آخر الأخبار

النيل عاشقا رؤية لرواية النهر للدكتور سيد خميس

 

 



بهاء الصالحى

 

الحدوتة المصرية القادرة على بلورة الصراع بين الخير والشر ولكن فى إطار ومنظومة جديدة فى طرحها وهى محاولة كتابة أدبا مصريا تسيطر عليه المفردات المصرية ،ولكن الجديد في البناء القصصى هو أن يكون النيل ساردا بحكم شهوده الصامت لحركة الأحداث وصموده بحبة لكل محاولات اختطاف أبناءه من حوزته وكأن القاص قد استعان باللاهوت المصرى القديم ليؤكد ان ثقافة النيل مكتوب لها الخلود من خلال فلسفة الاستمرار والتعايش بدليل تعايش اللهجات فحماد وأهله ينطقون القاف جيما بينما لاينطقها فياض وأهله، علاوة على موافقة الأسماء لطبيعة الفيض النيلى، وكون النيل ساردا الشكل الحدوتة كأنما يعطى ايحائا باستمرارية حدوث تلك الأحداث وديمومتها ،وكذلك طبيعة المهن المختارة وكأنما هى صرخة من نهر متسامح عبر التاريخ إلى أبناء تركوا نظرهم الممتد إلى صحراء لا ترحم وبالتالى يتعدد التضمين الدلالى مساحة من المحطات المعرفية التى تلازم العقل المصرى على مستوى ادراكاته المختلفة للعالم ،على سبيل المثال إدراك المصرى حماد لمفهوم العشق الصوفى والتماهى مع العطاء المتدفق للنيل وذلك كما ورد فى صفحات ٩٣- ٩٤ – ٩٥ – ٢٩ .

 

وكذلك التضمين القائم على هجرة الفقراء إلى الشمال بحثا عن المال وذلك من خلال المثل الذى أورده فياض فى صفحة ١٣١ (ظراط الإبل ولاتسبيح السمك ) فعلى كراهة الأول ورقة الثانى الا أن الأموال تغفر مايسوء

 

الفانتازيا هنا فى كون النيل حابى العظيم ساردا وكأنه يقول لنا إن حكمة التاريخ التى صنعت إيزيس واسطورتها، قابلة للتكرار لأن العنصر البنائي واحد وهو ذلك النيل الذى صاغتنا يد الخالق من طينة مشرئبة بماءه متطلعة للخلود ،ويتوافق ذلك البناء الفنى مع البعد الفانتازي على مستوي صياغة اللغة وكذلك على مستوى الشكل حيث جاء الاهداء ( إلى القاطنين على ضفتى النهر من المنبع إلى المصب ، وكذلك جاء التصدير بنص فرعونى ( مرحي ياحعبي/ أنت يامن ظهرت على الأرض/ لكى تعطى الحياة إلى مصر / أنت يامن تأتى مستخفيا / لكى تعطى الحياة لكل ظمأن / سلام عليك/ يارب الخيرات )

 

طبيعة اللغة

 

تأتى اللغة فى الرواية على قدر الشكل الفانتازي باتخاذ السارد وهو حابى فى بداية الرواية ونهايتها وكذلك الجمل والمقاطع التقريرية التى ترد فى بدايات الفصول ومثال ذلك وكأننا فى اثنولوجية ثقافية يرصدها الكاتب لإضافة بعد معرفى لذلك العمل الروائي فيرد أحكام العروس بيدها على الخضاب ( الحناء ) رمزا لقطع اللحم الدامى، كما فعل ست بأخيه اوزوريس ولكن إيزيس فى رحلتها أمسكت بقطع اللحم تلك لتجمع شتات جثة زوجها ولعل حفيداتها يحيين ذلك الطقس وكأنهن يعلن ميثاق وفائها ورباطها المقدس مع زوجهاالموعود ، تلك اللمحة التى ساقها الروائي على لسان النيل فى صفحة ١٠٩ ولعل المقاربة اللونية بين الحناء والدم تشهد بذلك .

 

الزمن الروائي

 

الزمن الروائي واقع من حيث طبيعة المهن ومعاناتها الاقتصادية والاجتماعية خاصة مع ضعف الناتج الاقتصادى عن تلك المهن مما يؤكد على انتماء رائع لذلك الجنس الأدبى ولكن الماضى هنا ويتبدى من خلال صيرورة وقدم السارد وهو النيل الذى يثبت أن تكرارية الأحداث قد اكسبها نوعا من أسطورية الارتباط بطقس مكانى وهو النيل ، وهل الفقر مبرر للهجرة ام أن هناك ماهو اقوى من الفقر وهو الصبر والارتباط بقيمة كائنة داخل كل من تكونت حيثياته من ماء سلسال رمز للحياة .

 

التجنيس

بحكم ولوج الكاتب مناطق واقعية ولكنها شديدة المرارة وهنا يأتي مأزق اللغة ومواجهة ذلك الحياء المصطنع فى مواجهة الصراعات القدرية ،ولعل التقسيم الشكل للرواية من ثلاثة ابواب تنقسم لعدة فصول تحمل عناوين ثلاثة ( العشق – الانين - القدر ) والعنوان الثالث مرادف السيرورة وهنا تجمع الرواية ما بين الهدف الاخلاقى والهدف الموضوعى فالاخلاقى متمثلا فى فكرة البيئة الام القادرة على الاحتواء والرعاية بمعنى الحاضنة الاجتماعية ، أما الموضوعى فقد سرده الروائي فى وصفه لبيئة الصيد فى بحيرة المنزلة ، وكذلك ضيق الحالة الاقتصادية من خلال العيشة فى المراكب بالنسبة الصيادين مما كان سببا فى موت خيرية ام فياض ،ولعل القاص هنا تعكس برقي رداءة الوضع الجنسي للمرأة الفقيرة ، من خلال سلوك فتح الله مع بدر أو وهيبة من خلال عدة مصطلحات مجازية مثل:

 

فأستعر الجحيم بجسده ، وتأججت رغبته ، وفار ايره وإنساه الشيطان ذكر ربه وذلك فى صفحة ١٣٤ .

 

ولكنها كانت صغيرة تنتظر أوان فيضانها وذلك فى صفحة ٥٧ استعمال تلك اللغة المجازية لأن المتحدث هو النيل وطمث المرأة هو رمز الحياة وفى هذه الحالة تكون هبة اللغة درجة من درجات تقييم القاص حيث تعتبر اللغة مهارة ضرورية للتعبير عن المهارة الوصفية التى تعكس درجة التعقيد فى الحياة المعاصرة وتوصيفها بأداء يخلق حالة من الحافز لدى المتلقى ، هنا المهارة اللغوية تجعل الأسئلة الوجودية أشد قوة من خلال الدلالات التعبيرية للغة من خلال السياق اللغوى وتركيب الجمل ، ويتبدى ذلك فى استهلال بعض الفصول : من التقاء الطين بالماء وحين التقاء أليم الدافق بشاطئه الموعود ، وسكونه فى أعماق الرحم الخصيب ، تتجلى معجزة الخلق المتكررة منذ الأزل، وتسكن الأرواح أجسادها الفانية فى رحلة الحياة البشرية القصيرة ، حتى يتلاقى الألفاء وتتزاوج الأرواح من جديد لتستأنف رحلتها الأبدية....هناك فى عالم الخلود .

ما هى الحكمة من أيراد تلك المقدمات كوسيلة فنية ليتوافق عبر عقل المتلقى التسلسل الطبيعى للأحداث مع طرح النيل كمشارك طبيعى فى الأحداث حتى تأنسن وذلك ليستطيع الكاتب من خلال شكل جديد فى محتواه موغل فى اصالته أن يأنسن حابى شريك عمرنا .

 

يعطينا الكاتب قطعة من الأدب الرفيع كأنه يقدم لنا تحفة من الأدب اليوناني المعربة والفرق بين التعريب والتمصير كبير ففى الأولى بيئة جديد وأشخاص جدد كنوع من التأثر الحضارى الراقى بالنمط الفنى وهو نوع من الخبرة البشرية المشتركة أما التمصير فهو بيئة جديدة وأشخاص متشابهون، ومع علم المتلقي حول طبيعة العلاقة الأسطورية بين البشر والالهة عند اليونان حيث تصل إلى التزاوج والإنجاب والا فما بال هرقل وطبيعته المشتركة ،أما الطابع الاخلاقى للاهوت المصرى القديم فيعطى وضع الاحتواء والحماية من باب العشق الذات المحبوب على أنه مسؤول عن رعايته فيسعى لأسعاده كما فعل النيل فى ذلك الإطار الفانتازي للرواية:

 

لاتخافى يااجلال...ساحرسها لك واحرص على سلامتها ما استطعت ...بل ساهبها من فيضى قلبا بشريا يعشقها ويتوق بها ....وليكن اسمه مشتق من فيضى.... ليكن ....فياض ، ولكن ملامح الانسنة كملمح من ملامح الأداء الرومانسى وذلك على سبيل التقسيم المدرسى للرواية تتبدى فى :

 

لاتنزعجوا ... فلن افشى الأسرار ... فلن أفشى أى من الأسرار، ولن افضى بما لدى من دقائق الأخبار....فأنا على عهدى بكم وسأظل دوما حارسكم الأمين، ورغم ذلك مازال هناك بعض النسوة القرويات من يصررن على ورود مائي ...فتكشفن ....وذلك فى صفحة ٣٤ .

 

اللغة عند شديد خميس لغة عاشق مشبع بتاريخه قادر على أكساب ذلك التاريخ بعدا موضوعيا قادر على التفاعل من خلال واقعية أحداثه، ولكن الجديد فى فاعلية البطل / المكان وهو النيل ذلك الخالد الذى نتنفسه ونحيا به ويعيش من خلالنا ولا نستطيع تبرير وقوفنا امامه وعدم قدرتنا على سر بقاءه فتحول بقاءه عندنا إلى تسليم بقيمة لاتبرر وانما تعاش.

 

تلك مغامرة رائعة قادها إليها د سيد خميس ببراعة لغوية وسياق درامى جمع خلاله الصدق النفسى من خلال إعلانه حبه الغير مشروط لتاريخه ، وكذلك صدقه الفنى من خلال ابتكارها لشخصية النيل أبرز آيات التاريخ فى طرح انسانى أكسب الرواية جدتها وجديتها .

 

ولكن كيف يبدع الكاتب وكيف يتم بناء سياقه الموضوعى بناء على ذلك الطرح الروائي خاصة مع أيراده لقائمة المراجع التى قرأها كل يوثق تلك الإضافات الانثروبولجية التى أضافها كنوع من تأصيل لدور السارد كل يتحقق الصدق النفسى مع الصدق الموضوعى كى تتحقق الواقعية النفسية

 

هذه قراءة أولية لرواية تستحق أن تقرأ لقيمتها.

 

بهاء الصالحى القنايات نوفمبر ٢٠٢١

 

إرسال تعليق

0 تعليقات