رسالة النيل
أسئلة كثيرة مثارة حول الأصل العرقي لسكان مصر، هل هم أفارقة وأم
عرب أم بحر متوسط ؟
البعض يتحيز بأن مصر دولة عربية يغلب عليها العرق العربي بدليل أن
اللغة العربية هي اللغة الرسمية في حين المتحيزين للقومية المصرية يؤكدوا ان
المصريين ليست من العرب وأن العرب جاءوا عقب نزوح من اليمن وشمال الجزيرة العربية
لمصر فترة عهد الدولة الإسلامية والأموية ومابعدها..
والأقباط يؤكدوا إن مصر قبطية الأصل بدليل ترابط اللغة القبطية
بالهيروغليفية، ونرجع لنفس السؤال، ما هو الأصل العرقي للمصريين ؟
في عهود ماقبل التاريخ، حدثت هجرات من أماكن كنيرة بالعالم بحثا عن
المرعى و الصيد، مثلما حدثت هجرات من الهند لأوروبا ونتجت عنها شعوب كنير في أسيا
واروربا، ومثلها ما حدث من هجرات من وسط وشمال إفريقيا بعد تصحر الأراضي وتكون
الصحراء الكبرى، لوادي النيل وساحل إفريقيا الشمالي ونتج عنها شعوب إقليمية عايشة
في تلك المناطق إلى اليوم.
وفي وادي النيل ونظرا لوجود المرعى والماء واعتدال الجو، مما شجع كنير
على الاستقرار وعدم استكمال الهجرات لمكان آخر، فتكون ثلاثة شعوب قريبة من بعضوهم :
المصريين، والكوشيين (السودانيين)، والبجّا (شعوب أعالي النيل وهم
وفقا لعلماء الأنساب السلالات الحامية
نسبة لحام بن نوح عليهم السلام).
وكانت صحراء جنوب أسوان وشلالات النيل الأول والثاني والثالث حواجز
طبيعية ترسخت عبر السنين بين شمال وجنوب الوادي، كما أن صحراء وجبال الجهة الشرقية
وصحراء ووادي الرمال بالجهة الغربية شجع على زيادة تركيز السكان في ضفاف نهر النيل
.
وكذلك حدثت هجرات في عصور لاحقة من شعوب البحر سكان الجزر في البحر
المتوسط وجنوب أسيا الصغرى و اليونان الى منطقة شرق المتوسط (ساحل الشام) وشمال
مصر، سكنوا سواحل وأواسط الدلتا وانصهروا مع سكان الوادي اللي هاجروا من الصعيد
نحو الشمال عبر مئات بل ألاف السنين .
وحين قام التاريخ المصري فى ٣٥٠٠ ق.م وجدنا شعبين في الشمال
(الدلتا) ويعتبر خليط من الشعوب الحامية وسكان البحر المتوسط والجنوب (مصر العليا)
وأغلبه من سلالات حامية مثلما قلنا تم توحيدهم عبر حروب طويلة وقيام المملكة
المصرية الموحدة ذات التاج الأحمر والأبيض المعروفة في التاريخ المصري القديم
خلال العصور اللاحقة لعصر توحيد مصر في عهد الملك مينا (نارمر)
تقريبا ٣٢٠٠ ق.م لا تزال الهجرات مستمرة لكنها كونت شعوب أصبح من السهل تمييزها عن
المصريين أصحاب البلد الأصليين مثلما هو موثق في جدران مقبرة سيتي الأول .
تمييز بين الشعب المصري والكوشي (نوبي أو سوداني) والأشوري (سكان
الشام وشمال العراق) والليبي (سكان ساحل إفريقيا الشمالي برقة وطرابلس) بل
والأوربيين سكان آسيا الصغرى والجزر اليونانية وجنوب اليونان .
وكانت الطبقة الحاكمة في مصر غالبا ماتكون من حكام مصريين أبا عن
جد إلا فى فترات الاحتلال كما حدث أيام احتلال الهكسوس لمدة ١٥٠ عام فكانت الطبقة
الحاكمة من الأجانب وكمان في نهاية عصر الدولة الحديثة وبداية عصر الاضمحلال، تملك
العرش بعض الأسرات من أصل ليبي مثل الملك شيشنق وهؤلاء وإن كانوا أصلهم غير مصري
ألا أنهم ارتدوا الزي المصري وظهروا أمام الشعب بالصورة المصرية التقليدية
المعروفة من اجل الشرعية في الحكم والمطالبة بالعرش.
في العصر البطلمي حدث نزوح كبير لسكان جنوب اليونان لاستيطان
المملكة الجديدة في شمال مصر في ظل القيادة البطلمية اليونانية العرق والثقافة، مما
شجع شعوب آخرى للهجرة لمصر وسكن مدينة الإسكندرية اللي أسسها الأسكندر الأكبر في
٣٣٢ ق.م
وتم توسيعها أكثر من مرة في خلال العصر البطلمي. وسكن اليونانيين
مناطق عديدة في شمال الدلتا، في حين ظل الصعيد (مصر العليا) بعيد عن تأثير الثقافة
البطلمية من حيث اللغة والعادات والآداب والملابس والديانة، وظل محتفظ بصورته
المصرية القديمة إلى عصر دخول المسيحية في مطلع القرن الأول الميلادي .
وعلى الرغم من وقوع مصر في براثن الاحتلال الروماني لأكثر من ٦٠٠
عامأ ألا ان مصر كانت بالنسبة للرومان مجرد عبيد وأرضهم غنيمة، ولم تكن يوما ضمن
الأراضي الرومانية مثل أسيا الصغرى وبعد مناطق شمال سوريا مما ساعد المصريين أكثر
على الاحتفاظ بثقافتهم وهويتهم المصرية والخروج بها سليمة بعد فترة طويلة من الاحتلال
.
كما ان تقاليد الزواج لدى المصري والتى مازالت موجودة لغاية حتى
الآن، بمعني أن الفلاح المصري القديم لم يكن يتزوج الا مصرية من أجل الحفاظ على الأرض
والزراعة وارتباطه بالأرض ورفضه للهجرة باعتبار
أن خير الأرض المصرية من الصعب ان يجد مثيل له فى أى مكان كل هذا شكل هوية مصرية
خاصة جدا .
وبعد دخول العرب لمصر نشطت حركة الهجرة من شمال شبة الجزيرة
العربية (تبوك) وبعض مناطق في اليمن (عك وغافق) واستوطنوا منطقة الفسطاط ومنها
نزحوا في مراحل لاحقة لشمال ووسط وجنوب الصعيد. وقد ساهمت تللك الهجرات فى تغيير
التركيبة السكانية للمصريين بدخول العرق العربي وامتزاجه بالعرق المصري القديم والذى
احتفظ بنقائه تقريبا لآلاف السنين!.. وهذا التغيير كان اكثر وضوحا فى فترة الدولة
الفاطمية .
ومع استقلال مصر عن دولة الخلافة في بغداد في عصر الطولونيين
والأخشيديين ومابعدهم، نزح لمصر كثير من عائلات تركية وفارسية ومغربية وسودانية،
لأسباب عديدة سياسية أو للتجارة، وحافظت على هويتها بعض الشيء في مقابل الهوية
المصرية لأنهم كونوا طبقة أشبه بالنبلاء، ولكنهم تغيروا شيئا فشيئا حتى انصهروا في
البوتقة المصرية ودخلوا في التركيبة السكانية المصرية بنهايات العصر المملوكي
وبدايات العصر العثماني .
وقد سجل كتاب (المجتمع والاقتصاد في مصر وشرق المتوسط 1600: 1900)
تأليف أندريه ريموند، نزوح أكثر من 52 أسرة من بلاد المغرب العربي للاستيطان في
مصر، ولا تزال أسماء عائلاتها موجودة لليوم ولكنها طبعا ولبعد المسافة الزمنية
تخلت عن أصلها المغربي ودخلت ضمن التركيبة السكانية للشعب المصري. أهمها قبائل أولاد
علي الأحمر والتى استوطنت ساحل مصر الشمالي ومطروح وحتى السلوم، وما تزال تحتفظ بهويتها
العربية البدوية ولهجتها في الحديث. وتقبل المصريين كل من نزح عليهم بسلام وسكينة
وترحاب حتى يتم استيعابهم وانصهارهم فى داخل المجتمع المصرى .
وفي عصر محمد علي باشا وما بعده شهدت مصر نزوح من كثير من عائلات
واسر يونانية وايطالية ونمساوية ومجرية وغيرها هربت من الفقر و الحروب في بلادها
وجاءت للتجارة والتربح في بلاد ناشئة (وهذه كانت رؤيتهم لمصر) ومنهم تجارة الآثار والتى
نشطت جدا في أوروبا في ذلك الوقت، ومع بعد الفترة الزمنية دخلوا الأجانب ضمن
التركيبة السكانية للشعب المصري أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وان
كانوا حافظوا لحد كبير على هويتهم ولغاتهم وعاشوا في جاليات منغلقة عن المصريين
لغاية بعد قيام ثورة 1952 ونظرا لخوفهم من النظام المصري بعد الثورة فقرر جزء كبير
منهم العودة لبلاده الأصلية واللي فضل منهم عاش في هدوء و اندمج في المجتمع المصري
.
الخلاصة ان المصريين ليسوا عربا ولا أفارقة رغم وقوع مصر ضمن
القارة الأفريقية ...
فمصر كانت ومازالت بوتقة ينصهر كل من يقع فيها ليدخل ضمن خليط عجيب
من الصعب تمييز أصله وان كان متفردا عبر العصور.
0 تعليقات