آخر الأخبار

شعوب البحر و عام انهيار الحضارات (1) انهيار و نهاية العصر البرونزي 1177 ق. م

 



 

في عام ١١٧٧ق.م، غزَت مصرَ جماعاتٌ مُغِيرة، عُرفت باسم «شعوب البحر». تَمكن جيش الفرعون وأسطوله البحري من دحرهم، ولكن هذا النصر كلف مصر الكثير !!

 

فقد أضعفَتها الحرب و سرعان ما أخذت حضارتها في الاضمحلال ، كحال معظم الحضارات المحيطة بها.

 

بعد قرون من الازدهار، حلَّت نهاية مفاجئة وكارثية على عالم العصر البرونزي المتمدن؛ !! وسقطت الممالك كقِطع الدومينو في فترة لا تتجاوز بضعة عقود من الزمان ..

 

مُحيت من الوجود حضاراتُ المينويِّين والميسينيِّين، ولم يبقَ أثر للحيثيِّين، ولا البابليِّين !!

 

وفجأةً لم يَعد للاقتصاد المزدهر وجود في أواخر الألفية الثانية قبل الميلاد، واندثرت الحضارات التي كانت يومًا ما تمتد من اليونان إلى مصر وبلاد الرافدين، وزالت معها نُظُم الكتابة، والتكنولوجيا، والعمارة.

 

فهل يمكن أن تكون «شعوب البحر» وحدها هي المسئولة عن ذلك الانهيار الواسع المدى ؟و كيف حدث ذلك إذَن؟

 

شعوب البحر هم مجموعة من المهاجمين البحارة الذين غزوا المدن والقرى الساحلية لحوض البحر الأبيض المتوسط خلال الفترة ما بين (1276 - 1178 ق.م) ..وقد ركزوا جهودهم بصورة خاصة على مصر .

 

وتبقى أصول شعوب البحر غامضة خاصة وأن السجلات المتوفرة عن نشاطاتهم وهي بصورة أساسية مصادر مصرية تصفهم فقط ضمن مصطلحات المعارك مثل مسلة تانيس التي تذكر :

 

"لقد قدموا من البحر بسفنهم الحربية ولا يمكن لأحد الوقوف ضدهم".

👌 ويعد هذا الوصف في المصادر المصرية نموذجياً لهؤلاء الغزاة الغامضين.

 

👌 وهذا الاسم (شعوب البحر) أطلقه الأثريون ومؤرخو الشرق الأوسط القديم في القرن الـ 19 على هذه المجموعات المهاجمة .

 

أدت هجمات شعوب البحر إلى سقوط الإمبراطورية الحيثية وإضعاف المملكة المصرية الفرعونية لمدة طويلة، وتدمير العديد من مدن شرق المتوسط العامرة كأوغاريت مثلاً.

 

شعوب البحر وأهمهم بالستو سيطروا على أراض واسعة من الساحل الجنوبي لبلاد كنعان، تشيرُ عدّة نظريات إلى أن شعوب البحر هي قبائل فلسطينيّة استوطنت بلاد الإغريق وعادوا إلى وطنهم الأصلي فلسطين، بعد أن أسّسوا ممالك في اليونان، وكانوا أسلاف اليونانيين.

 

أقدم ذكر لشعوب البحر يعود إلى نهاية القرن الـ13 قبل الميلاد حيث يسرد الفرعون مرنبتاح قائمة من الشعوب التي انتصر عليها، من بينها « شعوب أجنبية تابعة للبحر » .

 

وبعد 20 سنة لاحقًا، يذكر الفرعون رمسيس الثالث هجوم آخر لهذه الشعوب على مصر ويفتخر بأنه انتصر عليهم بالرغم من قوّتهم التي أدت إلى هزيمة الحيثيين وشعوب أخرى.

 

و يشكّ بعض المؤرخين بمصداقية تقرير رمسيس الثالث، ويظنّون أنه نسبَ إلى نفسه انتصارات مرنبتاح.

 

يحكي لنا « إريك كلاين » هذه القصةَ التي تسلب الألباب؛ إنها قصةَ النهاية التي نتجت عن إخفاقات متعددة و متداخلة، من غزو وتمرُّد ؛ إلى زلازل وجفاف، وقَطْع لطرق التجارة الدولية.

 

صورة بانورامية أخَّاذة لإمبراطوريات العصر البرونزي المتأخر وشعوبه، و الصلات المعقدة التي بزغت منها تلك الحضارات، والتي كانت هي نفسها من أسباب تدميرها في نهاية المطاف ومجيء عصرٍ مظلم دام لقرون بعد قرون من الازدهار .

 

دخل هؤلاء المحاربون المشهد العالَمي وتحرَّكوا بسرعة، مخلِّفين في أعقابهم الموت والدمار .

 

يشير الباحثون المعاصرون إليهم جُملةً بمسمَّى « شعوب البحر »، لكن المصريين الذين سجلوا هجومهم على مصر لم يستخدموا هذا المصطلح أبدًا، بل حدِّدوا هويتهم باعتبارهم مجموعات منفصلة تعمل معًا :

 

الفلستيون، ▪والتجيكر، ▪والشيكليش، ▪والشاردانا، ▪والدانونا، ▪والويشيش؛

 

وهي أسماء أجنبية الوقع لأناس بملامح أجنبية.

 

👌 وبخلاف ما تُخبرنا به السجلات المصرية، فنحن لا نعرف عن هؤلاء الناس سوى القليل.

 

إننا لسنا متأكدين من المكان الذي جاءت منه شعوب البحر، ربما كان صقلية، وسردينيا، وإيطاليا، حسب إحدى الفرضيات، أو ربما منطقة إيجه أو غرب الأناضول، أو من المحتمل حتى أن يكونوا قد جاءوا من قبرص أو شرق المتوسط.

 

لم يُتعرَّف أبدًا على أي موقع قديم باعتباره مكان منشئِهم أو مغادرتهم.

 

إننا نعتقد أنهم كانوا يتنقَّلون باستمرار من موقع إلى آخر، آخذين في اجتياح البلاد والممالك أثناء مرورهم بها. وحسب النصوص المصرية، فإنهم أقاموا معسكرًا في سوريا قبل الاستمرار بحذاء ساحل منطقة كنعان (التي تتضمَّن أجزاءً من سوريا الحالية، ولبنان، و فلسطين) وإلى دلتا نيل مصر.

 

كان العام هو عام ١١٧٧ق.م، وكان العام الثامن لحكم الفرعون رمسيس الثالث.وحسب المصريِّين القدماء، وحسب أحدث الدلائل الأثرية، أتى بعض شعوب البحر عبر اليابسة، في حين أتى البعض الآخر عبر البحر.

 

لم يكن ثمَّة ملابس موحدة ولا أدوات عسكرية مُلمَّعة. تُصوِّر الرسومُ القديمة مجموعةً منهم بلباس رأس ذي ريش، بينما كانت ترتدي مجموعةٌ أخرى أغطية رأس من الجماجم؛ بل إن آخرين ارتدوا خوذاتٍ ذات قرون أو مضوا حاسري الرُّءوس.

 

وكان لبعضهم لحياتٌ قصيرةٌ مدبَّبةٌ وارتدوا إزارًا قصيرًا، وكانوا إما عراة الصدر وإما مرتدين سترة؛ وكان آخرون حليقي الوجه وارتدوا ملابس أطول، تكاد تُماثل التنانير.

 

👌 تشير هذه الملاحظات إلى أن شعوب البحر ضموا مجموعات متنوعة من مناطق جغرافية مختلفة وثقافات مختلفة.

 

لقد جاءوا، متسلِّحين بسيوف برونزية حادة، ورماح خشبية ذات رُءوس معدنية لامعة، وأقواس وسهام، في قوارب، ومركبات، وعربات تجرها الثيران، وعجلات حربية.

 

وعلى الرغم من أنني اتَّخذت من عام ١١٧٧ق.م تاريخًا محوريًّا، فإننا نعرف أن الغزاة جاءوا في موجات على مدى فترة طويلة من الزمن. وأحيانًا كان المحاربون يأتون بمفردهم، وفي أحيان أخرى كانوا يَصطحبُون معهم عائلاتهم.

 

حسب نقوش رمسيس، لم يكن بوسع أي بلد مجابهة هذه الجماعات البشرية الغازية. كانت المقاومة غير مجدية.

 

سقطت القوى العظمى في ذلك الوقت — الحيثيون، والميسينيون، والكنعانيون، والقبارصة، وآخرون — واحدةً تلو الأخرى.

 

فر بعض الناجين من المذابح؛ وتجمَّع آخرون في خرائب مدنهم التي كانت مجيدة يومًا ما؛ بل إن آخرين انضموا إلى الغزاة، فكثَّروا أعدادهم وزادوا من التعقيدات الواضحة لتكوين حَشدِ الغزاة.

 

كانت كل مجموعة من شعوب البحر ترتحل، فيما يبدو، لأسباب متفرِّدة لدى كل واحدة منها. ربما كان ما حفز البعض هو الرغبة في الغنائم أو العبيد؛ وربما أجبرت آخرين الضغوطُ الناجمة عن زيادة السكان على النزوح شرقًا من أراضيهم في الغرب.

 

كتب رمسيس بإيجاز على جدران معبده الجنائزي في مدينة هابو، بالقرب من وادي الملوك :

 

{ أعدَّت البلاد الأجنبية مؤامَرةً في جُزرها. وفجأة ودونما إنذار انتزعوا البلدان ودمَّروها في خضمِّ المعارك الحامية الوطيس. ولم يستطع أي بلد أن يَصمد في مواجهة جيوشهم، فاغتُصِبت البلدان بدءًا من خاتي، وكودي، وكركميش، وأرزاوا، وألشية وما بعدها دُفعةً واحدة. ...

 

لقد أقاموا معسكرهم في مكان واحد في عمورو، والتي قتلوا شعبها، وكان حال أرضها كحال أرضٍ خَرِبة لم يكن ثمَّة وجودٌ لبشرٍ عليها من قبل. كانوا آخذين في التقدُّم صوب مصر، بينما كانت النارُ مُعدةً لهم ....

 

كان تحالفُهم يتكوَّن من الفلستيين، والتجيكر، والشيكليش، والدانونا، والويشيش، والتي كانت بلدانهم متحدة. لقد احتلوا بلدانًا بقدر ما وصلت إليه أيديهم، وكانت قلوبهم واثقةً وموقنةً بالنصر. }

 

نعرف هذه الأماكن التي ورَد أنها اكتُسِحَت على يد الغزاة؛ إذ كانت مشهورة في العصور القديمة.

 

خاتي هي أرض الحيثيِّين، حيث يقع قلبها النابض على هضبة الأناضول (الاسم القديم لتركيا) الداخلية بالقرب من أنقرة الحالية وتمتدُّ إمبراطوريتها من ساحل بحر إيجه في الغرب إلى أراضي شمال سوريا في الشرق.

 

من المحتمَل أن تقع كودي في جنوب شرق تركيا حاليًّا (ربما إقليم كيزواتنا القديم).

 

كركميش هي موقع أثري معروف جرت فيه أول عملية تنقيب منذ قرن تقريبًا بواسطة فريق من علماء الآثار كان يضمُّ السير ليونارد وولي، الذي ربما يشتهر أكثر بعمليات التنقيب عن آثار النبي إبراهيم في «مدينة أور الكلدانيين» في العراق، وتي إي لورانس، الذي درس في جامعة أكسفورد ليكون عالم آثار في مجال الآثار اليونانية والرومانية قبل أن تُحوِّله أعماله البطولية في الحرب العالمية الأولى في نهاية المطاف إلى «لورانس العرب» الذي جسدت هوليوود شخصيته.

 

أرزاوا كانت أرضًا معروفة لدى الحيثيين؛ إذ كانت تقع في متناول أيديهم في منطقة غرب الأناضول.

 

ربما كانت ألشية هي ما نعرفه في يومِنا هذا باسم جزيرة قبرص، وهي جزيرة غنية بالمعادن تُشتهَر بخام النحاس. كانت عمورو تقع على ساحل شمال سوريا.

 

👌 سنُعاود الحديث عن كل هذه الأماكن، في الصفحات والقصص التالية.

 

المجموعات الست المنفصلة التي كوَّنت شعوب البحر أثناء هذه الموجة من الغزو، وهي المجموعات الخمس التي ذكَرَها رمسيس أعلاه في نقْش مدينة هابو بالإضافة إلى مجموعة سادسة، تُسمى بالشاردانا، والمذكورة في نقش آخر ذي صلة، أكثر إبهامًا من البلدان التي اجتيحت كما ورد. فلم تَترك نقوشًا خاصة بها ولذلك فالمصدر النصي الوحيد تقريبًا الذي نستمد معرفتنا عنها منه هو النقوش المصرية.

 

يَصعب أيضًا رصد معظم هذه المجموعات في السجلِّ الأثري، على الرغم من أن علماء الآثار والعلماء اللغويِّين ظلُّوا يبذلون محاولات شجاعة في هذا الإطار طوال شطر كبير من القرن الماضي، ... أولًا بإجراء بعض الألعاب اللغوية، وبعد ذلك، في فترة أحدث عهدًا، بتفحُّص الفخار والبقايا الأثرية الأخرى.

 

فعلى سبيل المثال، كان الدانونا معروفين منذ زمن بعيد على أنهم الدانانيون الذين أتى هوميروس على ذكرهم، والذين كانوا يعيشون في منطقة إيجه في العصر البرونزي.

 

وغالبًا ما يُفترض أن الشيكليش أتوا من جزيرة صقلية الحالية وأن الشاردانا أتوا من جزيرة سردينيا، استنادًا إلى أوجه التشابه بين الحروف الساكنة في كلٍّ من الحالتَين وإلى حقيقة أن رمسيس يشير إلى تلك «البلاد الأجنبية» بأنها تتآمَر «في جزرها»؛ إذ وُصِف الشاردانا تحديدًا في نقوش رمسيس بأنهم أتوا «من البحر».

 

ومع ذلك لا يقبل كل الباحثين هذه الاقتراحات، وتوجد مدرسة فكرية بكاملها تقترح أن شعبي الشيكليش والشاردانا لم يأتيا من غرب المتوسط، وإنما كانا من مناطق في شرق المتوسط وأنهما فرَّا فحسب إلى منطقتَي صقلية وسردينيا، ومنَحا اسمَيهما لهاتَين المنطقتَين، بعد هزيمتهم على يد المصريين.

 

ثمة حقيقة تدعم هذا الاحتمال وهي أن الشاردانا معروفون بأنهم قاتلوا مع وكذلك ضدَّ المصريين قبل ظهور شعوب البحر بوقت طويل. وتوجد حقيقة تتعارَض مع هذا الاحتمال؛ وهي أن رمسيس الثالث أخبَرَنا في وقتٍ لاحق أنه وَطَّن الناجين من القوات المهاجمة في مصر ذاتها.

 

من بين كل المجموعات الأجنبية النشطة في هذه الساحة في ذلك الوقت، لم يُحدَّد على نحو مؤكَّد سوى مجموعة واحدة فقط. فثمَّة قَبول عام أن الفلستيين من شعوب البحر ليسوا سوى الفِلَسْطِينِيِّينَ، الذين يُحدِّد الكتاب المقدس أنهم أتوا من جزيرة كريت.

 

وعلى ما يبدو أن التحديد اللغوي كان واضحًا للغاية، حتى إن جان-فرانسوا شامبليون، الذي فك الرموز الهيروغليفية المصرية، كان قد اقترح ذلك بالفعل قبل عام ١٨٣٦، وتحديد هوية أنماط فخارية معيَّنة، وعمارة، وبقايا مواد أخرى على أنها «فلسطينية» بدأ مبكرًا منذ عام ١٨٩٩، وذلك على يد علماء آثار الكتاب المقدس الذين كانوا يعملون في قرية تل الصافي التي حُدِّدَت هويتها على أنها مدينة جَتَّ التوراتية.

 

وبينما لا نعرف بأي قدر من الدقة أصول الغزاة أو دوافعهم، فإننا نعرف الأشكال التي كانوا يبدون عليها؛ فيُمكننا أن نرى أسماءهم ووجوههم محفورة على جدران معبد رمسيس الثالث الجنائزي في مدينة هابو.

 

يَزخر هذا الموقع الأثري القديم بكلٍّ من الرسوم وصفوف الكتابة الهيروغليفية المهيبة.

 

تظهر دروع الغزاة وأسلحتهم وملابسهم وقواربهم وعرباتهم التي تجرُّها الثيران المحمَّلة بالأغراض في الرسوم بوضوح تام، وبتفصيل كبير لدرجة أن الباحثين نشروا تحليلات للأفراد وحتى للقوارب المختلفة التي تظهر في المشاهد.

 

وتتَّسم صور بانورامية أخرى بأنها أغنى بالتفاصيل الحية. تُظهر واحدة من هذه الصور البانورامية الغرباء والمصريِّين وهم يخوضون معركة بحرية تعج بالهرج والمرج؛ فبعضهم طافون رأسًا على عقب ومن الواضح أنهم ميتون، بينما لا يزال آخرون يقاتلون بضراوة من قواربهم.

 

منذ عشرينيات القرن العشرين، أخذ علماء المصريات من معهد الدراسات الشرقية التابع لجامعة شيكاجو يَدرُسون نقوش ومشاهد مدينة هابو وينسخونها بدقة وحرص.

 

كان المعهد ولا يزال واحدًا من المراكز البحثية البارزة في العالم في دراسة الحضارات القديمة في مصر والشرق الأدنى.

 

وقد أسَّسه جيمس هنري بريستد لدى عودته من رحلة ملحمية عبر الشرق الأدنى في عامي ١٩١٩ و١٩٢٠، بخمسين ألف دولار كمبلغ مبدئي ممنوح من جون دي روكفلر الابن. وقام علماء الآثار التابعون لهذا المعهد بالتنقيب في كل أنحاء الشرق الأدنى، من إيران إلى مصر وما وراءهما.

 

 

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات