تغيير طبيعة الرؤية للواقع الاجتماعوي؛ فكما نتلهف على متابعة الظواهر السلبية بالقتل والتمثيل بالجثث؛ والاغتصاب وممارسة المسلك العصاباتي المستجد؛ فينبغي أن نمارس الخشية من أن تكون تلك الرؤية مصابة بـ "الحَوَل الإعلاموي" نتيجة التركيز على وجه واحد من المسألة؛ وتحرير الرؤية الجامدة من الركض حول أخبار الفضيحة والخروج على القانون إلى الركض للفوز بأخبار ذات قيمة بناءة.

 

ومن هذه النوعية أخبار المبتكرين والناجحين في الجامعات والمعامل والمؤسسات؛ وكافة مناشط الحياة السوية وهي كثيرة؛ وتركيز الاهتمام في المتابعة على دراسات إدراك تحولات نمط ارتكاب "الجريمة الجديدة" حتى وإن كانت فردانية؛ وكذلك إلقاء الأضواء بكثافة على الجهود الخاصة الناجحة بمكافحة الجريمة القديمة والجديدة؛ لإشاعة أجواء من الثقة في الواقع؛ بدل التركيز على السوداويات فقط مهما كانت مدهشة؛ لأنها تقدم الوسيلة للاقتداء بها لدى من انحرف عن الصواب.

 

وفي الوقت نفسه ليس معنى هذه الدعوة أن يكون الإعلام "ديماجوجيا"ً؛ أي يسعى لترويج الوعود غير الحقيقة وتشويه الحقائق الفعلية؛ ولكن يُساهم في بناء العقلية الجماهيروية الناقدة؛ والمتفكرة في مصداقية ما يُرسل إليها بوعي تبتنية وسائل الإعلام الوازنة؛ كأداة من أدوات الدولة الوطنية وهي تخوض مشروع إعادة بناء قدرات المجتمع وإنسانه؛ عقب تجاوز سيناريو هدمها بـ "الربيع العبروي المتصهين".

 

*****

 

إن إجهزة الإعلام المؤسساتية الوازنة... ينبغي أن تحذر الانجراف في بركة الإشهار الشعبوي غير المنضبط؛ بإعادة ترويج ما يُعمِّم رسائل القبح والتفاهة؛ واستسهال القتل واستصناع "مجتمع الغابة" من جديد؛ وترسيخ شعبويات إدمان مخدر "الشابو أو الآيس"؛ والذي يُفقد المجرم قدرته على التمييز؛ فيمارس قتل من يُزيِّن له الخَدَر قتله والتمثيل بجثته... وهو لا يرمش له جفن!!

 

إرسال تعليق

0 تعليقات